ذكرياتٌ عن مدينة عتيقة / بغداد فكرةٌ شقّها النهرُ نصفيّن صلاح سرميني وهران(الجزائر)/ في نهاية السبعينيّات، وبداية الثمانينيّات، بدأت هجرة العراقيين إلى المنافي، بحثاً عن الحرية، وبعيداً عن الحرب العراقية/الإيرانية، ومع استمرار الأوضاع في العراق، وبداية حرب الخليج أول التسعينيّات، توطّدت إقامتهم، وعلاقتهم بكلّ مجالات الفنّ، والأدبّ . وقد جمعت فرنسا وحدها عشرات الطامحين لدخول العمل السينمائيّ، بينما توزّع عدد أخر في بلدان أخرى . وبعد أن اعتمدت انتاجاتهم على الجهود الفردية، والتمويل الذاتيّ, بدأت المؤسّسات الأوروبية تهتم بمشاريع أفلامهم التسجيلية، والروائية، حال معظم أفلام (سعد سلمان)، الذي تمكن من توزيع فيلمه (بغداد On/Off), وعرضه جماهيرياً في الصالات الفرنسية . ولم يتأخر (عامر علوان) عنه كثيراً كي يُنجز، ويعرض في عام 2004 فيلمه الروائي (زمان، رجل القصب) على شاشة قناة Arte التي ساهمت بإنتاجه، ومن ثمّ في الصالات الفرنسية، والأوروبية . وأخيراً، اختار المخرج العراقيّ (عدي رشيد) عنوان (غير صالح) لأول فيلمٍ روائيٍّ عراقيٍّ يتحدث عن الأيام الثلاثة الأولى لسقوط (بغداد) بيد قوات التحالف الأمريكي البريطاني، وصوره بأشرطةٍ سينمائيّة توقفت شركة (كوداك) عن إنتاجها منذ عشرين عاماً . الفيلم داخل الفيلم البداية, لقطاتٌ متبادلة مع العناوين الأولى, في شرفة منزل تطلّ على حارة شعبية, يقف (زياد) مدير التصوير في مواجهة الكاميرا, والمتفرج بطبيعة الحال الجالس في صالة العرض, يتحدث عن(غير صالح), الفيلم المُزمع تصويره مع المخرج (حسن), ومنذ تلك اللحظة, نفهم بأننا سوف نتابع فيلماً مُغايراً في بنائه السينمائيّ, ونستعدّ لتفكيك, وربط علاقة متداخلة بين المُصور, والمخرج(في الفيلم, والحياة), ولن يكون عسيراً فهم الفعل, وردّ الفعل بين الشخصيتيّن, وفي نفس الوقت, سوف نفهم أيضاً, بأنّ الكاميرا التي يتبادلا لعبة الوقوف خلفها, وأمامها, قد أصبحت بفعل الأمر الواقع شخصيةً أساسيةً منذ اللحظة التي أطلّ علينا المُصور (زياد), حتى وصول المخرج (حسن) إلى ذروة معاناته, وهو يطلب منه بأن يتوقف عن التصوير. ما بين المشهد الأول (شرفة المنزل), والأخير(غرفة), تتجسّد تيمةٌ داخليةٌ ( للفيلم, وللمخرج معاً), تلك الرغبة العارمة لإنجاز فيلم, متضافرة ًمع تيمة خارجية عن (بغداد) شهوراً قليلةً بعد سقوطها . منذ البداية إذاً, وبدون مقدمات تمهيدية, يضعنا(عدي رشيد) في قلبّ الحدث, التيمتيّن, ويستعدّ المتفرج لمُشاهدة (فيلم داخل الفيلم), أو بالأحرى, تكثيفاً في (70 دقيقة) لمراحل إنجاز الفيلم الذي نشاهده, ويتحول إلى موضوع بحدّ ذاته, وهكذا أيضاً, يصبح مقبولاً بأن تحوم حول الشخصيتيّن الأساسيتيّن( وهما