مواكبة الإصلاح الذي تعرفه المنظومة التعليمية ببلادنا، بات من الضروري تأطير و تحفيز أطر الإدارة التربوية من أجل ترسيخ آليات الحكامة الجيدة، و تجويدا للعملية التربوية التكوينية. ترى ما هي الوسائل القمينة بجعل الإدارة التربوية قاطرة أساسية لإنجاح أوراش إصلاح منظومة التربية و التكوين التي انخرط فيها المغرب منذ أزيد من عقد من الزمن؟ الإكراهات التي تواجهها الإدارة التربوية بالمدرسة المغربية : يعاني نظام الإدارة المغربية؛ بما في ذلك الإدارة التربوية من حالة الجمع بين التدبير الليبرالي الحديث، و بين الإحتفاظ بإرث الماضي : أي بالنظام الباترمونيالي التقليدي، القائم على نزعة تقديس و طاعة الموظفين للأوامر بدون نقاش أو نقد بناء.(4) و هذه البيروقراطية عرقلة و ليست عقلنة، باعتبار أن بعض الإدارات التربوية لازالت تقوم بإعادة إنتاج التسلط/السلطوية مما يولد العنف و العنف المضاد و يسبب في تنامي ظاهرة الهدر المدرسي. كما يعاني هذا المرفق التربوي الهام و الحيوي من النقص الكمي و النوعي في الموارد البشرية العاملة بمعية المديرين و من تعدد الإختصاصات و تداخلها بين مختلف المجالس المحدثة على صعيد المؤسسة التعليمية خصوصا مع تفعيل البرنامج الإستعجالي (مجلس التدبير، جمعية دعم مدرسة النجاح ...) و التي لا شك يجب إعادة النظر فيها بعد التخلي عن المخطط الإستعجالي! هذا، و تجدر الإشارة كذلك إلى اختلالات أخرى على رأسها ثقل المساطر الإدارية و تعقدها و ضعف التواصل بين مديري المؤسسات التعليمية من جهة، و بينهم و بين باقي الأطراف و الشركاء من جهة ثانية. كما أن مظاهر هذه الأزمة البنيوية تتجلى في جوانب ضعف مضمون الوظيفة لإقتصارها في أحايين كثيرة على المهام الإدارية المحضة و إغفال ما هو تربوي- بيداغوجي، بسبب تماهي القائمين عليها في تكرار نفس الأعمال يوميا مما يولد لدى غالبيتهم الرتابة و الروتين، أو قد يسقطهم في فخ الإذعان لأوامر "إدارة الظل" التي تعمل كلوبيات لتحقيق مصالحها فقط! و لعل أبرز الثغرات التي يسجلها أي ممارس بيداغوجي بهذا الصدد هي استمرار النظرة الفوقية في التدبير الإداري ببعض مؤسساتنا، و الذي يتضح جليا في التسيير العمودي و التعامل السلطوي في تدبير العلاقات و توزيع الأدوار و تلقي الأوامر، في وقت يجب فيه ترسيخ ثقافة إشراك "القيادة الجماعية" و الإنصاف و الإعتراف في الوسط المدرسي. و في ذات السياق أكدت بعض البحوث التربوية الميدانية أن الفكرة السائدة لدى بعض الإداريين هي ترك التلميذ يفعل ما يشاء؛ طالما لا يشتكي منه الأساتذة و لا يتشاجر مع زملائه، رغم أن هذه اللامبالاة تضر بمصلحة المتعلم الذي يراكم عدة ثغرات في المقرر الدراسي، مما يجعله غير قادر على مسايرة الوحدات التعليمية، و ينتهي به الأمر في نهاية السنة الدراسية إلى التكرار أو الفصل و كلاهما يعتبران هدرا مدرسيا.(5) كما سيساهم عدم الضبط الذي تعاني منه بعض المؤسسات نتيجة ارتفاع عدد المتعلمين و قلة الأطر الإدارية و التربوية، في تنامي ظواهر العنف و الفوضى داخل حرم المؤسسة، جراء إغراق الإدارة في التدبير اليومي على حساب المشروع التربوي الهادف و المرتكز على التدبير التشاركي المؤسساتي تنظيميا و إجرائيا و مساءلة و محاسبة و إنصافا. الإدارة التربوية و آفاق التأهيل : أية بدائل ممكنة؟ إن الإختلالات سالفة الذكر و غيرها التي وقف عليها تقرير المجلس الأعلى للتعليم سنة 2008،(6) فرضت على المغرب ضرورة تجديد و تطوير و تأهيل الإدارة المدرسية، بوضعها في قلب الإصلاحات التي يشهدها قطاع التربية و التكوين، و ضمن دائرة التفكير في التحديات التي يواجهها المجتمع المغربي، و من جملة مبادئ التطوير و التأهيل هاته؛ تغيير النظرة إلى العملية الإدارية، باعتبارها ليست مجرد تسيير للأعمال أو ممارسة للسلطة، بل هي عملية قيادية تخلق لدى العاملين في المؤسسة التعليمية، الحماس و الدافعية للتغيير، و تزرع لديهم الأمل بالمستقبل و الإيمان بإمكانية مساهمتهم في التخطيط للأمور المتعلقة بنموهم المهني، و تعني هذه العملية أيضا القدرة على المبادرة و الإبداع لإحداث التطوير و إدارة الجودة.(7) إذ لابد للإدارة المدرسية الحديثة من اعتماد مقاربة المشروع على كافة المستويات، لكون هذا المشروع يترجم الفلسفة القائلة : "عندما نريد إنجاز أي مشروع إصلاحي يجب أن نكون مع الناس لا فوقهم" و بتعبير أدق : لا قيمة لأي مشروع لا يترتب عنه أي مفعول في الواقع، مما يحتم على كل المعنيين بهذه القضية بلورة تدابير و مشاريع تراعي خصوصية كل منطقة. من هنا تتضح أهمية مشروع المؤسسة كبرنامج إرادي تطوعي "طموح" مؤلف من سلسلة من الأعمال التي تتمحور حول مشروع واحد، قد يستمر لمدة سنة أو أكثر (مثل برنامج الدعم التربوي)، الهدف منها الحصول على أفضل النتائج المتوقعة و الرفع من جودة التعليم بالمؤسسة. مشروع المؤسسة خطة منظمة و متناسقة يتعاون على تنفيذها فريق مشكل من أعضاء هيئة التدريس و الإدارة و أولياء التلاميذ و في بعض الحالات من التلاميذ و بعض المهنيين.(8) و من البدائل المقترحة لتأهيل الإدارة التربوية؛ توفير و تأهيل الموارد البشرية لهذا المرفق العمومي الهام مع تحسين أوضاع رجال و نساء الإدارة التربوية رمزيا و ماديا و قانونيا "مسألة الإطار!". و الدعوة إلى إشاعة ثقافة ربط الحقوق بالواجبات و دمقرطة العمل الإداري باعتماد المقاربة بالمشروع و بواسطة السيرورات و بتدبير النتائج، إضافة إلى تفعيل ربط المساءلة بالمحاسبة، و وضع المكافأة في متناول الجميع عبر وضع الفرد في المكان الملائم لكفاياته.(9) إضافة إلى ما سبق ذكره، فرهان الإصلاح يقتضي عدة أسئلة محرجة و مقلقة بخصوص إدارتنا المدرسية، و الأمل ألا تكون الإجابة المستقبلية عنها مزعجة !! فسؤال التكوينات لازال يطرح نفسه بإلحاح و تكنولوجيا المعلوميات و استثمارها على نحو أفضل و اكتساب أساليب تحليل سلوكات المتعلمين و ردود أفعالهم إزاء التعلمات و تجاه أطر المؤسسة و التأهيل الحقيقي للموارد البشرية (معرفيا و مهنيا)، لازالت من بين الإشكاليات التي تؤرق المهتمين بأوضاع التربية و التعليم بوطننا الحبيب. إن الغاية اليوم تقتضي التفاعل مع روح الإدارة التربوية، و تتطلب الإبتعاد عن السلطوية و القطع معها، و العمل في إطار تشاركي، يفسح فيه المجال لطرح الآراء و يحترم فيه الإختلاف، بهدف المساهمة الفعالة في تحقيق الأهداف التربوية و تشجيع الكفاءات لتحصيل المزيد من العطاء و الجودة؛ إنها حقا الفلسفة و الإستراتيجية التي اعتمدها الميثاق الوطني للتربية و التكوين ببلادنا و أرادها أن ترتقي إلى مستوى الإدارة التربوية الميدانية، التي يجب أن تفتح آفاق تأهيلها بالتكوين المستمر لأطرها و بتقنين آليات إسناد المناصب الإدارية (فتح مباراة ولوج الإدارة مع إجراء بحث تربوي بالمفهوم الحقيقي في إطار تراعى فيه الأقدمية العامة و التجربة و الخبرة و الكفاءة و الشواهد و الدبلومات ...). و ارتباطا بنفس الموضوع فالإنتقال إلى إدارة تربوية