أصدر الشاعر والروائي محمد الأشعري ديوانا شعريا جديدا (عن دار النهضة العربية- بيروت- لبنان 2011)، وسمه بعنوان « كتاب الشظايا»، يمثل محطة تكاد تكون مفصلية في مساره الشعري المديد (مسار بدأه منذ عام 1978، تاريخ صدور ديوانه «صهيل الخيل الجريحة»). وسنحاول تقديم هذا الكتاب الشعري من خلال ملامسة مقتضبة، لبعض الملامح التي بدت لنا فارقة، والتي ترتبط إجمالا بأبعاد متصلة بمفهوم الكتاب، وبمعنى القراءة، وبالذات، ذات الشاعر، وبالعلاقة الحسية والشعورية بالمرأة، وأخيرا، بأبعاد متصلة بالطبيعة والمكان. 1. القراءة، الكتاب، المعنى. * يختم محمد الأشعري ديوانه الجديد «كتاب الشظايا»، ويضعه في مركب يودعه موج البحر. يمضي المركب في رحلة لا أحد يعرف مآلها. قد يرسو على مرفأ آمن، أو قد تلعب به العواصف، فلا يجد موطئا للرسو، ليستمر تائها، شريدا. الأمر لا يعدو أن يكون استعارة لرحلة القصيدة مع مجهول القراءة، واحتمالاتها الغامضة: « سأستعير من البحر الذي يصخب عند قدمي مركبا لحروف أضعها في جزره المباغث وأغلق نفسي على نداء أعرف أنه سيكون عاتيا و لكن لا أعرف أين سيرسو ولا من سينحني لالتقاطه.....» * ينشغل الكتاب، إذن، بالمسافة التي تفصله عن مرافئ القراءة، وبالصدى الذي سيلقاه «النداء العاتي» الذي يرتج صاخبا وعاصفا، في أعطاف قصائده. بالتالي، لا تغمر الكتاب ،فحسب، مجاهيل عوالم شعره بل تغمره أيضا، احتمالات الإصغاء إلى صوته الناضب، ومآلات رحلته التي ستقوده، حتما، إلى مجاهيل القراءة. * يتبدى « كتاب الشظايا»، ديوانا مسترسلا، دافقا، لا تفصل بين قصائده عناوين أو تبويبات داخلية. ثمة فقط بياضات، ترسم بخفوت الانتقال من القصيدة ( لنسميها قصيدة بنظام الأسطر) إلى ما يمكن اعتباره قصائد نثرية. تنفتح القصائد الأولى على «خارج» متعدد ومختلف، تلامس فيه وفرة الوجود، بأبعاده الإنسانية والطبيعية، بل والكونية، فيما يرسم النثر الشعري «سيرة» بملامح غامضة، هي استقطار مكثف لتباريح حب دافق بالوجد الشفيف وبفورة الحواس واشتعالها، بخفوتها أيضا، و كبوتها وانطفائها . * ولعل اختيار مفهوم الكتاب، تجنيسا للديوان الشعري، يعد من جهة أولى، تأشيرا على كتابة تختار الإقامة خارج تصنيفات الأجناس، فيما تنزع صفة « الشظايا» عن الكتاب شبهة المعنى الميتافزيقي، معنى التأسيس لكلام أول، ولكلية متعالية ترفل في بداهة الانسجام وهناء الاكتمال. بخلاف ذلك، يكون «كتاب الشظايا» موطنا قلقا للجزيئات المنفصلة عن المجموعات المتراصة والكليات الصلدة، وهي الجزيئات الناصلة، الناتجة عن انفلاق يصيب المتحد، يحزه أو يكسره، يحيله شتاتا وذؤابات منطفئة، أوحامية ولاسعة. * من جانب آخر، تقف الكتابة في الكتاب، على العلاقة العصية بين الكلمات والأشياء. فهي لا تجد، في كثير من الأحيان، أسماء بعينها كي تسمي اللامسمى : « لماذا يكون علي أن أخلق كلمات لأشياء لا تخلقها الكلمات. أحب كثيرا هذه الحمى القاتلة. ما اسم رعشتها. ما اسم ألوانها التي تسبح في عرقي، ما اسم هذه اليقظة المستحيلة (...) أحب كثيرا هذه الحيرة الشفيفة، حيث لا يقين ولا شك، ما اسم هذه البدائية التي تجعل كلانا يتأمل الآخر غير مكترث بمفاتنه المذعنة، ما اسم هذا الشذى مترسبا في نفور الروح، ما اسم هذه الهاوية، ما اسم هذه الجنة التي تجعلك رشيقا، تمر بين حبات المطردون أن تعرف أين تمضي...