بالأحرى شخصيةُ مزدوجة) أطياف شخصيات أخرى, حقيقية, أو مُتخيلة,... في ذلك المشهد الافتتاحي,ّ والمصور (نزار) يمهدّ لنا ما سوف نراه, ويُطلعنا على حقيقة الشريط الخامّ الذي سوف يستخدمه, بأنه مُنتهِ الصلاحية منذ أكثر من عشرين عاماً, كان شريط الصوت يستدرجنا لأجواء الفيلم, وكما حال الصورة, المُتحايلة على الواقع التسجيلي لجعله روائياً, أو تلك التي اختطفت ما هو روائيّ لجعله تسجيلياً, كان الصوت في تركيباته الجمالية يتضافر وهذه التعشيقات المُتشابكة, حيث تمتزج ضربات البيانو الحادّة, وزقزقة عصافير, مع ضجة الشارع, والجيران . كلّ شئ يبدو هادئاً, وطبيعياً, إلاً تلك الإشكالية التقنية التي يُثيرها مدير التصوير(نزار), وتخوفاته من استخدام شريط خامّ يمكن أن يخذله, وفي الحال, يتورط المتفرج في تلك التساؤلات التي يطرحها الثنائيّ (نزار), و(حسن) : كيف يمكن أن يكون شكل الفيلم, ونتائجه؟ وحال بغداد, والعراق مع شريط خامّ انتهت صلاحياته؟ . هل نتوقع بأن تكون النتيجة تتابعات شاشة سوداء, إضاءة برقية متلاحقة, خطوط, وأطياف أشخاص, ولكن, ألا تتفق هذه النتيجة الشكلية المُحتملة مع الواقع الفعليّ للمدينة, وناسها ؟ وأصبح من الضروري بأن تستعيد صورتها الحقيقية القابعة في خيالاتنا عنها, بعد ديكتاتورية, وحروب, وحصار, واحتلال ؟ لقد فقدت بغداد أيضاً صلاحيّاتها المُتخيلة في أذهاننا منذ سنوات طويلة. ولكن, ما هو مستحيلٌ تقنياً, ولاعقلانيّ فنياً, أصبح ممكناً, وتحوّل إلى أسلوبّ جماليّ تعتمد نتائجه على الخطأ, والصواب, التجربة, والمغامرة, الخيبة, والبهجة, الاكتشاف, والتحقق, وهو ما جعل (غير صالح) فيلماً مختلفاً, ومُغايراً . وكما فرضت حالة الشريط جماليات سينمائية منحها باختيار, أو بمحضّ الصدفة, فقد كشف أيضاً عن بناء دراميّ يتفق وحالته . في وضع كهذا, يصبح مخيباً للآمال أن يرتكز الفيلم على سيناريو تقليديّ, يحكي قصةً متماسكة البنيان, تحوم فيها شخصيات مدروسة, وحدثاً تتجاذبه قوانين السردّ الارسطية. كان من الطبيعي أن يُحيلنا العنوان, وحالة الشريط إلى كلّ ما شاهدناه في الفيلم, وما لم نشاهده, وبدل أن تكون نتائج التصوير أشكالاً تجريدية, وأطيافاً شكلية, فتحوله إلى فيلم تجريبيّ خالص(يسعى الكثير من السينمائييّن التجريبيّين عمداً للحصول على نتيجة مماثلة), جاء الفيلم قريباً من الأحلام, الهواجس, والأفكار الداخلية, إنّ (غير صالح) هو الفيلم في مراحل إنجازه, وهذه حيلةٌ دراميةٌ مدبّرة, ومبررّة, كي تتحول الشخصيات التي تدور حول المخرج (حسن) إلى أطياف مشروع فيلم, هو في الحقيقة الفيلم نفسه, ومشروع شخصيات, هي شخصيات الفيلم, مُتشظيةً, مبعثرةً, منفلتةً من المكان, والزمان, هاربةً من تاريخها, ومستقبلها, جمعها