يعتبر الكاتب المصري الراحل إدوار الخراط من أكثر الروائيين العرب تقليبا لسؤال الحب، وأبعدهم سبرا لأغواره وأبعاده المترامية. وقد أفرد لذلك معظم كتاباته الروائية والقصصية، من بينها ثلاثيته المأثورة: «رامة والتنين»، « الزمن الآخر» و» يقين العطش». وهو يكاد يشكل استثناء بين الروائيين العرب الذين عادة ما يشكل الحب في كتاباتهم أحد مكونات إبداعهم الروائي، وليس مكونها الأساس، أو مكونها اللاحم والجامع. لقد جعل الخراط من الحب موضوعا روائيا أثيرا، ومن علاقة العشق بين رجل وامرأة، مناط كتابته الروائية، تخييلا ومعرفة. إذ قارب من هذا المنظور الوجود الإنساني، باعتباره وجودا عاشقا ومحبا. لذا نأت الكتابة عنده عن المنحى الشائع الذي جعل من الحب بالأساس سؤالا اجتماعيا، وليس سؤالا وجوديا، يقتصر على استبطان التعارض بين الرغبة والقانون (الاجتماعي، الديني، الثقافي، العرف..)، بين الذات والجماعة، بين حرية الفرد وأعراف المجتمع ومواضعاته الخانقة. إذ لا يصطدم الحب عند شخصيات الخراط بالإكراه الاجتماعيإلا لماما، ولا يرتد عنفوانه كسيرا تحت وطأة القوانين الجماعية التي تكبح صبوته وتخمد وقدته. فالعاشقان (ميخائيل ورامة) يتفاعلان في سيرورة عارية وضارية، سيرورة لا تستند في اندفاقها وانسيابها لغير قدراتها الذاتية، وأمشاجها الحميمية، كي تولد التجاذب والتنابذ ، أوتفتق الوجود العاشق بما يكتنفه من نشوات وصبوات، ومن تباريح واختناقات. وتبعا لذلك، نزعت الكتابة عند الخراط إلى تحصيل معرفة روائية بالحب، تصبو إلى إدراك، هو على الدوام جانح ومتفلت، لكلية الحب أو لمطلقه l'absolu de l'amour، ومطاولة مختلف وضعياته وتجلياته، ومنتهى تناقضاته ومفارقاته. لذلك لم تكتف كتاباته بملامسة جانب محدد من جوانب الحب، بل حاولت ملامسة شتى منازعه، والدنو من مظاهره المتعددة، حسية أوشعورية، معتمة أو مضيئة، منصهرة أو منفصلة، زمنية أو لا زمنية، ذات أبعاد إنسانية أو مجاوزة للإنساني ...الخ. وبفضل هذا النزوع الشمولي ، جاوز طموح الخراط الاقتصار على إنتاج «رواية للحب»، نحو إنتاج «كتاب للحب»، بالمعنى الذي يجعل من الكتاب، مصهرا لكلية المعارف العاشقة. إذ بوسعنا أن تستشف في ما يكتبه الخراط أصداء الوله العاطفي الصوفي لابن الفارض، والشطح العاشق للجنيد. كما يمكن أن نتلمس الصور الأدبية المأثورة لدون جوان، ذو الأهواء المتقلبة (ميخائيل من منظور رامة، هو دون جوان مقلوب: « المرأة الواحدة، هي عندك كل نساء العالم، لا يرتوي ظمؤك»)، أو لدون كيشوط بحبه الفروسي الحامل لمعاني الوفاء («أحب دولسينا الواحدة ذات البهاء الخارق التي لا يضارع جمالها، ولا أصل إليها أبدا مهما كان الأمر»). وتطالعنا في كتاباته أيضا صور الحب، باعتباره تجربة قصية: فهو تارة هبة فادحة، و تارة أخرى، تبديد بحث للذات dépense de soi . إلى جانب ذلك، يبرز الحب تجربة نيئة ومتوحشة، زهرة برية أو «ريزوم»rhizome، بتعبير جيل دولوز (« حبه هذا زهرة ضخمة. عملاقة في الحقيقة. ولكن بلا جذور. زهرة شائكة ومتوحشة، نهمة وشرسة إلى العب من الحياة، لكنها تستقي ماءها من ذاتها مثل بعض النباتات الصحراوية»). كما يبرز الحب في بعده الرومانسي الحالم، لا ينال منه تبدل القيم أو تغير السلوكات. وفي أبعاد أخرى، يكون الحب مكت !ا بالشوق، ولافحا بالحنين واللوعة، أو يصير معناه زلقا ومحيرا، لا تستنفذه تأويلات المحب، ولا تضجره الهواجس باحتمالات تغير موقف الحبيب، أو يصير معناه ضاجا بآلام مبرحة (الشبيهة ب»آلام فرتر» لغوته) لا تطاق، ترى في الانتحار خلاصا وفي الموت شفاء. كما يتجلى الحب عند الخراط مدثرا برثاثة اليومي، أو منقوعا في نكد الخلافات الزوجية، ثم منكشفا في تعبيرات حسية صريحة تصدي الإيروتيكيات المأثورة عربيا وأجنبيا، بسورة انتشاءاتها المبددة للحواس، وبسطوعها الباهر الذي يدنو بها من الفناء والموت: فالتجربة الحسية لا تنفصل عن التجربة الصوفية، إذ عبر فورة