ديمقراطية منفتحة رهين بربط شراكات تربوية مع المجتمع المدني المحلي، بما يساير الخصوصيات الإقتصادية و الإجتماعية و الثقافية، و يلبي احتياجات المتعلمين و متطلبات أسرهم، و بالعمل الجماعي لحل المشكلات المدرسية بصورة تعاونية تساهم في خلق الثقة بين العاملين، ناهيكم عن ضرورة الإهتمام بذوي الحاجات الخاصة (الولوجيات – مراكز الإستماع و الإنصات ...) و بتحفيز جميع المتعلمين و المدرسين على حد سواء قصد الإندماج في العمل التربوي، و من أجل الإرتقاء بقدرات المؤسسة و أدائها و توفير المناخ الملائم لمواكبة المستجدات التربوية. و لعل ما تم ذكره يشكل النواة الأساس لمفهومي النجاعة و الجودة في التكوين و التربية، باعتبارهما رحى هذه المنظومة؛ الأمر الذي يفرض تجنيد مختلف الطاقات و الإمكانات للمؤسسة التربوية التكوينية، حتى يتسنى لها بذلك توفير الشروط الضرورية لضمان نجاعتها، و بالتالي توفير مناخ تتحقق فيه أعلى درجة من الجودة عند المتعلمين.(10) و لاشك أن هذه البدائل المقترحة المتواضعة، تصب في أسس و معايير الحكامة في التربية و التكوين، التي إن اعتمدت بالشكل المطلوب ستساهم في تحقيق التنمية في بلادنا، و بهذا الصدد نستحضر مقولة "جون ديوي": "إن التعليم هو المحرك الذي يدفع المجتمع"، و على أمل تحقيق هذه الأحلام نستشهد بحكمة "فيكتور هيجو": "ليس هناك شيء أفضل من الحلم لصناعة المستقبل". القيادة التربوية : أية أدوار و مواصفات لرئيس المؤسسة في نظام تربوي قيد الإصلاح؟ يعتبر المدير قائدا تربويا في مؤسسته؛ لذا عليه رسم علاقة وطيدة بين مدرسته و البيئة المحيطة بها، و الإستفادة من هذه العلاقة إلى أقصى درجة ممكنة لخدمة العمل التربوي.(11) فالمفهوم القديم للمدير أصبح متجاوزا إذ حل محله مفهوم الشريك و الصديق و القريب، سيما فيما يخص علاقة المدير بالمدرس مما يجعل المدرسة امتدادا حقيقيا للأسرة.(12) كما أصبح رئيس المؤسسة يستمد سلطته من كفاءته، و من ثقة العاملين معه، الذين لا يميز بينهم، و لا يترك مجالا للمتلقين و المتطفلين الراغبين في قضاء مآربهم ليس إلا!(13) بل أكثر من هذا فهو قائد يعمل على إعطاء مصداقية لعمل كل الفاعلين العاملين بمعيته، الذين يوجههم إلى تبني آليات التدبير التشاركي و احترام مداخل التعاقد و التدبير بالكفايات و قيم الموضوعية و التشخيص مع الإلتزام بتقديم الحساب بالنتائج (القيادة المبنية على معيار النتائج)، و يحثهم على العمل الجماعي و على الخلق و الإبداع : (لا يمكن للمرء أن يبدع و هو مسلوب الإرادة)، و يحذرهم من بعض الإنزلاقات كالتطاول على مهامه إلا ما يفوضه بنفسه و يراه إيجابيا للمؤسسة، و كذا من المحاباة من أجل إرضاء الخواطر، لأن هذا يتنافى مع أخلاقيات تخليق المرفق العمومي. إن الشخص الذي يحتل المرتبة القيادية كمدير/رئيس المؤسسة يجب أن يكون شخصا إيجابيا و مبادرا و عمليا و مبدعا و مجددا و مستشيرا و محفزا لموظفيه، و منصتا لمشاكلهم و زارعا للأمل فيهم، و بهذا الخصوص يقول "نابوليون بونابرت": (القائد هو تاجر الأمل) و بذات السياق يقول المثل الصيني : (قلب القائد كالبحر، لا يمكن اكتشاف شواطئه)، و كل هذه الأدوار و المواصفات لا تتحقق إلا بالرغبة الجامحة و المعرفة و الإلتزام بنظم القيادة كأسلوب حياة، ففي علم البرمجة اللغوية العصبية هناك افتراض بالغ الأهمية يقول : (إذا ما حقق شخص ما شيئا ما، فإن أي شخص آخر يستطيع تحقيق هذا الأمر، إذا التزم بفعل الشيء الصحيح ...).