ولد شلوندورف في مدينة فيسبادن الألمانية، وانتقلت عائلته إلى فرنسا وهو في مراهقته، حيث تأثر شلوندورف بالمدارس الفرنسية الإخراجية وعمل مساعد مخرج لكثير من المخرجين الفرنسيين المشهورين، أبناء الموجة الجديدة التي تمردت على الاتجاهات السينمائية التقليدية أمثال لويس مال، وجان بيير ميلفيل وآلان ريزنيه. عاد شلوندورف إلى ألمانيا ليخرج فيلمه الأول «اضطرابات التلميذ تورليس» (حصل على سعفة مهرجان كان الذهبية عام 1966)، ومنذ هذا الفيلم بدا واضح تأثر شلوندورف بتيار السينما الألمانية الجديدة. ويعتبر فيلمه «الطبل الصفيح» (1975 ) عن رواية بالعنوان نفسه للروائي غونتر غراس، أنجح أفلامه على الصعيدين النقدي والجماهيري. فقد استغل المخرج المتمرد انشغال التيار الألماني السينمائي الجديد بألمانيا الواقعة تحت الحكم النازي، وضميره المؤرق بويلات الحرب العالمية الثانية والتي تسببت فيها ألمانيا، معبراً عن حالة التخبط التي عاشها المجتمع الألماني والفاشية المنتشرة بين أفراده، من خلال قصة أوسكار والذي يحصل على طبلة صفيح، كهدية عيد ميلاده الثالث ويقرر عندها ألا يكبر أبدا. الفيلم مأخوذ عن رواية غونتر غراس بنفس الاسم، وقد حقق نجاحا نقديا وجماهيريا كبيرا عند عرضه. ويعتبر فيلم موت بائع متجول ثاني أنجح أعماله، وهو مأخوذ عن مسرحية لآرثر ميلر ، وشارك في بطولته النجمان داستين هوفمان وجون مالكوفيتش. كما رشح شلوندورف لجائزة الإيمي عن إخراجه لهذا الفيلم بينما فاز هوفمان ومالكوفيتش بها لأدائهما الذي وصفه النقاد بأنه «أفضل ما يكون». وبعد مشوار طويل السينما، ومع إخراج الأفلام المتميزة، أخرج قبل أكثر من سنة، فيلم «دبلوماسية» 2014 ويحكي الفيلم عن واحد من أكثر الأحداث إثارة للجدل في تاريخ الحرب العالمية الثانية وهو رفض الجنرال ديتريتشفو نشوليتز تدمير العاصمة الفرنسية باريس بعدأن أمر هتلر بذلك في حالة اقتراب الحلفاء من الاستيلاء عليها. يمتاز أسلوب شلوندورف الإخراجي بالتحرر من الأساليب الإخراجية القديمة، وبالغوص في أعماق الشخصيات، كما يعتمد على السرد بصورة أساسية. في ما يلي الدرس السينمائي الذي ألقاه فولكر شلوندروف أمام جمهوره في مهرجان كان: لم أدرس في مدرسة للسينما، رغم أني حضّرت وأنا في ثانوية فولتير للدخول إلى المعهد العالي للدراسات السينمائىة ، بل نجحت في الامتحان، ولكن في الأسبوع نفسه، وبالصدفة، تمكنت من الحصول على تدريب عملي في فيلم وأصبحت مساعدا للمخرج، فضلت هذه الطريقة «العملية» والتقليدية للدخول إلى عالم السينما. كان لي أستاذان: أولا المكتبة السينمائية بباريس: ثم المساعدة في الإخراج في بداية الخمسينيات وبداية سنوات الستينيات في زمن الموجة الجديدة. كنا نذهب كل مساء إلى المكتبة السينمائية كما لو كنا نذهب إلى المعبد، كان الفيلم الأول يبث