قد يكون الجهل طريقاً باتجاهين اثنين، يقبَعُ في أقصى كلِّ منهما رصيدُ فرد أو جماعة أو مجتمع أو أمة تبتَدِع كل الإغراء في شدِّ التائه عن دربها إلى التوغُّل أعمق فأعمق فيما تكتنزه من ظلام أو فيما تعتزِمه من نور. و قد يكون الجهلُ باتجاهات أكثر لمن يحسن النظر و التأمل، و يدرك من موقعه الراكد ما يُفتَرض به أن يسلُكَه من خطوات لكي يفارق ما اعتادَه من المشي على الحَوافِر السابقة. لكن هل للجهل بصيرة؟؟ قد يكون السؤالُ بعضَ تبصُّرٍ يستبق أوان الاستشراف ليمضي بتحفُّز مندَفِع نحو التوقُّع و التأهب و الفِعْل.. فالانتظار في معظم الحالات لا يعدو أن يكون آمالا كاذبة لم تُمحِّصها مسافاتُ الركض بما يكفي لتمييز السراب عن دليل الارتواء. لكن في عمق السؤال بعض الحيرة و كثير تردُّد و فائض تفكير، و الجهل في كنه تركيبه لا يملك ما يكفي من فُسحات التفكير أو أدوات التحليل لكي تستقيم يقظتُه، فكيف يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون؟ لا يملك الجهلُ ترف السؤال، ففي نعيم الاستكانة إلى كل الإيمان الذي يكلِّله يتناسَلُ قَفيرُ المُسلَّمات رافضاً أن يهشَّ على دأبها صوتُ مزعِجٍ أو تشكيكُ ضال. لكن في وُسع اللقطة أن تتخذ أبعاداً أخرى و احتمالاتُ أحداثٍ جديدة يمكنها دوما أن تغيِّر من منظور الرائي أو أن تنقله نحو فضاءات مغايرة لم تدخل من قبل في قلب اهتمامه. الجهل قد يغادِر مساحته إن شاء الاستجابة لصدمة تأتيه بغتة من حيث لا يحتسب، غير أن فرق التوقيت بين الفعل و رد الفِعل قد يستلزم أجيالاً تنضو عن الأصنام المعبودة كلَّ قُدسيتها.. ففرط الإيمان و فائض المسلَّمات يصنع في كلُّ دين أو معتقد تماثيلَ جديدة تنضاف إلى سابقتها الموضوعة بجلال في المَزارات المعروضة.. و لا تسلم سجاجيد المسجد من خيالات أوهام و بقايا أصنام. فالميت هنا بالفطرة مسلِم شهيد و الميت هناك بالرقعة الجغرافية قتيل كافر. و تُتابَع نشراتُ الأخبار و وصلات النقاش، الحداد يلوِّن الشاشةَ و متداولي الحديث بالسواد، تحلو الفرجة و المتابعة باسم المشاطرة و المؤازرة و التنديد بكل من يرهِب الإنسان الآمن.. الكل يعلن جُمهوريته و يلونها بألوان الحرية و المساواة و الإخاء.. و تكتسح الألوان الثلاثة الوسائط الإلكترونية و فضاءات التواصل الاجتماعي. و كأن الأمر يتعلق بمسلسل درامي شيق، قطعوا بث حلقاته منذ شارلي إيبدو دون سبب واضح، و عادوا بغتة إلى البث فعادت المتابعة بالمتع المُريبة ذاتها و بطقوس المساندة و المؤازرة و التنديد نفسها. في الشطر الآخر هناك حيث لا شمال و لا جنوب، و الشَّرْقُ واحد تكتوي بنيرانه أرضٌ غير الأرض و جمهوريات غير الجمهورية حيث يسقط من يسقطون دون أن يجدوا إلى جوارهم دول العالم تحمِل مُصابَهم و تحزن حداداً عليهم و تدافع عن مقدَّس أرواحهم و تخلِّد ذكراهم.. حيث لون الدم مختلِف و رائحته و درجة صبيبه.. حيث الإنسانُ الذي يسقط في كل ثانية منذ سنوات آخرُ غير الذي سقط اليوم/السبت 14 نونبر.. فلا سبيل إلى متابعته أو مساندته أو مؤازرته أو التنديد بمن يكيل له الموت تلو الموت.. و لا سبيل إلى مواكبة الأخبار لمتابعة مسلسل إعلان الطوارئ و تعداد الضحايا و إشعال الشموع و البحث و التقصي و التصريح و المكاشفة... و لا سبيل للارتهان إلى نشرات الأخبار أو إلى وصلات النقاش أو إلى تصريحات الرؤساء و الملوك و رسائل التعزية و المواساة.. ألأن الألم ببساطة أصلِه قاتل؟ و لأن الانتماء ورطة نحيب لا ينقضي؟ و لأن المتابعة تغدو مع المراس و التكرار تصالحاً مع الدم المسفوح و انصياعاً لهمجية القاتل؟؟ ذلك الذي سقط اليوم إنسانٌ هو روح مقدَّسة في جسدٍ مكرَّم، و الذي يسقط منذ سنوات أو عقود بدوره إنسانٌ و هو روحٌ مقدَّسة في جسدٍ مكرَّم.. لكن الجهل في أحكامه المُسبَقة يجعل الضحية هناك «شريكاً» في المجزرة.. و الجهل كذلك في أحكامِه المُسبَقة يجعل الضحية هنا إنساناً و كفى. أليس للجهل طريقٌ باتجاه واحد و حسب؟؟ الجهلُ ليس مَوْتاً لكنه يكاد أن يكون.