تبين من الأحداث الدامية الأخيرة بفرنسا وما تبعها من مظاهرات ملايينية ومن مساندة مادية وشعبية لجريدة شارلي إيبدو التي نَشَرت على أول صفحاتها رسما كاريكاتوريا جديدا لمحمد ومما شاهدناه من مظاهرات ومن تنديدات بهاته الجريدة بالدول الإسلامية... تبين من كل هاته الأحداث العنيفة والساخنة أننا على شفا حفرة ساحقة هي أعمق من البحر الأبيض المتوسط، هوة مرعبة تفصل أوروبا عن البلدان المتواجدة بجنوبها وبشرقها. علينا أن نعترف أن هناك ما يفصل شعوبا لا يمكنها أن تتفاهم إن لم تتحاور عبر كلمات واضحة وبطريقة سلمية حول مسألة مقدسين مختلفين ومتعارضين، لا يقبل أي طرف من الآخر أن يمس به. فهل هناك من سبيل للتفاهم السلمي باستعمال كلمات والإبتعاد عن فوهات الكالاشنكوف التي استعملها الأخوان كواشي ضد الجريدة الساخرة والتي استعملها مهدي كوليبالي ضد اليهود بمتجر خاص بهم ؟ إنها مسألة المقدسات التي تمس أعماق شخصياتنا، كأفراد وكجماعات، ولربما هي أعمق ما بأعماقنا. إنها مسألة لا يمكن تجاهلها إذ تحدد هوياتنا وبالتالي ردات فعلنا الشخصية والجماعية، ردات فعل قد يكون من شأنها تفجير طاقات مروعة لربما هي أقوى وأعنف وأهول من طاقات القنابل الذرية. هذا الإحساس بالخطر المحدق بنا والمتغلغل إلى أعماقنا البشرية هو الذي يدفعني، كإنسان عادي ينتمي بجذوره العميقة لشمال إفريقيا ويكن المحبة لبني جلدته ولأهله على الضفتين، أي بأوروبا وبالبلدان الشمال-إفريقية، هذا الوعي وهاته المحبة هما اللذان يحثاني، بل يرغماني، على التطرق، بكل ما أملكه من شفافية ومن دقة تلقنتها بالجامعة الألمانية كي أحاول إخماد فتيل الضغينة التي بأنفسنا قبل أن تتفجر الطاقات الهدامة التي تغلي منذ عقود بداخل كل واحد من الشعوب على ضفاف البحر المتوسط. أصبح من الواضح اليوم أن الحرية والمساوات والأخوة وفصل الدين عن الدولة هي مبادئ سامية تأسست عليها الجمهورية الفرنسية. وأتضح كذلك أن ملايين الفرنسيين الذين خرجوا للشارع يوم 11 يناير 2015 يومنون حقا بهاته القيم التي ستبقى سامية، عالية، صعبة التحقيق كاملة بأرض واقعنا، لأننا نعلم أن السماوات لا تتنزل للأرض وأن الأرض ليست هي جنات النعيم التي يصبو إليها جزء كبير من البشرية عوض القناعة بالحياة الدنيا وبأرضنا الطيبة والعسيرة في نفس الوقت. فالفرنسييون الذين رفعوا أقلاما (التي ليست رسومات للأسلحة) وحذروا بشدة، في نفس المظاهرات، من الخلط والمزج بين القتلة باسم الله ورسوله من جهة وعامة المسلمين من جهة ثانية، هؤلاء الفرنسيون بينوا للعالم أنهم متعقلون ولا يسقطون في فخ الثأر الذي يسقط فيه كل الذين لا أخلاق لهم وما زالوا يعتقدون أنه من شأن العنف المضاد أن يضع حدا للعنف البشري. يعلم كل المسالمين الذين يقيمون لغاندي ولمانديلا حق قدرهما أن العنف المضاد لم يكن أبدا مختلفا على العنف الذي سبقه، مهما ردد المرددون أن البادئ أظلم. فالعنف في حق البشر منكر ولا يمكن أبدا تبريره بأي وجه من الوجوه، لا باسم الله ونبيه ولا باسم الأرض المقدسة أو الشعب المسحوقة حقوقه كما كان حال السود بالهند وبجنوب إفريقيا. فرغم أن جل الفرنسيين لا ينخرط اليوم في أي عقيدة دينية أو كنيسة، إلا أن كثيرا من المتظاهرين يوم 11 يناير لجؤوا للاستعمال كلمة أصلها طقوس وتصورات الدين المسيحي : كلمة communion . إنها تعني اليوم تواصلا وتفاهما روحيا يجمع بين الذين ينضمون ويلتئمون حول فكرة أو قضية أو اعتقاد خاص، بينما تعني عند المسيحيين مشاركة واتحادا جسمانيا وروحيا للمومنين بعيسى داخل كنيسته بمعناها الأول، أي أمته أو طائفته. شئنا أم أبينا، علينا أن نعترف اليوم أن الجمهورية الفرنسية تمكنت، عبر صراع طويل وعنيف في كثير من الأحيان، من فصل الدين عن الدولة وأرغمت المتدينين المسيحيين على تحمل رسومات كاريكاتورية وسخرية لاذعة بجرائد وبأفلام وبمنابر لا تعد ولا تحصى. إن المسلمين لا يطيقون اليوم ولا خمسة في المائة مما ينشر ويذاع من انتقادات للعقيدة المسيحية التي ترتكز، كما هو معلوم، على التوراة اليهودية الأصل وعلى الأناجيل التي ألفها أربعة حواريين من أصل عبري معروفون بأسماءهم الشخصية. أما يهود فرنسا فإنهم لم يخرجوا من إنتمائهم الروحي والطائفي الضيق للشعب