في السادسة مساء، والثاني في الساعة الثامنة، والثالث في الساعة العاشرة، كنا نذهب هناك دون أن نتعرف حتى على البرنامج. كانت المكتبة السينمائية الموجودة وقتها في «شارع أولم « عبارة عن قاعة صغيرة تسع ل 150 متفرجا، كان يرتادها جمهور من المعتادين ورغم أن المقاعد الخشبية الهزازة لم تكن محجوزة بأسماء محددة، فإن كل واحد من الجمهور كان يعرف مكانه. كنت في الغالب أجلس في الصف الأمامي يمينا وفي يدي ميكرو، لأنني حصلت بفضل لوث إيسنر على وظيفة مترجم فوري بالنسبة للأفلام غير المترجمة بالفرنسية على الشاشة، كان الأمر كذلك بالنسبة لبعض الأفلام الكلاسيكية مثل فيلم «أن تحيا» VIVRE لمخرجة كوروزاوا الذي كانت المكتبة تتوفر على نسخة أصلية له باليابانية مترجمة نصيا بالألمانية.. اضطررت لمشاهدته أكثر من 20 مرة، وأعتقد أنه أصبح فيلمي المفضل: تعودت عليه إلى درجة أنني لن أتمكن من العيش من دونه. خلال سنتين كنا نكتسب في المكتبة السينمائية ثقافة متينة تشمل حوالي 2000 فيلم، نصفها تقريبا أفلام صامتة، وهذه الأفلام الصامتة ظلت بالنسبة إلي وحتى اليوم النقطة المرجعية لكل أعمالي بطبيعة الحال، كان هناك كذلك أفلام بودوفكين وإيزنشتاين، وتتضمن المشاهد الكبرى التي يمكن أن نقول إنها هزت العالم؛ ففي فيلم «المدمرة بوتمكين» عندما يرفض البحارة تناول اللحم، ويتم استدعاء الطبيب، نتذكر وصوله كما لو أننا شاهدنا الفيلم أمس، هذا الإرث السينمائي الصامت أحب أن يصاحبني طيلة حياتي، بل اتفقنا مع مديرة مونتاج أفلامي سوزان بارون على قاعدة: قبل الذهاب إلى الميكساج نشاهد الفيلم بدون صوت لنرى هل الفيلم صالح لمشاهدة الصم، مثل فيلم صامت بالنسبة لفيلم «الطبل الصفيح» LE TAMBOUR أتذكر إحدى المشاهدات التي اكتشفنا فيها أننا نمسك بالخيط الصحيح. أستاذي الثاني كانت هي المساعدة لأنني اشتغلت مساعدا للمخرجين لويس مال، جان بيير ميلفيل وألان روزني. كان زمن المساعدة رائعا لأنني أعتبر أن خدمة الآخرين أمر ممتع وأن تكون في قلب الفيلم دون أي مسؤولية فيما يخص النتيجة النهائية، تعلمت منها قاعدة عدم الانسحاب قط، والتمسك دائما والاستمرار، مهما كانت الصعوبات التي تعترضك في الفيلم يمكن دائما أن نجد طريقة أخرى لإنجاز مشروع يبدو أنه فشل، ولكنه الشيء نفسه بالنسبة لتصوير مشهد أو بالنسبة لتعبير دقيق للممثل. فالفيلم هو توازن يتعين إيجاده بين العناد والغريزة التي يمكن أن تجعلك تنجح في في إنجاز بعض المشاهد كما تصورتها، ولذلك لا يجب أن تعتقد أنك بعد رصد طيلة ساعتين لمشهد معقد أن تحقيقه مستحيل فتقرر قطعه لإنجازه في ثلاث مرات، بل يجب على العكس الإصرار والنجاح في تصويره كما تريده، والقاعدة الأخرى التي تتعلمها وأنت تراقب المخرجين الآخرين هو أنهم كلهم جذابون، كل بطريقته. كما أنه هناك وسيلة أخرى