عفوا صديقاتي الشواعر أصدقائي الشعراء، أنتم الذين صدحتم شعرا بكل اللغات في رحم أناشيد مياه إيموزار كندر بدعوة من جمعية «الفينيق للإبداع والتواصل». لقد حولتم المدينة، خلال يومي 25 و26 دجنبر الماضي، إلى تغريبة مجسدة للشعر مغربيا وأنتم توقدون الشمعة الرابعة عشرة في مسار المهرجان الشعري لإيموزار الذي زاده تألقا، تكريمه للشاعر المؤسس عبد الكريم الطبال. ومع ذلك اقبلوا اعتذاري. عفوا أمينة لمريني، عبد الناصر لقاح، جمال أزراغيد، محسن أخريف، إدريس أصراضي، المدعو سعيد عاهد، صباح بن داوود، جواد الخنيفي، مصطفى قلوشي، وعبد الحق بن رحمون، عبد الله عرفاوي والآخرين، كل الآخرين الذين أضفوا معنى على مقولة ابن الخطيب: «الشعر ما جنح... وكان شعرا على الإطلاق». عذرا إن أغفلتكم في هذه الورقة لأتوقف عند من قرأتم شعركم في حضرته وتكريما له بعد أن أمعنتم الإنصات لشدوه، عبد الكريم الطبال «أحد أهم الوجوه المشرقة في شعرنا المغربي الحديث، ومن الأسماء الأولى التي تصدرت المشهد الشعري»؛ فالتلال تنسحب إلى الخلف في حضرة الجبال الشامخة، منحنية إجلالا لها. ألتمس العذر أيضا من مجموعة «ولفة الغيوان» برئاسة مصطفى مشيش العلمي المحافظة على أناقة ونقاء الأغنية الغيوانية الأصيلة، والفنان الجميل في الإبداع والأداء والطرب مثلما في الحياة، جمال الكتامي، حارس أختام ما تبقى من الالتزام فنيا. وعفوا الصديق الإعلامي عبد العالي عصمت الذي أدار باقتدار لا يخلو من روح مرحة جل فعاليات المهرجان، وكل أعضاء جمعية «الفينيق» الذين لم يبخلوا جهدا لتكون الدورة في مستوى انتظارات المشاركين والطلبة الباحثين وكافة الحاضرين، إن لم أطل من هذه الشرفة إلا على الندوة النقدية المخصصة لقراءة المتن الشعري والمسار الحياتي لمشاء شفشاون والجلسة التكريمية له. في اللحظتين معا، عانقنا جداول وحدائق الطبال، عريس وشيخ شعراء الحداثة مغربيا وعربيا. عقب استهلال الندوة النقدية بمدخل أكاديمي نظري لمحمد القاسمي حول «آليات تحليل الخطاب»، اعتبره المتدخل، ومعه الحاضرون، توطئة للحديث عن شعرية المحتفى به، تناول محمد الگنوني «شعرية التوازي لدى عبد الكريم الطبال». إن تجربة الطبال من بين التجارب الشعرية المؤسسة، تجربة ترسخ هوية الشعر المغربي عبر التحديث من دون إغفال التأصيل. وهي تجربة متواصلة زمنيا ومتقاطعة إبداعيا، تجنح أحيانا إلى البساطة، لكن سمتها الغالبة تظل التكثيف بفعل التجريب والتجريد في نفس الآن. إن شعر الطبال، يقول الگنوني، «تعبير عن الفكر بأقل تكلفة لغوية»، والتوازي بنية فاعلة فيه تركيبيا وصوتيا ودلاليا، ما يولد خصوصيته البنائية. مسائلا «أفق الشعرية عند الطبال»، تناول محمد الشرقاني أحد أركان الشعرية المتعددة: اللغة التي كتب ويكتب بها صاحب «القبض على الماء». لغة الطبال لغة إشراقية، لغة استشراف للمستقبل، أو ليس «الشعراء أمراء الكلام، يصرفونه أنى شاؤوا، ويجوز لهم مالا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده...» حسب الفراهيدي؟ الشعر لدى الطبال، وفق الشرقاني، لي لعنق الكلمة الوضعية، تخط للكائن قصد معانقة الممكن الأبهى، يفتح ثقبا في جدار المستحيل، وفي جغرافيته يتحقق التمازج بين الذات والموضوع لبناء كتابة مغايرة ترصد الكائن وتستشرف الممكن. «لا يمكن العثور على شعرية الشاعر عادة إلا في شعره. لكن في حالة شاعرنا عبد الكريم الطبال توجد شاعريته أيضا في حياته وعيشه ومساراته . ذلك أن الشاعرية (نسبة إلى الشاعر) والشعرية (نسبة إلى الشعر) يتداخلان و يتمازجان فيما بينهما لديه إلى حد إبراز ما يسمى عند النقاد (أدباء وفلاسفة): البويسيس»، هكذا تحدث إدريس كثير عن شعرية الطبال الذي «تربت مثل هذه البويسيس كالخميرة في ذاته، ثم فيما بعد نضجت في شعره. لذات الشاعر مسار مليء باللقاءات والصدف الجميلة. التقى شعريا وبحكم الجوار الجغرافي والثقافي بأنطونويو ماتشادو وغارسيا لوركا وبابلو نيرودا...» والطبال من جهة أخرى، في نظر كثير، «نظير مالارمي .. شاعر يحلم بكتابة القصيدة النهائية والأخيرة...»