المخرج حسن(عدي رشيد) من الشارع, البيت, الحارة, المدينة, وحتى من الذكريات, لتُسجل عبورها اللحظيّ, أو الدائم أمام الكاميرا, والقليل من الكلام عن الأحداث التي تعيشها بغداد, جلبها المخرج(لا فرق بين حسن, أو عديّ), مسرحها, وتركها ما بين النصّ المكتوب, والمُرتجل(ربما), كي تؤدي دوراً صغيراً أمام الكاميرا, وتمضي في حالها. ولهذا, ليس هناك من سببّ دراميّ مقنع باختيار شخصيات بعينها دون غيرها من خلق بغداد, غير أنها تُعيد تجسيد أدوارها الحقيقية في الواقع الذي تعيشه, أو أدواراً لأشخاص آخرين عرفهم, أو يعرفهم (حسن), تلك الشخصيات المُؤقتة(الجندي), العابرة(بائع الصحف), أو الدائمة(ميسون زوجة المخرج) يجمعها حدثٌ واحد, الحبّ كما يقول (حسن) في الفيلم, حبّه لهم, ولكن أيضاً, الفيلم كما تخيّر أن يكون, والحياة المُجتزأة منهم في مدينة, هي موضوع الفيلم نفسه, وركيزة أحداثه المُتشظيّة مثلها . في أسلوب السردّ, وما يترتب عليه من صياغة سينمائية, تخيّر السيناريو الاعتماد على التبادل ما بين المونولوغ الداخليّ للمخرج (حسن), والخطّ السرديّ من خلال العلاقة مع مدير التصوير (نزار), وتشعبّها مع الشخصيات الأخرى, ولكنّ هذا المونولوغ الداخلي (المسموع), والمُستعار من الراويّ في القصة, والرواية, والمُستوحى في بداياته من المسرح الأرسطيّ, يتعانق باقتدار مع الجانب الحكائيّ لإنجاز الفيلم(الفيلم داخل الفيلم), ويخفف قليلاً من ثقل الاستيحاءات التجريبية, والتي (يُمكن) أن لا تتوافق مع المُشاهدة السهلة, كما ساهم المونولوغ (المُناجاة) في إضفاء مسحة أدبية, شعرية, وأحياناً مسرحية تُذكرنا خاصةً بأفلام الموجة الفرنسية الجديدة, والتي ما يزال جان لوك غودار, آنيّيس فاردا, مارغريت دوراس, آلان روب غرييه,... يجددونها, وفيها تتجلّى بوضوح (سينما مؤلف) تُصلح للقراءة, والمُشاهدة. تلك المُناجاة المسموعة, تختفي, وتعود ما بين مشهد, وآخر, تشوبها الأحزان, والمواجع, هي أجزاء من سيناريو يجعل فعل الكتابة مكشوفاً للمتفرج, كي يتورط في العملية الإبداعية نفسها, فيصبح من الطبيعي الاعتقاد بأنّ الملاحظات التي يكتبها(حسن) عما يجري حوله, وما نشاهده, هي حقيقة, وليست من نسج الخيال, ونفهم بأنه استدرج ما هو تسجيلي, و حوله إلى مشاهد روائية, واستخدم الروائيّ في شهاداته ليُوهمنا بتسجيليّتها. وفي الحالتيّن, عندما اُختطف التسجيليّ لصالح الروائيّ, أو بالعكس, كانت مفرداته السينمائية (زوايا التصوير, حركات الكاميرا, شريط الصوت) على قدرّ من الوعيّ, وهنا, لا أستطيع التنجيم فيما إذا كانت مكتوبة مسبقاً في سيناريو ما قبل التصوير, أو استلهمها في لحظات الإنجاز مباشرةً, ولكن, أياً كانت طريقة الإنجاز, فإنّ هذه الدّقة بحاجة إلى اعادات كثيرة لتصوير لقطة ما, فكيف أنجزها الثنائيّ, المخرج, والمصور مع كمية قليلة من الخام الفاقد الصلاحية ؟ بغداد ربيع 2003 في الأزقة الجانبية المُتهدّمة, والوسخة, والشخصيات المُبعثرة فيها, أصوات طلقات رصاص بعيدة, وهدير مروحيات محلّقة في سماء بغداد, لم تكن تلك المؤثرات تُعبّر عن حقيقتها, بقدر ما كانت مفردة صوتية تعبيرية مهدّت للموسيقى, وأصبحت جزءاً منها . تتابعٌ مونتاجيّ صارم يُقصي اللحظات الميتة, ويُلملم حالة تشظيّ الصياغة السينمائية, يتوافق ومسحة تجريبية للفيلم (في السينما), وتغريبية(في المسرح), ولم يتورط كثيراً بالالتزام بقواعد مونتاجية حكائية, حيث يُظهر لنا المونتاج في بعض الأحيان القطع نفسه, تلك الومضات التي نشاهدها كثيراً في أفلام السوبر 8 , والمُستخدمة سابقاً في الأفلام العائلية, وحالياً في السينما التجريبية . وكما كانت بعض المفردات السينمائية مُسبقة التفكير, جاءت أخرى محضّ صدفة, وخاصةً الألوان التي اكتسبها الفيلم غصباً عنه, نتيجة عوامل الزمن التي أفقدت الشريط الخامّ بعض عناصره الكيماوية, وحتى, وإنّ أرجعت التقنيات الرقمية الجديدة بعض هذا الغياب القسريّ, ولكنها أضفت مسحةً غريبةً على أجواء الفيلم, تعمد الكثير من الأفلام اكتسابها طواعيةً للحصول على تأثيرات خاصّة بالزمان, والمكان, ولكن, في (غير صالح), جاءت تلك الإشكالية التقنية عوناً مجانياً, توافقت مع فكرة المخرج نفسه(المخرج في الفيلم, أو مخرج الفيلم) مع فقدان اللون في الشارع . التفسيرات, والشهادات العناوين الداخلية في الفيلم, صلة الوصل ما بين المَشاهد, هي مفردةٌ سينمائيةٌ استخدمت في عصر (السينما الصامتة) لشرح ما لم تتمكن الصورة من شرحه, أو تقديم الحوار لقراءته على الشاشة, ذاك الاستخدام (التفسيريّ) تحول فيما بعد إلى (تعبيريّ) يُضفي مسحةً أدبيةً على الأحداث, وشعريةً أحياناً. وفي (غير صالح), ساهمت العناوين الداخلية بتقسيم الفيلم إلى مَشاهد(كحال المسرح), وبالآن, أصبحت جزءاً من الصياغة الدرامية, والسينمائية للفيلم, وكانت مثل الفواصل, النقاط, علامات الاستفهام, والتعجب في نصّ أدبيّ, ولكن أيضاً, استيحاء (حيلة) إبداعية مونتاجية للربط ما بين الأحداث المُبعثرة, والشخصيات المُتشظية, وبافتراض غياب هذه العناوين, سوف يفقد النصّ الأدبيّ تشكيلاته اللغوية, وربما يفقد الفيلم بعضاً من شعريته . وبينما كان (الشاهد رقم 1) حقيقيّاً (لقاء مع أحد السكان), يأتي (الشاهد رقم2) ممثلاً يقف أمام الكاميرا, ويلقي نصّاً تضمّنه السيناريو, واستعان المخرج بأشخاص عاديين يمثلون أدوارهم متذرعاً باللقاءات, والشهادات معهم, وكما توضحت المبالغة في أداء البعض(المتشرّد المعتوه), قدم الفيلم بشكلّ عامّ أداءً غير معهود في السينما العراقية هادئاً, تلقائياً, يتضافر مع حضور ممثلين محترفين, وعلى رأسهم (يوسف العاني), و(عواطف السلمان) . وفي هذا الإطراء المُتعجّل, لن أنسى(مريم عباس), تلك التي أدّت دور (ميسون) زوجة المخرج في الفيلم , والانفعالات التي نضحت بها عيناها, كانت تدّق على أعصاب زوجها المُنشغل عنها بإنجاز فيلمه مثل ضربات البيانو الحادّة التي تكررت كتيمةً موسيقيةً رئيسية, ممتزجةً مع زخات رصاص. هذا التعشيق يطال شريط الصوت أيضاً, هناك زقزقزة العصافير من طرف, وطلقات الرصاص من طرف آخر, تتخلل ذكريات (يوسف العاني) المحكية كشهادة, مع اللقطات التسجيلية لجدارية (نصب الحرية) لصاحبها(جواد سليم). (عدي رشيد) لا يريد لشخصياته أن تتكلم كثيراً, ولا يرغب أن يصنع فيلماً ثرثاراً, ولهذا, نشاهد (الشاهد رقم 3), الجنديّ الذي التقطه المعتوه بداية الفيلم, في لقطةُ متوسطة لا يتكلم فيها, زخات رصاص, هدير مروحيّات, وموسيقى, ...فقط . بينما يترك حسن (الشاهد رقم 4), ليُدخلنا إلى وجدانه المجروح من خلال أغنية عراقية مُوجعة, وكما يترك المعتوه في (الشهادة رقم 5) يتحدث بمفرده, ليُغرقنا في شجون الأغنية, ونشاهد من بعيد جنود الاحتلال في الشوارع مُرتجلين, أو راكبين . ودائماً تلك الأصوات التي تُذكرنا بالكاميرا, وجهاز العرض, والومضات التي نعهدها ما بين اللقطات في أفلام سوبر 8 , وهي تشير إلى نهاية لقطة, وبداية أخرى, لأنّ الكثير من هذه الأفلام لا تخضع لمونتاج بعد التصوير . حالاتٌ متواصلة, مستمرّة, ومتداخلة لذكريات مُبعثرة, وهل يمكن أن تكون منضدّة, ومرتبة في سردّ مُسترسل؟ هي أيضاً تحوم حول الشخصيات المعتوهة, المتشردة, الجريحة, المريضة, القلقة, المُكتئبة, ...في الحارة, الحيّ, المدينة, والبلد كله, ولا تمتلك الكاميرا هنا جرأة استعادة كلّ التفاصيل, تجميعها, ونسجها من جديد لإعادة صورتها القديمة, وهي التي تُذكرنا دائماً بالفيلم الذي يُنجزه(حسن), وهي ليست شاهداً مُحايداً, إنها ذاتية إلى حدّ (لا أخلاقيّ), عندما تقتحم حزن عائلة تبكي واحداً من أفرادها المقتولين, فيتذكر أحد الشباب المُتحلّقين حول الجثة حرمة الموتى, ويتصدّى للكاميرا غاضباً : لا تصوّر, لا تصوّر,.. وبافتراض زيادة حدة الغضب, كان يمكن للكاميرا أن تلقى حتفها, ويتحول الشريط المُنتهي الصلاحية إلى شريط تالف, ولكنها لم تخشى هذا المصير, لأنها على دراية مُسبقة بأن ما يجري أمامها هو إعادة تجسيد لمشهد حياتيّ يومي, حدث, ويحدث في أماكن كثيرة . والحقيقة, تكشف لنا الصياغة السينمائية عن حضور دائم لكاميرتين, واحدةُ (إفتراضية) داخل الفيلم(تظهر على الشاشة أحياناً) يصور بها المخرج (حسن) شخصيات فيلمه, والأخرى (حقيقية) لا نراها أبداً, لأنها تُصور الفيلم نفسه كما نراه مُنجزاً نهائياً . وقبل أن نتوقع (الشهادة رقم 5), يُفاجئنا المخرج (حسن) بشهادته, هل جاءت صدفةُ لتكسر من حدّة التشابه الشكليّ مع ما سبقها؟ ولماذا لم تحتلّ المشهد الأخير من الفيلم, هل يحافظ المخرج على إخلاصه لسردّه المُتشظيّ ؟ الكاميرا (الافتراضية) تصور (حسن) وهو يدلي بشهادته, والكاميرا (الحقيقية) تصور الكاميرا (الافتراضية), و(حسن), لعبة مرايا تماماً, تصبح فيها الكاميرا (الافتراضية) داخل الفيلم شخصيةُ تعلن عن حضورها في كلّ لقطة, كي لا ننساها, إنها العين الثالثة, تُدلي بشهادتها أيضاً, ثابتةٌ أحياناً, ومضطربة, هائجةُ في مرات أخرى . هنا, يتوجه (حسن) مباشرةً إلى المتفرج في شهادة (مسرحية) تصورها الكاميرا, تختلط وعواء كلب شارد في الأزقة . لقد تخيّر (حسن) هذه المرة بأن يتخلى عن مونولوغه الداخلي(مناجاته) ليتوجه إلى الكاميرا/المتفرج : لماذا أصنع الفيلم, ولمن, هذا الفيلم يؤرقني, عليّ أن أتوقف, لن أكمله, لن أكمله,.. استدراجٌ آخرٌ إلى لعبة (الفيلم داخل الفيلم), وبالأحرى حيلةُ إبداعيةٌ تمهدّ لتحوّل مفاجئ, دراميّ, وسينمائيّ, (حسن) لن يكمل الفيلم, هكذا يقول, يُوهمنا, ويجعلنا نستعد لنهايةً مُفاجئة, مُبتسرة, ولكننا شاهدنا الفيلم مُتحققاً, حتى ذلك المشهد الختاميّ, ما كان (غير صالح) تقنياً للتصوير, أصبح (صالحاً), وما لم يرغب (حسن) بإكماله, هو في طريقه للتحقق,.. لم يتوقف (حسن) عن إنجاز فيلمه, كما أوهمنا منذ لحظات, ولم يقدم لنا نهاية, مهما كان الإحباط على أشدّه, ولم يفعل مثلما فعل السينمائيّ التجريبيّ الأمريكيّ (ناتانيّيل دورسكي) عندما يبحث عمداً عن أفلام قديمة, غير صالحة, ويصور منها بعض الدقائق, ويترك باقي الشريط في العلبة, ويرسلها إلى المعمل لتحميضها, ومن ثمّ يُعيد افلمة النتيجة. لا, لم يرغب (عدي رشيد) بأن ينحو إلى غايات شكلية(جوهر السينما التجريبية), بل يستمر في نثر مقتطفات من يومياته, عندما يقدم لنا درساً في المونتاج : لقطةُ عامة, (حسن) وزوجته (ميسون) في الفراش, وقطعٌ مفاجئ إلى لقطة متوسطة يجلسان فيها متواجهيّن, شبه عارييّن, يُكملا حواراً بدآه في اللقطة السابقة, وهكذا تخيّر المونتاج أن يختصر الزمن, ويبتعد عن الترّهل. ومن خلال لقطة كبيرة لوجهيّن مُتقابليّن, ومن ثم لقطة كبيرة لكلّ واحد منهما على حدّة, يشارك المونتاج(وأحجام اللقطات) بالكشف بصرياً عن الوضع النفسيّ الذي وصلا إليه, وعن علاقتهما التي تزداد توتراً يوماً بعد يوم, ويصل تذمر الزوجة إلى مداه, لقد أصبح كلّ منهما يعيش وحدته. 