للحصول على شيء ما من التقنيين والممثلين وبالتأكيد من الجمهور: لابد من إغوائهم، وعموما المخرجون ليسوا جميلين بشكل خاص، هم ليسوا شبانا من الأوائل، ومع ذلك على بلاطو التصوير هناك شيء ما يجعلهم دائما الأكثر جمالا، أو على الأقل الأكبر جاذبية، فالتصوير هو لعبة نرجسية تحول المخرج في اللحظة إلى كائن جذاب وعندما ينخرط هذا الأخير في اللعبة يصبح شخصا لا يقاوم، لن أنسى أبدا لويس مال LOUIS MALLE وهو ينزل من سيارة دوفين تحت برج إيفل خلال تصوير فيلم «زازي» ZAZIE وهو يلبس سترة حمراء اللون وسروال جنيز وهو يصل راقصا تقريبا إلى مكان التصوير. كنت هناك. مكان تسامحا لطيفا، وأنا أشاهده بأعين لامعة. باستثناء متعة الإغراء الخالصة، هناك ضرورة حقيقية بالنسبة للسينمائي بأن يكون حكواتيا، صحيح أن الجمهور لا يرى سوى الفيلم على الشاشة، لكنه يعلم جيدا أنه لابد من شخص «تحت الفيلم» يحكي له القصة، إن الجمهور يعي جيدا أن هناك هيتشكوك أو فيليني أو رونوار يحكي تلك القصة. وعندما يشاهد الفيلم، فإنه يرى بشكل ما صورة هذا الراوي.. هذا السينمائي، وربما أن الموقف الذي يتبناه هذا الأخير لتحديد أسلوبه غالبا ما يرتبط بهذه المكانة بالتحديد، لكن هذه الغواية لا علاقة لها بدور المروض الذي يحاول بعض السينمائيين ومخرجي الأوبرا أو رؤساء الأوركسترا تقمصه، أي دور مروض كوميدي من أجل الحصول منهم على أشياء خارقة. بالنسبة لي هذا الأسلوب هستيري. هناك شيء آخر مهم تجب معرفته عن السينمائيين وهو علاقتهم بالمال، مع جان بيير ميلفيل يتعلق الأمر بصناعة فيلم بأقل ما يمكن من المال، كان الفريق المصغر هاجسه وهو ما كلفه حربا مع النقابات في فرنسا، عندما اشتغلت معه سنة 1961، لأن ذلك كان يسير ضد الفريق المصغر من 21 شخصا، فمع هذا الفريق لا يمكنك أن تحصل على رخصة التصوير، وكان هو يصور بأقل من هذا العدد، وكان يمثل أمام القضاة. أمام المحكمة كان يمثل ميلفيل ويدرب العمال، وكان التصوير يتوقف لأسابيع. في النهاية لم يعد القاضي يطبق هذه المفاوضات والنقاشات وقال له: «ولكن في النهاية، قل لنا ماهو الحد الأدنى لفريق تصوير الفيلم في نظرك». «سيدي القاضي: شخصان: هنري داكاي مدير التصوير وأنا»، وهكذا ظهرت الموجة الجديدة من خلال هذا الجواب، فميلفيل وتصرفه الاقتصادي هو ما أعطى غودار وترونو ورومر وآخرين الشجاعة للتصوير فعلا بفرق تصوير من شخصين لا أكثر، على العكس من ذلك كان لويس مال يجسد الغنى، الفخامة، لاسيما فيما يخص الديكور حتى وإن كان لا يصل حد ملء القارورات بالعطر الحقيقي مثل فيسكونتي، كان يملؤها بالشاي لأن الفيلم لا يعطي رائحة حقيقية، ولكن بالنسبة له كان من المهم مثلا أن تكون هناك أرضية حقيقية تحاكي الرخام، لأنه لو كان رخاما حقيقيا، كما يقول، سيمشي الممثل بشكل مغاير والصوت سيكون