، «وهو كذلك مثل رامبو بدأ قرض الشعر في الطفولة...» «عوليس الشاون»، وفق توصيف كثير للطبال، تأثر من الشعراء العرب بشعراء المهجر خاصة محمود طه وقبلهم بالمتنبي وابن الرومي وشعراء الأندلس ... أما حاصل هذه اللقاءات وهذه الصدف وهذه الشعريات وأخرى فقد أنتج «عند الشاعر ع. الكريم الطبال شعرية خاصة ومخصوصة» (أنظر النص الكامل للمداخلة ضمن الملحق الثقافي لعدد الجريدة ليوم 8 يناير الجاري). و من منجز «سليل بونج وبريفير» كما وسمه، توقف عزيز كوكاس طويلا عند ديوان «البستان» الذي يرجع إلى بداية التسعينيات، والذي كانت لغة الطبال الشعرية قد اختارت مع صدوره « الإنصات لإلى صوت عميق رصف له الحلم طريقا، ومن الكون المحيط موضوعا للتأمل... لغة تلتقط الأشياء لا الأثر، بكافة الحواس، لتغدو الكلمات كما لو كانت سابقة في الوجود عن الأشياء...». في «البستان»، أكد كوكاس، يظهر المكان والزمان ليس كمقولتين فارغتين، بل كمجال لتجلي الكينونة. ليس هناك غير الذات/الآخر، الإنسان/الطبيعة، كومن مجهوله أكثر من معلومه. والشاعر عبد الكريم الطبال يتكئ على لغة الحدوس، أخت طريق المتاه، سليلة الدهشة في حضرة الدوحة الشعرية، ومن هنا تغدو الإشارة عمق العبارة، تبتهج بالمنسي والبعيد، بما لا يرى في ما نراه، حيث الصمت وحده لا يدخل في الغياب. تعددت الشهادات حول مشاء الشاون الزرقاء، قبل أن يقول الطبال كلمته ويمضي إلى نخلته المنتقاة. إنه يسكن القلب والروح والعقل، إنسان كبير يكتب شعرا كبيرا وشاعر كبير لأنه إنسان كبير، تعلمت أجيال بأكملها الشعر منه (عبد الناصر لقاح). وهو مشاء تتولد القصيدة لديه من الخطوات، صداقته متينة مع الأشجار والجبال وعذوبة المياه، ومنه يشع الضوء والعمق والصفاء اللاينتهي، حين تلتقيه تلتقي القصيدة (جواد الخنيفي). لقد استطاع الطبال، بما حققه من تراكم استثنائي، أن ينشر قيم الجمال النبيلة، الحفر والتنقيب في إسرار القصيدة. وهو يسبك اللغة بدون تنميق أو تزويق، مفتتن بالشعر حد الذهول ويجتر مجرة من شعرية مغايرة (عبد الله عرفاوي). والطبال هو «الخيميَائي: سُاحِرُ غَرنَاطة». شاعر صائد لؤلؤ، وعاشق للجمال، شاعر كله شباب مفعم بالحيوية والنشاط والمرح، قصيدته في شباب دائم ومتجددة باستمرار، لما نقرأها نحس أنها مفتوحة على عوالم شاسعة وحيوات، وحينما نقرأها نشعر أن صورها قريبة منا بحركاتها وخيالها وإبداعها، فهي قصائد مشكلة من كائنات في غاية الصفاء الوجودي ( انظر رفقته كلمة المبدع عبد الحق بن رحمون). عبد الكريم الطبال، في كلمة مقتضبة وعميقة في اختتام المهرجان، قال إنه فعل مثل ما فعله في لقاء سابق: «حين كنت أستمع إليكم، كنت أتساءل: من هذا الذي يتحدثون عنه؟ أنا أقل من ذلك بقليل أو كثير. (...) من أنت؟ أنا الآن، كما أرى، أنظر إلى الخلف فأراني هناك، أخبط في الطريق، أقرأ في الأوراق وفي الحياة. أخبط في الطريق، والطريق طرق والمسلك مسالك. وأنا دائما أقرأ في الأوراق. (...) أنا الآن أبدأ. والآن، كلما شرعت في كتابة قصيدة، أقول هذه أول قصيدة أكتب».