اختار المخرج الرقم «404» لرمزيته العميقة التي تحيل على مجهولية «المجهول» الضاربة في القدم (30 سنة من المنفى خلف القضبان).. 404 تعني عموما العدم أو اللاشيء على تطبيقات الويب، أي أن الشخصية التي جسدها حسن باديدة المعروفة الأصل، قد ضاعت ذاكرتها إثر ضراوة سنوات المعتقل وأضحت عدما، اللهم ما علق بها من ذكريات الأسرة (الزوجة، الأبناء، العشيقة راوية، وبعض الأصدقاء) التي كانت تلاحقه - دون شك- مدى محنته وعقب تحرره يُستعمل «مكبر الصوت» لتضخيم الصوت وإيصاله إلى نقطة أبعد؛ وفي لقطة بداية فيلم «هم الكلاب» تظهر لقطة مكبرة تُبئر فما يصرخ داخل مكبر الصوت، دون أن يُسْمع، وكأنه صوت موؤود.. يحاول صاحب الصوت الصراخ عبثا، لأن هناك خللا ما مقصودا يعتري المكبر.. يستمر الصارخ في الإلحاح ليُسْمَع الصوت أخيرا، ويوحي باحتجاج و تمرد هذا الصارخ على وضعه.. اختار الميتاسارد أن تكون البداية سابقة على الجنيريك، وأن تتسم بالقوة والإلحاح، تمهيدا لما سيأتي، ومحاولة منه لشد اهتمام المتلقي ومدِّه ببعض مفاتيح المحكي قصصيا وسرديا. كانت حركات الكاميرا مشوشة تشبه وضع المتظاهرين (نشطاء حركة 20 فبراير)، فيما تنوعت لقطات مقطع البداية داخل تأطير متنوع: لقطات مجموع، وأخرى كبيرة إلى متوسطة، حيث يتم الانتقال من محكي إلى آخر، وكأننا بصدد محكيات صغرى مفادها أن العالم العربي ليس بخير.. وهي محكيات يوحدها نفس الفضاء: بؤرة المدينةالبيضاء وساحة الحمام (السلام في بعده الرمزي).. هذا المقطع هو بمثابة ميكرو فيلم: توضيب اعتمد خلاله المخرج على القطع الحاد للقطات مبعثرة وموجِزة للمحكي الفيلمي الآتي. في هذه الأثناء، يظل الطاقم الصحفي يبحث – على نحو تام- عن منفذ يفضي به إلى إنتاج ورقة في الموضوع.. يلحظ هذا الطاقم رجلا ستينيا بجسد متهالك ونظرات داهشة ومبعثرة، ويحمل باقة ورد وحذاء مبللا.. تتجه الكاميرا صوبه، ليكوِن قوة فاعلة – فيما بعد- في البناء الدرامي للفيلم. كان من السهل على المخرج أن يمرر المعطيات التي يراها ضرورية للمتلقي، دون اللجوء للمعطى التلفظي للرجل المجهول، وذلك في غياب شبه تام للحوار، مقابل سيادة شبه مطلقة للقطات المتنوعة السُلّمِية وحركات الكاميرا المبعثرة انسجاما مع تبعثر الشخصيات، حيث أخذت بداية المحكي طابعا مشهديا وحيدا يظل فيه المكان ثابتا. الطاقم الصحفي في محاولة الإلمام بقصة المدعو «404» ينتهي الطاقم الصحفي من تصوير بعض المقاطع دون أن يظفر بتصريح من الرجل التائه المجهول، يضيع هذا الأخير وسط الزحام، ويواصل الطاقم مسيرته في البحث عن موضوع خبر آخر.. الفرضية الأولى: كانت غاية الطاقم الصحفي هو الغوص فعلا في قصة الرجل التائه، ومعرفة سبب وجوده ضمن جماهير المتظاهرين.. الفرضية الثانية: تغطية الحدث، أو فقط الإتيان بخبر يكون موضوعا للبث في القناة التلفزيونية التي يعمل الطاقم لصالحها. نستشف من الحوار أن هناك حكاية غريبة وراء الرجل المجهول (تساؤله لما هو الهاتف النقال، وامتلاكه نقودا تعود لعهد الملك محمد الخامس...)