مغايرا كذلك وكل الموقف على مكان التصوير، أتذكر في فيلم «حياة خاصة» VIE PRIVE، كان هناك صالون بأرضية من الرخام الحقيقي وسلم أدراج من الخشب، أنا الذي كنت قد انتهيت للتو من تصوير فيلم DODOS مع ميلفيل، حيث استعملنا سلم الدرج الدائم للأستوديو، وجدت نفسي مع مخرج أنفق عشرات الآلاف من الفرنكات من أجل بناء سلم أدراج لتصوير ثلاثة مشاهد، ومع ذلك لم يكن ذلك بدون فائدة لأن ذلك كان يغير ليس فقط ملامح الديكور بل أيضا تصرف كل واحد في موقع التصوير. في بعض المرات يتزايد الانتباه إلى العمل مع الأموال التي انفقت من أجل الفيلم وهو ما فهمه لويس مال، فبناء سلم أدراج خشبي ورخام حقيقي لم يكن مجرد نزوة لديه، بل وسيلة لشد انتباه فريقه وإبقائه دائم التركيز حول الفيلم وأنا لم أكن معنيا بالاختيار بين أسلوب لويس مال. اعتقد أنني محظوظ كمساعد لكوني تمكنت من ملاحظة طريقة كل واحد منهما في العمل. سأنتقل للحديث عن انتقالي للفعل، كنا في المكسيك لتصوير فيلم «عاش ماريا» VIVA MARIA سنة 1965 وهو رابع فيلم اشتغل فيه كمساعد للمخرج لويس مال، وذات يوم التفت نحوي وكنت انتقده وقال لي. «اسمع هذا يكفي يخيل لي أنني أمام قاض وليس مساعدا». كنت متفقا: كان انتقالا إلى الفعل وصنع أفلامي الخاصة بدل أن أقول للآخرين كيف يجب صنع أفلامهم. أحسست دائما بالفيلم الأول كاختيار حاسم. كنت أعلم تقريبا ، بعد هذا التعلم، كيفية صنع فيلم، ولكن لم تكن لدي أدنى فكرة عما سأفعل وأي قصة سأحكى؟ ما الذي يهمني؟ تذكرت وقتها سنوات قضيتها في الثانوية، والتي أثرت في بقوة دون أن تكون صادمة بشكل كلي، كنت من المولعين بروبير موزيل «اضطرابات التلميذ تورليس» وقرأت روايته الصغيرة التي كانت أحداثها تجري في ثانوية شبه عسكرية في النمسا في بداية القرن، وقد بنيت للتعبير رمزيا على صعود النازية. الرواية تحكي عن موازين القوة والسلطة بين التلاميذ ما بين 15 و16 سنة. أحسست على الفور باهتمام بهذه الشخصيات، كما لو كان ذلك ماعشته في الثانوية. أحببت أيضا فكرة أن يكون لفيلمي الأول علاقة بماضي الألماني. قبل شبابي الفرنسي (حصلت على الباكالوريا في كامبير ثم انتقلت للدراسة في ثانوية بباريس)، وبما أنه في فرنسا كانوا دائما يذكرونني بأصولي الجيرمانية على شاكلة «آه، هذا رد فعل ألماني صرف، إنه البروسي الذي بداخلك..» ومع اعتباري منتميا للسينما الفرنسية بحكم عملي كمساعد، كنت أعي جيدا أنني آت من مكان آخر، وإذا صنعت فيلما يجب أن يكون فيلما ألمانيا له علاقة قوية بالتاريخ الألماني، ولذلك في سنة 1966 قررت انجاز فيلم «اضطرابات التلميذ تورليس». الشيء المختلف عندما تصبح سينمائيا هو المسؤولية، وهذا يبدأ أولا بضرورة إيجاد المال. فضلا عن ضرورة إقناع وإثارة اعجاب، ليس فقط فريقا، بل مجموعة من المنتخبين. بالانجليزية يسمون