كان مسعود من السابقة إلى الحيِّ، وهو رجلٌ شارف السبعين من العمر، حمل معه حصانه الذي بِلَوْن الأرض، لم يُفرّط فيه تحت أي طارئ وظلَّ يرعاه ويأنس به في تلك الأيام. كُلّما تسلّلتُ إلى بيته وجدْتُه يقتعد مصطبة من التبن يمسح غُرَّتَه بتؤدة وعَيْنُه في عين الحصان وهما تدمعان، وراعني أن أقرأ من انعكاس ضوء الشمس عليهما قصّةَ الحب المثلوم. كان يقول لي: - لم أجد شَيْئًا أقسى على الإنسان الذي واطأ الصهوة ثلاثين عامًا، ومنها اشرأبَّ إلى أبعد الأقمار وشارفَ الغيمات والخلجان، أن ينزل عنها في ركن بارد من هذا العالم. ولا يكمل الحدث إلا بمشقّة كأنَّ نَصْلًا يشرق بحلقه. سمعت زوجته فاطنة وكانت امرأة حَصانًا وصاحبة مشورة بين النساء، تسأله: «لماذا لا تبيع الحصان وترتاح من هذه الحال؟». وكان لا يردُّ عليها، بل لا يرفع عينه إليها، فإنَّ سؤالًا كهذا يُؤْذيه في الصميم، ورُبّما انجرح معه شيءٌ عزيزٌ في داخله لا يعلمه إلا هو. ومرّةً جاء إليه سوّاق كارُّو يعرض عليه ثمنًا مُغْريًا لبيع الحصان، فردَّه على عقِبَيْه خاسئًا. يوم مَرِض مسعود بسبب نزلة برد تحوَّلت مع الوقت إلى حُمّى فاتكة، سمع البعض ممّنْ عادوه أنّ الحِصان يشحج، وزاد بعضهم أنّه ينوح مع امرأته بصوت غريب. أيّامًا بعد ذلك، يمرض الحصان بعلّة غامضة، فظهرت على جلده بثورٌ سوداء، وأخذ يصدر عنه شحيجٌ كأنّه ينبعث من أبعد الأغوار. رمى مسعود عنه لحاف المرض ونهض يلهث لمداواة حصانه والرِّفْق به. في آخر الليل، قبيل الفجر بنجمة بعيدة، مات الحصان. ولم يُصدِّق مسعود الأمر حتى جاءته امرأته وبعض ذويه يرفعونه عن الحصان الذي انبطح على الأرض بلا حراكٍ، بلا أملٍ في الصهيل لآخر مرّة. ساءت حال مسعود يَوْمًا على ظهر يوم حتّى جُنّ وخرج من البيت، وشُوهد في شارع المدينة الكبير يهذي باسم الحصان، وتداول الناس على نطاق واسع أنَّ مسعودًا كان من معتقلي الرأي السياسي، وأنّ الحصان ليس سوى اسمه الحركي. وكان الناس قد اعتادوا في تلك الأيام أن يصادفوا رِجالًا شُعْثًا مُهْمَلي اللباس لفظتهم سجون سنوات الرصاص، ومجانين لم يخْبُ جمر عيونهم شبيهين بأنبياء بلا رسالة. لكن الرصاص الذي أصاب بشظاياه مسعود بدا لي فوق الوصف. سأصف شَيْئًا من هذا الرصاص في أحد تعبيرات مادة الإنشاء، إلا أن المُدرِّس شكّك في ما حكيتُ واعتقد أنّه جردة من قصة فانطاستيكية ما، وكتب على هامش الورقة: «موضوع خارج السياق». وعندما أمرني بقراءته في حصة الدرس، لم يُصدِّق أترابي من التلاميذ أن مجنونًا يعيش بين ظُهْرانيهم، فاحترزوا منّي لبعض الوقت.