، هذا فضلا عن نظرات الاستغراب والتأمل والتركيز التي يبديها هذا الرجل إزاء التلفزة وهي تعرض صورا للثورة الليبية. كان السرد خطيا، وبدأ من «ساحة الحمام» حيث ينشط المتظاهرون، إلى أحد المطاعم، مرورا بشوارع المدينة.. أي أننا بصدد زمن تعاقبي متسلسل الأحداث، استمر إلى أزقة المدينة بحثا عن زوجة الرجل المجهول. تسير الكاميرا على نفس النهج، وتترصد خطى الرجل المجهول، اعتمادا على تأطير عام وجزئي، مع ما يترتب عن ذلك من تقطيع ومزج متناغم بين الصوت والصورة. يواصل «المجهول» بحثه عن جذوره، أصدقائه ومعارفه، ويفلح في إيجاد صديقه حسن الذي ستوافيه المنية فور رؤيته له. وبإلحاح من الطاقم بدأ هذا «المجهول» أخيرا بسرد قصته، فهو الذي اعتُقل إثر ثورة 1981 المعروفة بانتفاضة الخبز.. لم يدر لِم و كيف؟ فقط ثمة قوى عنيفة انتشلته مغمض العينين، في وقت خرج فيه من بيته بحثا عن عجلة دراجة هوائية لطفله.. لا يتذكر هذا «المجهول» اسمه الأصل، فقط رقمه «404» الذي كان ينادى به داخل المعتقل. يندرج هذا البوح داخل بنية مشهدية، ذات تقطيع معلل، حيث غابت اللقطة-المقطع التي عهدناها في أغلب مشاهد الفيلم، إضافة إلى الفضاء الفيلمي الذي يتجاوز داخل الحقل البصري إلى خارجه، سمعيا وبصريا؛ وهي تقنية تعتمد في الغالب على مبدأ التناظر الحقلي ومنه إلى اللامرئي، الذي يكون محجوبا عن نظر المتلقي وسمعه أو عن أحدهما.. والحال هنا،. أننا نسمع الحوار الدائر بين أفراد الطاقم دون أن نراهم. استهان الطاقم بحكاية المدعو «404»، واعتبرها هذيانا، الشيء الذي دفع بهذا الأخير إلى التمرد والهروب بحثا عن زوجته و أبنائه. وبطبيعة الحال، فالمخرج اختار الرقم «404» لرمزيته العميقة التي تحيل على مجهولية «المجهول» الضاربة في القدم (30 سنة من المنفى خلف القضبان) .. 404 تعني عموما العدم أو اللاشيء على تطبيقات الويب، أي أن الشخصية التي جسدها حسن باديدة المعروفة الأصل، قد ضاعت ذاكرتها إثر ضراوة سنوات المعتقل وأضحت عدما، اللهم ما علق بها من ذكريات الأسرة (الزوجة، الأبناء، العشيقة راوية، وبعض الأصدقاء) التي كانت تلاحقه - دون شك- مدى محنته وعقب تحرره. كل الاختيارات السمعية والبصرية، توحي بنجاح الفيلم، ثيمة وشكلا. هذا فضلا على أن الفيلم يزخر بكل الشروط المثيرة للمتابعة، التي قد تناسب أفق انتظار الجمهور المغربي العريض، بما فيه المتخصص. يتطور المحكي إلى عوالم درامية جديدة (أمكنة وفضاءات كان «404» يتردد عليها قبلا).. محكيات كان فيها التبئير داخليا، أي أن السارد اكتفى بما تراه الشخصيات (الرؤية مع).. نواصل اكتشاف قصة «404» تماما كما يكتشفها الطاقم الصحفي، حيث كانت كاميرا هذا الطاقم هي المتحكمة في الرؤية، فهي تبئر إطارات وزوايا لها دلالة موغلة في التجريد والاستفهام و التماهي.. يتعاطف الطاقم أخيرا مع «404»، ويقرر مساعده في البحث عن زوجته وأبنائه. وهذه هي القوة الدرامية لهذه المقطع الأخير. حيث كان من الصعب على الطاقم تصديق هذا المجهول في بادئ الأمر، خلافا للمتلقي الذي كان شاهدا منذ بداية أحداث الفيلم، أي حركة 20 فبراير الداعية