ذلك من «بيع القصة»، أي أن تعرف مثلا كيف تقدم نفسك أمام منتج. في تلك الفترة كان مايزال هناك من يضع في فمه السيجار. في حالتي كان الأمر يتعلق بجنرال سابق في وحدة البانزر على الجبهة الروسية. حكيت له قصة الفيلم في ثلاثة أسطر، وكيف يمكن أن يعجب به الجمهور. في تلك اللحظة كان يتعين على الخصوص معرفة الحديث عن الفيلم الذي تريد انتاجه، أكثر من الحديث عن مشروعك الخاص، ولكن بما أنك لا تعرف منتجك المحتمل، ومن خلال حديثك عن الفيلم، تحس برد فعله وتتمادى. تبدأ في الحديث عن فيلم رائع، وبعد ذلك لن تعرف كيف تنجزه أساسا، لأنك لم تعد تتذكر ما قتله. وبالتالي ليست القصة التي تتحدث عنها هي التي ستقنع المنتج وتنتزع القرار. بل طاقتك. في موقع التصوير، تكتشف العمل مع الممثلين. وعموما لا شيء هيأك لذلك. فكل سينمائي مقبل، عليه أن يقضي سنة على الأقل في مدرسة للفن الدرامي أو معهد موسيقي أو غيره، كي يستطيع بعد ذلك العمل مع ممثلين. كان لابد من سنوات من العمل مع الممثلين، وبالتالي الكثير من الأخطاء قبل أن أفهم كيف يشتغل الممثل. بالنسبة لفيلم «تورليس» torless بما أنني لم أكن أعرف أي ممثل ألماني (عاش 10 سنوات في فرنسا، من 15 الى 25 سنة) أخذت اساسا هواة. وكنت مرتاحا أكثر في العمل مع هواة، لأنهم كانوا يجتهدون في تنفيذ بعض المشاهد، ولأنهم عندما ينجحون في ذلك، فهذا يرجع إلى شيء من الصدق فيهم، كما أنه ليس بوسعهم فعل غير ذلك. بينما الممثل المحترف الذي يصل إلى موقع التصوير ويقول للمخرج: «كيف تريد هذا المشهد؟» فهذا فظيع. يقترح عليك، بفرح، خمسة صيغ مختلفة، ولكن كيف لك أن تعرف الصحيحة؟ وعلى كل حال، لا أثق في أي منها، لكونه يستطيع تنفيذ خمسة صيغ مختلفة، وأيضا مقنعة، ولكنها ليست صادقة تماما. كل هذا يتطلب عملا طويلا من أجل معرفة الممثلين. بطبيعة الحال ميزة الممثلين المحترفين هو أن باستطاعتهم الذهاب أبعد، فهم يتحكمون في مشاعرهم. فالممثل، كيفما كان نوعه، بحاجة إلى أن تكون إلى جانبه وأمامه وأن تنظر إليه بانتباه. لا فائدة من أن تقول له أشياء كثيرة. فقط عليك الإنصات إليه. لابد أن يعوض المخرج القاعة التي ستشاهده فيما بعد، من خلال انتباهه إلى أبسط التفاصيل، وأن تقول له هذا صحيح، ولكن هذا خاطئ لأنه لا يتوفر على مرآة وكمخرج فأنت مرآته. لا يجب أن تتردد في تأكيد حضورك عندما ينفذ عمله. فهو بحاجة لذلك. فهو استعراضي ويريد أن تكون أنت من يراه. وهذا بالضبط هو شكل العلاقة التي يجب أن يقيمها المخرج مع ممثله. ويجب أيضا تشجيعه على السير بعيدا «حاول مرة أخرى، وبشكل آخر، ليس المشهد كما يجب تماما؟». يجب ألا تتخوف من جعله يكرر عمله عدة مرات. الأمر يبدو بديهيا، كنت أقول في نفسي، إنهم يعانون، ولا يجب تعذيبهم أكثر. هذا خطأ. يجب بالضرورة دفع العمل إلى أقصى حدوده. فالممثل