وتجعلك سعيدا لأنك لا تعرف. لماذا لا توجد لغة لهذه السكينة.بينما العالم لا يكف عن الثرثرة.» يضع القول الشعري نفسه، إذن، على تخوم اللامسمى، وهو يثابر لتسمية أشياء لم تدركها اللغة بعد، ولم تعبر إلى مكامنها الصامتة. من ثم، يمكن القول أن شعرية الكتاب، تضع الكتابة على حرف اللامسمى، أو على مجهول العالم الذي ينتظر من يسميه. فتكون الكتابة، من هذا المنظور، عراكا مفتوحا مع العالم كي تنتزع منه لغة بكرا، ليست حصرا، عراكا مع ذاتها كما كرست ذلك شعريات معاصرة لا ترى للقصيدة أفقا آخر غير أفق ذاتها. 2. تباريح العلاقة بالمرأة * تنتدب الذات، ذات الكتاب، أو ذات الشعر، لنفسها إقامة القلق والارتجاج والعصف المكين، ولا تستكين إلى الشعور الرغيد بالأمان: « وربما احتجت فقط إلى إقناع نفسي بضرورة البقاء في عين العاصفة لأن الأمان يجعلني مترنحا» . * فهي تكون في الغالب، سواء انغمرت في تجارب وجودية، أوجدانية، أوحسية، عرضة لانفلاقات وانفصالات. تتكثف تجربتها الحسية بسطوع الحواس واشتعالها اللاهب. لذا، تتواتر الصور والمجازات والاستعارات التي تجعل فعل التجاسد بين رجل وامرأة، قدحا لجمرات هاجعة، أو تفجيرا لبراكين خامدة: « في مكمن ما من جسدك، تختبئ البراكين التي انطفأت في هدأة الليل. أتذكر الآن لهب اندفاعاتها، محملة برماد كثيف، وبيقظة حارقة، أتذكر أنني كنت ممددا، ويعبرني نهرها الناري، بينما تغلي الينابيع التي صعدت بها حالما، لأسكبها على عطشك، وها هيا الآن تنظر إلينا من مكمنها، وتتأمل العري الذي يجمعنا في رماد متجمد، لا تظهر منه سوى أطرافنا الذائبة، ربما حركت رموشك في لحظة ما، فهبت ريح صغيرة، وانشطر الرماد لتخرج منه صرخة مؤجلة منذ حريق البارحة، وربما تذكرت يدي، فالتهبت بفكرة عبورها إلى عريك، من يعرف؟ من يعرف متى تستفيق البراكين». * تلتقط القصيدة حالات التجاسد، ليس فقط حين تشتعل بفورة الحواس، بل حين يكتنفها أيضا الشعور بالعادة، أو بالخواء، أوحين تخلو من الرقة، فتصاب بعطل مفاجئ، قبل أن تهوي في فراغ سحيق: « أعود مرة أخرى لحزة الاقتضاب الشديد، تلك التي سبقت عرينا، ولم تدع مجالا للتأكد من وجود ما يكفي من الرقة لتحليقنا، وأعود مرة أخرى إلى تلك الفورة التي لوت عنق الرغبة، وانتزعت منك ما يشبه شهقة ميتة. لم يكن في الحبكة خلل، ولم يشر أي ضوء إلى هبوط مفاجئ، أو إلى عطل في الأجنحة. كان كل شئ سريعا.... ثم صار كل شيء خاويا». * لا تستقر الصلة بالمرأة، إذن، على استواءات آمنة، بل تظل في كثير من مظاهرها متوترة ونافرة، تتأرجح على سلالم الشهوة الصاعدة، وعلى مهاوي الانكسار والخفوت، قبل أن تنتهي، وعلى حين غرة، إلى انفصال بارد وموجع. وقد يحدث لهذا الانفصال أن يحتدم بصورة الموت والقتل، صورة لا تخلو من دعابة سوداء، تستعير، أحيانا، الأجواء المصاحبة لاقتراف الجريمة: « لن يحدث الشئ الذي توقعه منتصف الليل، لا فجر ينشأ على أنقاض ليل لم نخرجه من حقيبة السفر، ولا ضوء سيغمر فجأة هديل الحمام، نامي كما يليق بامرأة فقدت حذاءها في المعركة، سيأتي دائما من يشك باستمرارنا على قيد الحياة. (...) تتسلل إلى أجسادنا أصابع الطبيب الشرعي ونظرات مفتش الشرطة، ودبيب يقظة مستحيلة، وتسمع سيدة تقول شيئا عن العري والخدوش التي ما زالت نازفة، ثم تحس بمرور غطاء ناعم على تنفسنا قبل أن يداهمنا البرد في ثلاجة الموتى أو في سرير بلا شمس» . أو قد يحدث له- أي الانفصال- أن يتأسى بمشاهد الفقد التي يخلف وراءه، بالأصابع التي أصبحت عاطلة، والشفاه التي أضحت متشققة، وبالسوناتا والناي اللذين ضاعا في نأي الفراق. 