اليهودي ليصبحوا بعد ذلك مواطنين فرنسيين إلا بعدما أجبر نابوليون ممثليهم الشرعيين على توقيع وثيقة رسمية يتعهدون فيها بالتنصل من عدة أوجه عنصرية بشريعتهم التي كانت، على سبيل المثال، تحرم على اليهودي وعلى اليهودية أن يتزوجوا بغير اليهود أو تحث أغنياء اليهود على تقديم قروض مجانية لبني عقيدتهم وأخذ أجور ممن ليسوا يهودا. نعم، لقد تخلص اليهود الفرنسيون رسميا وكتابيا من قوانين عنصرية بشريعته التي كانت تحرم عليهم أن يتناكحوا أو أن يتخذوا أولياء من غير اليهود. فأسس الهوية الثقافة الأوروبية الحالية وخاصة الفرنسية منها، مبنية على مبدإ متين قوامه حرية تفحص وتنحية كل المحرمات جانبا، أكانت يهودية أم مسيحية أم إغريقية أم إفريقية أم إسلامية الأصل. نعم كانت الكنيسة تحرم تفحص أجساد موتانا وكذلك تفحص ما سطره الأموات من نصوص تدعي لنفسها أنها مقدسة، أي لا يحل لنا، نحن الأحياء، المساس بها. ولم تفهم البشرية أمراضها الجسمانية ولا أمراضها العقائدية إلا بعدما تجرأ شجعان معاندون تجاوز تلك المحرمات. فتفحص وتشريح ما سطره موتانا بكتبهم المقدسة سواء كانت مصرية أم عبرية أم إغريقية أم عربية هو ما مكننا وسيمكننا من تنشأة أجيال تفهم ما تعنيه الهيوغليفات المرسخة لسلطة الفراعنة (بما فيهم ورثتهم الحاليون) وكذلك نقد العنف المترسخ بكتب مقدسة لا تحترم الاحياء لتحترم الموتى في مقابرهم وتوابيتهم الفاخرة والمنمقة بالذهب والفضة على حساب الشعوب الراكعة والمقهورة. فهل بإمكاننا اليوم، نحن المواطنون المنتمون للشعب الفرنسي، أن ننتقد الشريعة الإسلامية ومشرعها الأول علما منا (ومن المسلمين قاطبة) أنهما لم يقيما أي تقدير ولم يكنا أي احترام، على قدم من المساوات، لا لعقيدة اليهود ولا لأناجيل المسيحيين ولا لمعتقدات المجوس أو البوذيين أو من ينعتانهم بالكفار أو المشركين الذين كانوا يحترمون اللات والله والعزة دون أن يفرقوا بين أحد منهم ؟ هل من حقنا أن ننتقد الكتاب والسنة اللذان يحرمان على المسلمة أن تتزوج بغير المسلم وأن نسمي ذلك آبارتايد (apartheid) يجب على كل واحد منا أن يندد به وأن يتخلص منه بكل مجتمعاتنا البشرية ؟ هل من حقنا أن ندافع على مبدإ المواطنة الفرنسي الأصل الذي شطب ونحى جانبا عدة محرمات من محرمات اليهود والنصارى التي هي أشبه ما يكون بمحرمات المسلمين ؟هل من واجبنا ومن حقنا الإشارة ثم التنديد بآيات بينات لا تدع للمراوغين الخناسين مخرجا ؟ - "كتب عليكم القتال وهو كره لكم". اللهم هذا منكر يغتصب ضمائر المسلمين، أي ضمائر بشر مثنا. - "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين". اللهم إن هذا لتفرقة بين بني البشر إذ المسلمون واليهود والنصارى من ذرية أو من أتباع إبراهيم. اللهم هذا زرع للعداوة والبغضاء بين أبناء العم من بني جدي إبراهيم. - "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين". اللهم إن هذا لمنكر، لأن البشر سواسية لا فرق بين كافر ومومن إلا بأعمال كل واحد منهم وليس بمعتقداتهم أو قناعاتهم. فهل بإمكان المسلمين، الفرنسيين منهم خاصة، أن يقبلوا وأن ينخرطوا ويلتفوا حول مبدإ الحرية هاته ليتخلصوا من محرماتهم التي لا تتيح لهم تفحص مقولات المقدسين من موتاهم ؟إن كان المسلمون مستعدين لاختيار الحريات عوض المقدسات فإنهم سيَلِجون ولا شك عصرا جديدا وإلا فإننا على شفا حفرة من النيران لأننا سنواجه ولا شك صداما عنيفا بين مقدسات يجند فيها الأموات ويدافع عنهم ضد حريات الأحياء.فما هو اختياركم أيتها الأخوات المتحجبات وأيها الإخوان المسلمون ؟أأنتم لكل الأحياء محترمون، دون تمييز بين مومن وكافر، أم ما زلتم للأموات مقدسين وفي سبيلهم الخاسر مستميتين ؟ لكم أتمنى أن تروموا الصدق أمام أنفسكم وأن تنبذوا الوفاق والإتفاق على النفاق.اللهم اشهد أنني هنا للصدق داع وعن المنكر ناه، بما في ذلك منكر دعا إليه جدي إبراهيم ومن ورث ميراثه العنصري الباني للأصوار بين بني البشر، إلى يومنا هذا، باسمك يا قهار، يا جبار، يا مهيمن، يا مسيطر، ويا متكبر. متى ستصبح متواضعا للمخلوقات الضعيفة مثلنا ؟ متى ستعفي البشر من القتال في سبيل إعلاء كلمتك ؟ متى ستدعوا البشر للطريق القويم، لطريقة منديلا وغاندي الأسودين البشرة ؟