نفسه يريد ذلك. في الولاياتالمتحدة مثلا، الأمور تسير إلى أبعد من ذلك، يكررون المشاهد أكثر من اوربا، وحتى قبل التصوير. إنها تجربة أجدها مفيدة جدا، لا سيما خلال اشتغالي مع دوستان هوفمان في فيلم «موت بائع متجول» سنة 1988 وواصلتها عند عودتي إلى أوربا: التمرين مع الممثلين من أسبوعين إلى ثلاثة قبل بداية التصوير. إنه تمرين مفيد لا يكلف كثيرا، فذلك يسمح للممثل بأن يُنْضِج الشخصية بداخله، ويسمح للمخرج بتغيير بعض المشاهد المحتملة في السيناريو. ذات مرة، أوقف دوستان هوفمان التصوير لأسبوعين لأنه «فقد الشخصية»! صحيح أن السينمائي فنان منعزل، في بعض الأحيان عبقري وقلق وغير مفهوم، ولكنه بالأساس رئيس فريق، ويُحكم عليه أساسا من خلال قدرته على تحفيز الفريق، أما شريكه الاساسي قهو مدير التصوير، لان جودة الصورة رهينة به، وكذلك الجو العام للفيلم ووتيرة التصوير، وأيضا علاقته بالممثلين الذين يحسون على الفور بمدى التفاهم بينكما. فمديرو التصوير الجيدون، أمثال سفين نيكفيست (الذي اشتغل مع بيرغمان وأيضا مع تاركوفسكي)، مستعدون للتصوير في أي وقت، في حين أن أغلبهم يكونون غير جاهزين في الوقت المناسب. والخطر هو أن يتسرب الفتور أثناء التصوير إلى الممثلين، إذ ستضيع وتيرة العمل أياما بكاملها. وظيفة مدير التصوير صعبة جدا. والممثلون يميلون الى البحث عن «مرآة» قدراتهم لدى التقنيين، خاصة عندما يكون المخرج مأخوذ كليا بتصويره. قال لي جان كارمي JEAN CARMET عندما كنا نصور فيلم «المزور» سنة 1981 «توي، ذلك الشخص صاحب اللحية، مساعد المصور الثاني، إنه رجل تجاربي، إنه يمثل جمهوري». سألته لماذا، فأجابني: «كلما وصلت إلى مكان التصوير، في أول يوم تصوير، احدد شخصا وأقول في ذاتي: هذا هو جمهوري، وبعد كل مشهد او خلال العمل، ذبك الشخص هو ما أراقب حتى وإن كان لا يعرف ذلك. وإذا لم اشد انتباهه، فهذا يعني أن شيئا ما ليس على ما يرام». فقلت له: «ورأيي أنا؟ أنا هنا لأقول لك إن كان العمل جيدا أم لا» ثم رد علي: «أفضل أن يكون لي حكمي الخاص» فمدراء التصوير إلى جانب إعطاء الصورة الصحيحة وإيجاد الضوء الملائم وإعطاء وتيرة للتصوير، يهتمون أيضا بمسألة اللون. فلكل فيلم خصوصيته. في الغالب، قبل التصوير نبحث عن لغة مشتركة، من خلال تصفح كتب رسامين وكتب صور. بالنسبة لفيلم «تورليس» تصفحنا الصور القديمة لأفلام ستروهان STROHEIN . هناك جودة معينة للأسود والأبيض، متناقضة جدا، والتي استعملتها مرة ثانية في فيلم LE COUPLE GRACE . في بعض الأحيان، كانت صورة واحدة كافية كنقطة مرجعية. فبالنسبة لفيلم «الطبل»، يتعلق الأمر برسام آخر هو «ليندس» LINDES والذي شكل لنا مرجعا. والده كان صانع ألعاب في نورمبيرغ، وكان ينجز لعبا من القصدير أو الحديد الأبيض مع بعض الالوان المثبتة عليها، كان