لا أريد أن أكون نتاج محيطي، بل أريد أن يكون محيطي من نتاجي مارتن سكورزيسي هناك شعار جميل في فرنسا، مفاده أننا حينما نحب الحياة، نذهب الى السينما. إن المتعمق في هذه المقولة لا بد وأن يعرج على منطقة أخرى. لقد اعتبر نرفال أن الحلم حياة أخرى والسينما ما هي إلا حياة أخرى. إن الزمن الذي نقضيه داخل القاعة المظلمة والطقوس التي تسبق الاستعداد لتلقي نور الشاشة الكبيرة ما هما إلا نوع من الارتماء في حضن حياة أخرى، إذ نخرج من تلك الحجرة المنيرة بتعبير بارت إلى حياتنا العادية الخالية من أي احساس عميق. منذ اللقطة الأولى لدخول القطار في المحطة والجمهور الذي استقر في الصالون الهندي بباريس مقابل فرنك واحد لمشاهدة هذا المشهد الاعتيادي لوصول القطار بالمحطة والذي دفع العديد من المتفرجين إلى الهرب. مشهد أكثر واقعية من الواقع. هذا اللقاء الأولي بالسينما أشبه بولادة الانسان الصعبة والبكاء المرعب والذي مهما حاول العلماء تفسيره بذلك الانتقال الجارف من منطقة السائل الأميوني إلى الأوكسجين الذي يجعل الطفل يبكي، فإن الضرورة الشعرية والإبداع الرهيب للسينما يجعلنا نتلقف هذا اللقاء مثل ولادة جديدة. إذ كيف أصبحت لدخول القطار إلى المحطة حمولة كبرى حينما تم تصويره. هل الأمر يتعلق بزاوية الالتقاط أم الأمر يتعلق بالهالة الكبرى التي توجت وجه السينما منذ البدايات الأولى. المثير في هذه المغامرة السينمائية، أنه بعد سنوات طويلة سينجز مخرج هندي هو ساتياجيت راي تحفته الرائعة «صالون الموسيقى». كما لو أن التاريخ يحب المكر. كيف أمكن للسينما أن تولد داخل صالون هندي لأنه في تلك الآونة كانت الهند تقليعة بفرنسا. هذا الاحتفال لم يكن إلا وجها من أوجه السينما التي تعبر القارات وتحتفل بالحياة. لقد بدأت السينما على شكل روبورتاجات للحياة اليومية، ثم انتقلت إلى حبك حكايات تعتمد التمثيل المسرحي بالاعتماد على اللقطات الثابتة على شكل مشهد مسرحي، فشاءت الصدفة أن حدث عطب في الكاميرا ليجد المخرج الفرنسي ميليسس نفسه يصور مشهدا آخر كما لو اعتمد على المؤثرات الفنية، ليصبح أول مخرج تخييلي بمعنى الكلمة والأب الروحي لسينما الفنطاستيك –العجائبي - لتتحول القاعات المظلمة الى أماكن متعة أخرى حسية وجمالية فأمكن للمتفرج أن يقوم برحلة إلى القمر. هكذا وجدنا أنفسنا صغارا في زمن انعدام المتع أمام لذة السينما. فيلم «سينما باراديزو» للمخرج الإيطالي تورناتوري يكشف جانبا هائلا عن هذه التجربة التي امتزج فيها حب السينما مع عشق المرأة، وكيف أصبح ذلك النور المنبعث من ثقب أعمى لحظة انفلات من الحياة اليومية ومن الفقر وخوف الأم واليتم للذهاب الى أماكن لا تخطر على البال، للرقص مع الجميلات والمثيرات في رقصهن بجزر هواي مع مارلون بروندو. والاحتفال برقصة «زوربا الإغريقي» الذي تحول إلى بطل كوني، والسفر بعيدا لمعانقة الحلم الأمريكي في «أمريكا» مع إيليا كازان. لكن حينما تنطفئ الأضواء نعود إلى بيوتنا ولازال توهج أعيننا يحتفظ ببعض السفر. في نهاية فيلم سينما باراديزو، يعود الطفل الذي كبر وأصبح مخرجا سينمائيا إلى مدينته الصغيرة ليجد شريطا من توليف مثير من كل القبلات التي تم حذفها في الصالة إبان سنوات الحشمة من طرف المكلف بعرض الأفلام، والذي قبل وفاته كلف زوجته بالاحتفاظ به من أجل أن تبقى