3. ثلم الذات. * أما الذات، في الكتاب، فهي كائن منفلق، ملئ بالثلم والكسور: « وأثناء ذلك سيفتح الفجر نافذة في صدره ويجلس على حافتها شخصا نحيفا يواصل معجزة الحياة غير عابئ بالكسور الكثيرة التي في نظرته». إنها ذات تقيم، في المفاوز والمتاهات. تعثر على صورتها، أو على بعض من ذاتها، منثورا في البقايا والأشياء المهملة، في الأشياء التي يخلفها البحر، مثلا، وراءه: جرة مثلومة، حجر محفور، قنينة غطتها الطحالب، وهي تهفو، إلى جانب ذلك، إلى السكينة، تراودها، وتنحو إلى أن تصير جمادا ينعم بالهدوء الذي يرتق أثلامها، مثل الهدوء الذي ترفل فيه صخرة بليلة يعبث الموج بتويجاتها، ويرتاح نورس على هجعتها. بل إن الذات ترغب أن «تنحث نفسها في الصمت»، و أن تذرو على «هواجسها تراب الأبدية». وهي أبدية لا تستبطن أي معنى ميتافزيقي، فهي أبدية الطبيعة، أبدية كائناتها التي تهجع ببراءة في هناء سرمدي. ثم إن الذات تأمل أن تعثر «ذات تيه»على ممر يقود إلى حديقة مفاجئة، في إشارة إلى أن التيه الذي يحملها في مفازاته، ومتاهاته، قد يفضي، من غير توقع، إلى مكان معشب ومضئ. بل إن الذات، ترنو إلى بذر أطرافها الجامدة، والمبعثرة، في «طين الخليقة»، لتنبعث من جديد، حية وطرية : « فتبعناه مؤثرين فخاخ السذاجة على جبروت الحقيقة، سنمشي مفعمين برقة الموتى، وسننزل أطرافنا المجمدة من الأكياس والصناديق، لنبذرها من جديد في طين الخليقة، ربما تنشأ من ذلك قصة حب تفكك عقارب الساعة، ونضع البحر في نظراتنا، ربما يخرج الماء عن صمته، ويهدي لشهواتنا نشيدا طريا، نقتحم به مفاوز البعث. كل شئ سيصبح قريبا من لحظة الولادة. ثم قريبا من لحظة التكوين، ثم قريبا من لحظة التلاقح، ثم قريبا من انفجار العناصر في رحم المسافة». وهي الرغبة ذاتها التي تتلامح في الحلم بامرأة «تشكل له من طين دافئ أطرافا جديدة»، ما يجعلنا نستبين ملامح خافتة لرؤية انبعاثية، تعد بإمكانات التخلق من جديد، وباستنبات أطراف يانعة، تعيد للجسد المتيبس طراوته، وللاشتهاء الخامد عنفوانه. 4. غواية الطبيعة. * تتأمل ذات الكتاب كائنات الطبيعة، بل تنحو إلى تأمل الأبعاد الكوسمولوجية للكون. تقف مثلا، عند جبل، تشي كتلته بالصلادة والاكتفاء، فيما الجبل يخابرها، حين تدنو منه، بهشاشته ونثاره؛ وتجتذبها حركة الماء (أحد عناصر الطبيعة التي تحتل موقعا أثيرا في كثير من قصائد الكتاب)، تلتقط حركته الجذلانة، والخجولة، الفالتة من «غواية التراب»، والهاربة «مذعورة من مناقير العصافير التي تمتد إلى حدقاته الدامعة»؛ مرهفة سمعها أيضا إلى نشيده المنساب كأنه «عاد توا من حانة أقفلت أبوابها». كما تبدو الذات منجذبة بسحر الفساحة، فساحة المدى (الكون)، و بأبديته اللامبالية التي لا تعبأ ب»هواجسنا الصغيرة». * وتواصل ذات الكتاب انتباهها لحيوات كائنات الطبيعة حين يستهويها مشهد الأعشاب «المغتاضة من استبداد الشمس ونضوب الينابيع