هناك نوعية من الأزرق والأحمر، أعتبرها ممزوجة ومتداخلة مع عالم الطفولة. وهذا ما حاولنا إعادة كتابته. بشكل ممنهج في فيلم «الطبل» سواء في الديكورات أو في الملابس، أو في الصورة. وبما أن اللعب كانت مهمة جدا في الفيلم، مع شخصية أزنافور كبائع للعب، وجدنا بعض المغرمين بجمع سيارات قديمة مصنوعة من الحديد الأبيض وبعض القردة التي تضرب الطبل. حملنا صندوقا من هذه اللعب إلى موقع التصوير وكل صباح كنا نشاهدها ونحن نفكر أن نستلهم منها نموذجا مرئيا. المشكل الرئيسي في فيلم «الطبل» كان يتمثل في إعادة تجسيد تجربة ذلك الرجل الذي لا يريد أن يكبر ويبقي طفلا. فوسكار الصغير هو الراوي في الفيلم، ولكن السؤال هو: هل يجب أن تكون وجهة نظره هي وجهة نظر الفيلم. وجهة نظر عالم الكبار كما يراه طفل؟ هل كان يتعين وضع الكاميرا على مدى عين دفيد الممثل الذي يلعب دور أوسكار؟ بطبيعة الحال الجواب هو لا. كان يكفي طرح السؤال لمعرفة أنه كان بالإمكان أن يكون ذلك بشكل منهجي، لكنه سيكون ثقيلا جدا، وربما مملا، باستثناء اللحظات الحاسمة: إذن، هنا بالضبط يتعين وضع الكاميرا في مستوى نظر أوسكار، وربما أدنى، لكن نظرة أوسكار لعالم الكبار تتميز أكثر بحدتها أكثر من علو عين الكاميرا. الطفل يرى العالم كل يوم لأول مرة: هناك شيء ما فارق في صفاء الضوء في الألوان، وبالأخص في تصرفات الناس، وبالتالي فإن أفق الطفل رهين أيضا بلعب الممثل، وليس فقط بعمل الكاميرا. وأخيرا أريد ان أتحدث عن الموسيقى في أفلامي رغم أنني لم أعثر قط على موسيقى فيلم يمكن للجميع ترديدها عند الخروج من العرض. كما هو الشأن بالنسبة لفيلم «جيفاكو» jivago أو فيلم «رجل وامرأة» un homme et une femme . إنه حلم أي مخرج أن تكون له موسيقى مثل هذه، وذلك لا يحدث بالكاد سوى مرة واحدة في الحياة. ورغم انني اشتغلت مع مؤلفي موسيقى كبار منذ فيلم «اضطرابات التلميذ تورليس»، يتعلق الأمر بهانز ويرنر هنزي، المؤلف الموسيقي الكبير الذي لم يسبق له أن كتب موسيقى أفلام. المهم في الاشتغال معه هو أنه كان فضوليا ومنتبها جدا. قرأ السيناريو قبل التصوير، بل قال لي إن السيناريو ينقصه مشهد في النهاية.كان بحاجة ماسة إلى مشهد يسمح بتأليف ما نسميه في الموسيقى mondo أي تلك اللحظة التي تتشابك فيها كل تيمات الفيلم. كان على حق، السيناريو كان ينقصه هذا المشهد، وقد أضفته. إنه مثال جيدا على تأثير الموسيقى في الأفلام. وهذا المؤلف الموسيقي هو من دفعني فيما بعد إلى إخراج أوبرا، وهو ما أحببته كثيرا. والأهم في الاشغال مع مؤلف موسيقى، هو عندما يكون عليك ابتكار صور تتناسق مع الموسيقى المعدة مسبقا. عادة العكس هو ما يحصل: تقترح على المؤلف الفيلم بعد توضيبه وعليه أن يبتكر الموسيقى التي تتماشى مع الصور. هذا التنقل مثير للاهتمام وأعشق فعل ذلك.