للتغيير، والتي تحيلنا – فور كشف «404» - على أحداث انتفاضة 1981.. وهو اختيار له مبررات لم تضعف درجة التشويق ومشاركة المتلقي في الأحدث بالرغم لامتلاكه للمعرفة.. بل وكان من السهل أيضا على مبدع الفيلم تحقيق ذلك بروفيلميا وبوليفونيا. غير أن الطاقم التلفزيوني، في محاولة إحاطته بقصة «404»، لم يكن نزيها في ذلك، لأنه مجبر على القيام بربورتاج يكون موضوعا للبث التلفزي.. إذ نستشف ذلك عندما حاول ‹›404›› إلقاء نفسه في البحر، فأسرع الصحافي لمنعه حتى يوهم المتلقي بأنها محاولة انتحار.. وهذا يؤكد الفرضية الثانية، دون إنكار الأولى، أي أن الطاقم كان يتغيا في البداية تقديم مادة خبرية حول الحدث، إلا أن «404» شكل تساؤلا محوريا جعل هذا الطاقم يبحث عن 404/ السر. يواصل «404» البحث رفقة الطاقم عن الأسرة والأولاد، فيذهب للقاء أحد أصدقائه القدامى الملقب ب»رشيد الدخان» المتدهور صحيا، ليستفسر عن أسرته، غير أن صديقه (الصحافي) هذا، الذي كان نزيها ومناضلا يساريا، لم يعد كذلك.. احتدم النقاش بين «404» و بين الصديق، وانتهى الأمر بخروج الطاقم و «404» خارج مكتب «رشيد الدخان». في فضاء فسيح متسخ، يحتفل الجميع بكؤوس النبيذ نكاية في بؤس الحياة، ويمتد الاحتفال إلى ملهى ليلي.. كان «404» يتأقلم مع الأجواء الجديدة الغريبة عنه (يشرب النبيذ في حذائه، ويقضي ليلته دون فراش).. حافظ المخرج طوال عمر الفيلم (ساعة وثمان وعشرون دقيقة) على نفس اللغة السينمائية ‹›كاميرا الطوارئ» أو» La caméra d'urgence» كما يسميها، وتقنية خارج الحقل، و ضبابية بعض اللقطات.. وهي لغة تفرد بها «هشام العسري» كذلك في فيلميه «النهاية» و»البحر من ورائكم»، وقد تجلى هذا التميز أيضا لدى «العسري» في الكشف المحايث للوقائع التاريخية، وجعلها حقيقة مؤفلمة وإيحاء بأفكار تجعل فهمنا كمتلقين يشتغل لصالح الخيال في بلورة معان متعددة في لقطة واحدة، ثم تفكيك علاماتها التي تقول الكثير. «404» .. أي انتماء ؟ «نْمْشي نْقلب على مرتي وولادي» هي نبرة متأملة، وإحساس بالانفراج بعد تلك الرحلة المضنية التي أقصت ذاته الحالمة ذات صباح من سنة 1981، و هو يبحث عن لعبة لطفله.. لم يفلح في ذلك، وظلت تلك أمنية تطارده طيلة ثلاثة عقود. يعثر «404» عن أسرته أخيرا، حيث إن التغيير طالها هي الأخرى كما طال العالم المحيط: أصدقاء ماتوا، وآخرون بدلوا قناعاتهم ومبادئهم، الزوجة أسست أسرة أخرى، والابن تنكر لأبيه وكأنه لم يكن يوما كذلك.. في هذه الأثناء يختار المخرج كبح السجل الصوتي، على غرار بداية المحكي، إيذانا لنا باقتراب نهاية الفيلم. ويمكن أيضا اعتبار هذا الصمت رهانا يؤكد وظيفة العين، ويحررها من الخلط أو سيادة المحكي اللفظي، فغياب الصوت في هذا المشهد يضفي عليه عنفا ما. يظل ‹›404›› ذاك المجهول رغم الأسرة والأبناء وقليل من الأصدقاء.. يكون ما ينتمي إليه هو سنوات القهر والظلام التي لازمته.. «404» هي الذات الغريبة، هي ذاك التراكم الذي عاشته، هي ضغوطات نفسية وأمل في استرجاع أيام الصفاء والدفء ورحلة البحث عن واقع أفضل ...