وانطفاء الأنهار»، ثم وهي تستفيق، فرحة بالماء الذي انبثق، دون سابق تصميم، من بئر سخية. كما تواصله وهي مفتتنة باستفاقة الكون، حيث تبدو الكائنات الطبيعية مرحة، وثملة، وراقصة، بإضاءة الأفق التي تغمرها فجأة. * ويستعير الكتاب، أحيانا، عنصر الحكي، كي يروي حالة شجرة التين التي يبست واصفرت فجأة بعد أن أثمرت للمرة الأولى تينا ناضجا، وذلك قبل أن تتبرعم من جديد، بعد أن انبثق من أسفل جذعها غصن صغير أخضر يشبه وليدا بريئا. يلتقط الكتاب، إذن، بغبطة الحكي، وبسلاسته، بل وببراءته، «جدل» الموت والحياة ، كما تبديها عناصر الطبيعة. كما يبدو منتبها إلى التشكيلات الضوئية لغروب الشمس، وإلى تلويناتها، وانعكاساتها المتقلبة على الأشجار والأشياء؛ ما يدنيها من كتابة بصرية تحتفي بالألوان، وتدرجها الذي لا يكاد يبين، بين الخفوت والاضطرام. 5. المكان يفسح الكتاب مساحاته للعلاقة بالأمكنة والأزمنة، بزمن الطفولة أولا، حيث استحالة استعادته، واستعصاء الاتصال بذات الطفولة من جديد، كأنما ذات الشاعر صارت منقطعة إلى الأبد، عن وجودها الأول ذاك. وحتى، وإن بدت العلاقة بالمكان (القرية) منسوجة بالألفة، حيث لا تكف الذات عن التعرف على تفاصيله وأشيائه التي تركت وراءها في زمن مضى، فإن ذلك لا يمحو شعورا قارا بالغربة، وبعدم الانتماء أصلا: « (..) أتعرف على امرأة تنشر وحيدة على سطوح بيضاء سواد تين لم يمهله الخريف أتعرف في يد امرأة على ندوب تشبه ندوب الأشجار وأتعرف في هذه اليد التي تمرر أصابعها على وجهي على الأرض التي أنزل بها غريبا كأن رأسي لم تسقط هنا مثل ثمرة ناضجة قبل هذه الأشجار». بل إن الصلة بالمكان- القرية-، تماثل الصلة بالبقايا، بركام ملقى به داخل كيس ضخم في زاوية مهملة. بمعنى أن المكان صار، في إدراك الذات، جزءا من ركام مهمل، لا يعار أدنى اهتمام. ثمة خصومة حادة بين الذات والمكان، تشفي، أحيانا، على الكراهية الصراح: « إني لا أحبها ولا أحب فكرة سقوط رأسي في ترابها وأني لن أعثر عليها أبدا ولن تعثر علي إلا إذا شب حريق في الكيس ولم يبق منه سوى يدي وأخاديد وجهها». لكن بوسع هذا النفور الطاغي من المكان، أن يتحول إلى ألفة من جديد، بل وإلى حب معلن، باستعادته، وإعادة بنائه مرة أخرى، لابتعاث الأشياء والأحاسيس التي مضت: الزقاق العابق بالشذى، التجاور الأول للأمكنة ( الفرن وقربه من البيت، البيت وقربه من بائع الحلوى، شقوق الأبواب، وهي تفضح نظرات آثمة، والخطى الفاضحة للعائدين من الليل، الأطباق التي تطير من نافذة إلى أخرى رضوخا لوحم حديث...). هذا المكان المستعاد، بتفاصيله تلك، هو مكان الخاطر، الذي تمحضه الذات حبا لا يخبو. يمكن القول، ختاما، أن «كتاب الشظايا» حافل برؤى فسيحة وعميقة، وبلغات شعرية طرية، منقوعة في صور خصبة، موصولة باستعارات مبتكرة ومجازات فريدة. ولعل الشاعر محمد الأشعري، بإصداره لهذا الديوان، يكون قد عرض كتابة شعرية جديدة، وضعت تجربته الإبداعية السابقة، على خط التجدد والمجاوزة، و كشف للمنجز الشعري، المغربي والعربي، عن أفق شعري فسيح، منبئ بالاختلاف وواعد بالمغايرة. * قدمت هذه القراءة بمناسبة استضافة الشاعر محمد الأشعري في لقاء نظمته المديرية الجهوية للثقافة ببني ملال يوم 10/12/ 2011 حول ديوانه «كتاب الشظايا».