آخر تذكار لذلك الطفل المتيم بالسينما. تلك اللقطات بزخمها الهائل والموسيقى الموجعة بجمالها بتأليف استثنائي للموسيقار إينيو موريكوني، لا يمكن للمتفرج إلا أن يترك العنان لأحاسيس إنسانية تغمره حتى تعري هشاشتنا المتخفية. في هذا المقام قدم المخرج المغربي محمد أمين بنعمراوي «وداعا كارمن» الذي يتشابك في علاقات نسب هائلة مع «سينما باراديزو»، غير أن فيلم المخرج المغربي استطاع أن يجاوز بين التجربة الفردية للطفل الذي أحب السينما وتلك المرأة الاسبانية كارمن كأم بديلة والوضع العام الذي عاش تحولات كبيرة. إذ أصبحت قصة الطفل ما هي الى تبئير لقصة منطقة الريف بالمغرب وتمفصلات أحداث عدة. فيلم حصل على جوائز عديدة أثبتت نضج التجربة الأولى للمخرج محمد أمين بنعمراوي. هذه العلاقة مع السينما هي اسثتناء في حد ذاته. كيف تنغمر وسط حشد كبير من البشر لا تجمعك بهم أية علافة وتقتسم معهم زمن لذة السينما. تغضب وتحزن معهم وفي الأخير تمضي وحدك حاملا معك نهاية سعيدة أو حزينة لشخوص أصبحت تكن لها احساسا خاصا، وقد يرافقونك حتى آخر لحظة من حياتك. لكن هذه العلاقة ستعرف درجة من الوعي حينما انخرطت في أفق معرفي يستند الى توجه سينمائي أكثر رزانة وبحثا عن الأفلام التي تأخذ أبعادا أعمق في التناول للشرط الإنساني. في تلك الغابة الشاسعة والتي يسمونها السهوب، ينهض رجل عجوز اسمه «ديرسو أوزالا» ليعلم الطوبوغرافي الروسي أن القوانين التي استنبطها الانسان من الطبيعة مهما عمق حساباته فلن ينفلت من تقلباتها . في هذا الفيلم الذي يحمل اسم هذا الرجل، نقف أمام درس سينمائي وحياتي يجعلنا نقف مشدوهين للتوجه الفني والجمالي للمخرج الياباني كوروزاوا، وكيف بحكمته الخاصة ونظرته للعالم أمكنه أن يظهر جليا أن قوة الاسان في هشاشته، وأن عليه أن يحتكم إلى يقين انساني [الطبيعة لا تغدر بنا. يجب فقط أن نتسلح ببعض الحكمة والحذر وأن ننحني للعاصفة، أن ننصت للطبيعة لأن الحداثة أطفأت قلوبنا وعيوننا وأصمت أذاننا. لا نخرج من هذا الفيلم كما كنا من فبل. تصبح لذة السينما مرتبطة بالمعرفة العالمة والعين المرتبطة بالبصيرة. لا تصبح السينما مهربا بل مقاما رفيعا ومتعاليا يجعلك تدرك العالم بعين أخرى. حينما أتذكر هذا الفيلم أستحضر معاناة المخرج من أجل إنجازه، بحيث وصل به اليأس إلى الإقدام على الانتحار على طريقة الساموراي. لأن هذه الطريقة مشرفة لمن يفشل أو يخطئ، وهذا هو ما أنقذ الفيلم والمخرج في الآن نفسه. اذ أن عزمه على ذلك دفع المساهمين وخاصة الروس إلى إنتاج هذا الفيلم الذي يعد علامة فارقة في تاريخ السينما العالمية. لكن هذا الانفتاح على الآخر جعلنا ننظر إلى ذواتنا للبحث عن سينما تمثلنا أو ترسم بعض ملامحنا. فكان اللقاء الأول مع «وشمة» و»عرائس من قصب»، وما زال صوت المرأة التي كانت تنادي على عائشة يرن في سمعي لأن عائشة ظلت صورة هائلة للمرأة المغربية في زمن مضى حيث استطاع جيلالي فرحاتي أن يقبض عليها وهي مازالت مشتعلة بلهب الظلم . «جرحة في الحائط» و»رماد الزريبة» وكيف يسقط الممثل الكبير الحبشي في شرك مدينة مثل الدارالبيضاء. أفلام مثل «السراب» و»ليام أليام» و»حلاق درب الفقراء» وأسماء أخرى أتت بعد ذلك لتنير لنا طريق العودة الى الذات و الانتقال الى تذوق طعم لذة السينما داخل فضاء مغربي بامتياز.