(14) وفق المنظور الجديد للقيادة التربوية، على رئيس المؤسسة المدرسية إيلاء أهمية كبيرة لمفهوم المكافأة الرمزية لموظفيه من أجل خلق ظروف سليمة و محفزة على العمل، فداخل جو إيجابي و شفاف يشعر مختلف الفاعلين بالرغبة في العمل و تحمل المسؤولية،(15) الشيء الذي لا يحصل في وسط فوضوي قائم على التفرقة و التمييز و الإنتقائية، فالأسلوب التحفيزي الإشراكي التشاركي هو كل ما ترتضيه جودة العمل التربوي كبدائل للإقلاع بالمدرسة العمومية و جعلها مشعة بالعلم و نابضة بالحياة (مدرسة الحياة). و ما دامت الإدارة التربوية بوابة للإصلاح المنشود، أصبح من الضروري العمل على صقل شخصية المدير الإداري/التربوي (التكوين الأساس و المستمر)، و صقل مواهبه و إثراء مؤهلاته، لجعله قادرا على عقلنة التنظيم الإداري، و ذلك بانفصاله – كفاعل في هذا التنظيم – نسبيا بذاتيته و تطلعاته و مصالحه عن الموقع أو المنصب الذي يشغله أي تحقيق الحياد، على حد تعبير "ماكس فيبر". و حتى لا نحمل الأطر الإدارية التربوية ما لا طاقة لها، يجب التأكيد على ضرورة تمتيع هذه الأطر بالإستقلالية اللازمة و تأهيلها باستمرار و تخفيف أعباء التوثيق عنها و تحسين أوضاعها، إن شئنا السير قدما إلى الأمام في برامجنا الإصلاحية لورش التربية و التكوين، إذ من الصعب جدا على رئيس مؤسسة بمفرده القيام بما سبق ذكره من أدوار ما لم يتم تزويده بأطقم إدارية تربوية كافية، تعمل تحت إشرافه في إطار التدبير التشاركي للمؤسسة المبني على متابعة تنفيذ الدروس و دروس الدعم و التقوية و دراسة نتائج المتعلمين، و كذا حالات التعثر و التأخر و رصد أسبابها و نتائجها و اقتراح وسائل علاجها، شأنها شأن العنف التربوي و تدبير الزمن المدرسي (مراعاة الدقة في وضع جداول الحصص)، و الحرص على وضع مشروع واضح المعالم للمؤسسة، زيادة على تقديم الدعم المدرسي للمحرومين و المعوزين من المتعلمين و المتعلمات، و ترشيد النفقات و توزيع الأدوار. و من أجل هذا كله، بات ضروريا تمكين الإداري من القدرة على استغلال تكنولوجيا المعلوميات في التحليل و التخطيط و البرمجة و المتابعة و التقييم و استخلاص النتائج و الخلاصات، و استغلالها كذلك في ابتكار صيغ تدبيرية جديدة و غير مسبوقة في إنتاج المعرفة الإدارية/التربوية، دون إغفال أهمية التواصل في هذا الشأن، إذ هناك إجماع بين علماء الإجتماع و النفس على أن سيادة التواصل داخل المؤسسات و بينها و بين شركائها، يفتح أمامها آفاق التطور و النهوض و يحسن بقدر كبير من أدائها و إنتاجيتها. و من الركائز الأساسية لإنجاح أدوار المدير الإعتماد على المقاربة التشاركية و التوجيه و الإرشاد و التنسيق و التنشيط و الإهتمام بإمكانيات و إنجازات الآخرين و الفهم الصحيح للإحتياجات النفسية و السوسيوتربوية للمتعلمين و المتعلمات، و الإيمان بثقافة تشجيع الإبداع لدى المدرسين و المتعلمين على حد سواء (في إطار المنافسة الشريفة طبعا)، مع تفعيل مشاريع أخرى لا تقل أهمية كالإهتمام بذوي الإحتياجات الخاصة (الولوجيات)، و إعادة المفصولين و المطرودين و المنقطعين (برنامج من الطفل إلى الطفل)، و تفعيل النظام الداخلي للمؤسسة و مجالسها و الأندية التربوية بها. إن اعتماد هذه الديناميكية القائمة على المقاربة بالمشروع و غيرها من المقاربات الأخرى، في التوجه الجديد للإدارة التربوية، يساهم في إنجاح الحكامة الرشيدة في قطاع التربية و التكوين. * باحث تربوي و ممارس بيداغوجي /عين عودة نيابة الصخيراتتمارة*