الحواس، ونشوتها المسكرة، ينكشف للعاشق ما وراء الحسي، أي ما يجاوز الحواس ويتعداها، بما يدني الصوفية الحسية للخراط من «الصوفية المادية» لجورج باطاي. مقابل ذلك، لامس الخراط الحب في جانبه المعتم part maudite ، جانبه الكانباليالفتاك، كما لامسه باعتباره مجالا لاختبار الغيرية بملامحها المتراوحة بين قبول الآخر بشكل تام ومطلق، أوالنفور منه و الانفصال عنه. والحال أن هذا التوق إلى إدراك كلية الحب لا ينحو إلى تجميع معارفه المتفرقة، أو بناء موسوعة للعشق ومضارب الأهواء. فالخراط لا يحذوه أبدا نزوع تصنيفي من هذا القبيل، لأن ملامسته للحب ملامسة إشكالية، وليست أبدا موسوعية. فإمعانه في تقليب أوجه تجربة العشق، وسبر طبقاتها العميقة، وفرز تداخلاتها الرفيعة، يعود إلى أن الحب بالنسبة إليه سؤال إنساني ووجودي مثلوم، لا اكتمال له، ولا جواب نهائي عنه، سؤال مصيره أن يظل مفتوحا على الفرح واللوعة، على الانصهار بالآخر أو الانفصال عنه، مشرعا على الرومانتيكية الحالمة والواقعية الفجة، الكاسرة والخائبة، على سطوع الحواس وكبوتها، على الوضيع والسامي، على الحياة بنبضهاوعرامتها ، أو على الموت الرابض خلفا بمخالبهالمؤذية الفاتكة. بالتالي، تلوح تجربة الحب في كتابات الخراط، تجربة فاغرة، تنشد الكمال دون أن تناله، أو تدركه للحظة خاطفة قبل أن تفقده؛ تجربة تحمل في منتهى تحققها وتوحدها، بذرة الشقاق ونأمة التباعد وشبهة الانفصال. فالخراط يدنو من تجربة مفارقة، حوشية وجسدانية محضة، هي في الآن ذاته،حالمة ورومانتيكية ، تتوهج بحميا اللقاء وتخبو بفداحة الفراق؛ إنها إجمالا تجربة ترتقي إلى المعنى التراجيدي، لكونها تمثل مصهرا، لا يفصل حالات الفرح عن حالات الألم، ولا تمايز بين وضعيات الحياة والموت، النسبي والمطلق، المحسوس والمتعالي. لذا، لا يكتنف هذا الانفتاح على العشق المتعدد، رغبة في استعادة مجمل عناصر ضمن كلية جامعة، منسجمة ومتناغمة، ينحل فيها المختلف ويذوب فيها المتغاير. إنها بالأولى كلية تنطوي على المتناقض والمفارق، تتخلل عناصرها حركة تنافر دائب وتباعد دائم. إذ لا مجال من هذا المنظور للاستكانة، ولا منفذ للبرء أو الخلاص بتعبير الخراط. كما لا يمكن للعاشقين المغمورين بتباريح العشق ولواعج الصبابة، الانتهاء إلى انصهار كلي أو التحام نهائي، بما يطابق الصورة الميثولوجية للخنثى. من ثمة، يمكن القول إن لحمة العشق وتماسكها المفترض، يخترقها على الدوام انفصال كامن، انفصال لا يفضي برغم كل شيء إلى تبدد الأمل بالانصهار (إلغاء التوق المحموم له، أو تحققه اللحظي والأبدي في آن)، أو إلى استتباب دائم للفراق والانفصال (حتى وإن تم الانفصال وشط التباعد، فالمعشوق يظل يقيم في زمن آخر، لا يطوله الدثور، كما يقول الخراط). إلى ذلك، تنحو الكتابة عند الخراط عن العشق، بمواصفاته المتعددة، إلى إنتاج كتابة كلية، تتناسب ونشدان كلية العشق وإدراك مطلق الحب بالمعنى الذي حددناه، عبر تنويع كبير للسجلات اللغوية التي تطمح إلى قول هذه الكلية أو حكيها (سجلات حسية، سوريالية، صوفية، واقعية، فانتازية، حالمة، يومية، أسطورية، قدسية، عبثية، موسيقية..). وقد بدت الكتابة في هذا السياق، وهي تقول «موضوعها» وتحكيه، تقول في الوقت نفسه، ذاتها وتحكيها، بسبر طبقاتها المنضدة العريقة، والكشف عن آفاقها التعبيرية الثرة، واحتمالاتها الجمالية الخصبة، بل والمضي بها إلى تخومها القصية، حين يعن لها مبارحة وضعها اللفظي كي تصير رجعا موسيقيا بحثا. غير أن الكتابة بسعيها إلى إدراك كلية الحب ومطلقه، لا تلبث أن تصطبغ بدورها بمآل هذه الكلية المنشودة، و»تنفعل» بطبيعتها المنفغرة، ووضعها المثلوم والمصدوع، غير المكتمل. لذا يتخلق لدى قارئ هذه الكتابة انطباع بالتواتر، وبقراءة نص عاشق يعود بذات الرؤيا، مولدا باستمرار لصدع مكين، وانفلاق راسخ، ناحتا بلا كلل وتبعا لسياقات فريدة ووضعيات مخصوصة، في سرمد لا يلين، ومطلق لا يجيب.