من مميزات هذا البلد الأمين أن كل مناطقه وجهاته تزخر بثقافة شعبية غنية، و إن كانت كل منطقة أو جهة لها خصوصياتها الموروثة أبا عن جد منذ عبر عصور قديمة.. و تضم هذه الخصوصية أغاني و أمثلة و حكما و معتقدات و تقاليد و حكايات و أدعية و أنماطا مختلفة و متعددة من الفرجة و الأنشطة الثقافية.. و قد ساهم بعض الأساتذة الباحثون في تدوين العديد من هذا التراث المغربي دون تحديد "القيمة" التاريخية و الحضارية سواء في مجال الغناء أو في البحث عن جذور الثقافة الشعبية المغربية بصفة عامة . في هذا السياق تحاول هذه الورقة أن تستعرض بعضا من تاريخ منطقة مغربية عرف تاريخها أحداثا لا يمكن للجيل الحالي أن يبقى بعيدا عنها، إنها منطقة عبدة - أسفي ، التي تمتاز بخزان كبير من "التراكمات" التي تجمع ما بين ما هو ثقافي يؤرخ لأحداث ساهمت بكل صدق في استقرار هذا الوطن، و ما هو ثقافي شعبي، و على الخصوص الغنائي.. الذي سنتناول بعض ما يزخر به، كما رصده بعض الأساتذة الباحثين، و في مقدمتهم علال ركوك، الذي يرجع له الفضل في توثيق العديد من الأحداث و اهتم الى حد كبير بموسيقى عبدة - و أسفي من خلال مؤلفه "موسيقى أسفي.. نماذج و تجليات" و الذي قدمه ذ مصطفى محسن و الذي اعتمدنا عليه في تقريب القراء من هذا الإرث التاريخي للثقافة المتعبة لمنطقة عبدة - أسفي .. و لا يمكن نكران ما قام به باحثون آخرون من أمثال محمد أبو حميدة و الأستاذ الباحث حسن نجمي. تعتبر منطقة عبدة - أسفي ملتقى لعدة أنواع من الموسيقى و الأهازيج الشعبية و المتمثلة في الموسيقى الطرقية"الصوفية" -الطريقة العيساوية حمادشة - الحضرة الحمدوشية- كناوة - فن السماع ظواهر غنائية متعددة تمتاز بها هذه المنطقة ليبقى فن العيطة أبرز الفنون التي تمتاز بها و هو محور الورقة . أعطى الأستاذ علال ركوك وصفا دقيقا للعيطة، حين أكد في مؤلفه "موسيقى أسفي- نماذج و تجليات" أنها نمط من الغناء جد مشهور بالمغرب، و قد وصفت بتعاريف كثيرة منها : أنها فن سكان البادية، و هو كلام محفوظ عنهم يمكن تقسيمه إلى نوعين : العيطة الهلالية و العيطة المرساوية، الأولى موطنها تادلة و الجبال، و تتميز بالحضور المكثف للكلمات البربرية، و الثانية، أي العيطة المرساوية الموجودة بالشاوية و إن ولدت أصلا بعبدة. فالعيطة إذن هي أغنية شعبية تتميز بالخاصيات التالية " تبتدئ بمقدمة و مجموعة القاطبات، أي الأبواب أو الفصول و الحطات التي تعني الانتقال الشعري الذي يسمح بالمرور من جزء الى آخر، و تختم العيطة بسدة أو قفل يكون إيقاعه سريعا." إن العيطة فن غنائي قديم بخلاف الموسيقى الأندليسة و الملحون لا نجد لها ذكرا في المصادر التاريخية و لا إحالة عند مؤرخي الموسيقى، كما أنها لم تكن موضوع دراسة أكاديمية علمية. و يعتبر الأستاذ الباحث حسن نجمي من الذين أعادوا الاعتبار و الاهتمام بهذا الفن التاريخي الرفيع، حين تعمق فيه كثيرا و قدم فيه أطروحته التي وضعت هذا الموروث التاريخي الفني في دائرة الاهتمام ..... و بالاعتماد على الميدان و النصوص يؤكد ذ.علال ركوك في نفس مؤلفه أنه يمكننا بتتبع تاريخ العيطة و تطورها، نجد أنها نشأت مع هجرات القبائل العربية الأولى نحو المغرب تحت سيادة يعقوب المنصور في عهد الموحدين، هذه القبائل التي أقامت بالسهول الاطلنتيكية .. و نتيجة عملية التعريب التي شملت عددا من القبائل المغربية و بفعل التقاء الحضارتين العربية و الأمازيغية البربرية انبثق فن العيطة و انبعث معه"لهوير". في المرحلة الأولى كانت الآلات المرافقة للعيطة هي الطبل و "البندير" اللذان يعدان أدوات إيقاعية فقط، و هي مرحلة تظل بالنسبة للبحث غامضة و مبهمة، أما المرحلة الثانية فقد أضيفت آلات أخرى مثل "الكصبة و "الليرة" و "الغيطة" وهي أدوات نفخ ، في حين أن المرحلة الثالثة تميزت أولا بظهور الآلات الوثرية مثل "السويسدي" و "الكنبري" و الرباب.. و ثانيا بإقامة المواسم التي تدفع مجموعات المغنيين و المغنيات إلى مرافقة أشياخهم "معلميهم" في الأسفار التي تدوم أسابيع و شهورا ، و خلال أسفارهم و إقامتهم بالزوايا تؤدي هذه المجموعات الكثير من أغاني العيطة التي تنظم نصوصها بكيفية تلقائية، حيث يرتجل كل شيخ أو مغن بيتا يسمى "حب"، يثنيه آخر فثالث و رابع......الى أن يؤلف نصا يتركب من ثلاثة عناصر أساسية، و هي المقطوعات الموسيقية الاستهلالية التي تؤلف النص، ثم المقاطع الغنائية : الفصول أو الأبواب ، و في الأخير السوسية. أنواع العيطة تختلف من منطقة إلى أخرى، و لكل نوع خصوصياته، و لا يمكن لأي بحث أن يصل إلى نتائج مقنعة و مرضية، إذا لم يراكم كثيرا من الخصائص.. لذلك يجب التعرف على الأشكال الإيقاعية الصوتية المميزة، لأن الاختلاف بين هذه الأشكال لا يظهر في الموضوعات المعالجة أو في الأبيات المؤادة، و لكن يظهر على مستوى اللحن و النغمة الموسيقية الأساسية و . و بصفة عامة يمكن القول إن أشكال العيطة هي في عداد الأربعة، و إن لم تكن خمسة إذا أخدنا بعين الاعتبار "بروال الشياظمة" و أشكالها هي "الحصبة" و "المرسى" و "الحوزي" و "الزعري" و ما تفرع عنها من أنماط ثانوية، إضافة الى نمط الغرباوي و العيطة الجبلية.