6 شهور فيما بعد... في هذا الجزء من الفيلم, نتعرّف على شخصية جديدة, (خالد) بائع الجرائد, يقترح أفكاره الهزلية عن فيلم يمكن أن ينجزه (حسن). في لقطة متوسطة, نلاحظ حركةً خفيفةً جداً للكاميرا, يكاد المتفرج العادي لا يشعر بها, لتؤكد لنا من جديد بأنها حاضرة, ولا تعرف الاستسهال, أو الكسل. وفي مشهد لاحق, الكاميرا من جديد لا توفر على نفسها مشقة الحركة من الأسفل إلى الأعلى, وبالعكس, عندما يحضّر (حسن) لنفسه فنجان قهوة, ويتخيّرها المخرج (داخل الفيلم, وخارجه), كي لا تكون اللقطة خاملة, وجامدة. بعد (42 دقيقة) من المدة الزمنية للفيلم, يُركز (حسن) عدسة الكاميرا الفوتوغرافية على الشارع المُطلّ من شباك منزله, لنشاهد من بعيد عربات عسكرية أمريكية, ويعود صوتياً إلى مونولوجه الداخلي في مناجاة شعرية : بغدادٌ, فكرةٌ شقها النهر نصفيّن بغدادٌ قطارٌ تائهٌ في بغداد أبداً ليست مدينة ....... لقد وصلت تمزقاته إلى مداها, تكاد زوجته تخذله, وبدأت كاميرا مدير التصوير تترنح, لقد فقد الجميع صبرهم, وقدرتهم على التحمّل, والانتظار, وحتى الشريط الخام يوشك على الانتهاء, وهنا يخطر ببالي فكرة, هل صور (عدي رشيد)الفيلم على مراحل متعاقبة, مع الانتهاء من كتابة كل مشهد, وباعتقادي, لم يكن هناك سيناريو جاهز مُسبقاً, كان الفيلم يتحقق فعلاً في لحظات تأليفه, أو مباشرةً بعد كتابة المشهد, وهذا ما يفسّر حالة التشظيّ التي تخيّرها البناء الدرامي, والسينمائي للفيلم . حيرة (حسن) بأن هناك شئ ما يتغير في بغداد لا تلخصها أيّ عدسة, وحتى الدقيقة ال(48) من الفيلم, لم يحدّد (حسن) موضوعه بعد, لقد صوّر كلّ شئ قبل 6 أشهر, ماذا يصور بعد؟ ومن جديد, يجد المتفرج نفسه متورطاً في حيلة, وراء حيلة, هي استيحاءات إبداعية, تتحول فيها الهفوات, والنواقص إلى مفردات إبداعية لصياغة سينمائية مُتعمدة فرضها البناء الدرامي للفكرة, والمعالجة, كي يصبح من الطبيعي أن تلاحق الكاميرا (حسن) في تجوال دائمّ في شوارع بغداد يبحث عن موضوعه, حيث لم يبقَ إلاّ الفراغ, هل يصوّر الفراغ ؟ منزلٌ للبيع وفعلاً, يستمر(حسن) بتصوير شوارع بغداد, وحاراتها, وأبنيّتها المهدّمة, بدون مونتاج, أو بطريقة توحي لنا اختفاءه, كما حالة التصوير بكاميرا سوبر 8, حيث لا تقف الكاميرا أمام موضوعها كثيراً خشية انتهاء شريط الفيلم في البكرة(الطول الزمنيّ 3 دقائق تقريباً للبكرة الواحدة), وبدون مؤثرات خارجية, غير صوت الكاميرا, دوران الشريط في علبته, أو دورانه في جهاز العرض, شخصية أخرى نسيناها, وكانت حاضرةً على استحيّاء . وهل من قبيّل الصدفة أن يكون المشهد ما قبل الأخير أمام منزل عربيّ يفصل بين شارعيّن, حيث يمضي (حسن) في الشارع الأيسر باتجاه عمق الصورة, ومن الشارع الأيمن يتقدم المعتوه نحو مقدمة الصورة, بينما لا تخفى على المتفرج مغزى عبارة مكتوبةُ على الجدار: (منزلٌ للبيع) وبعد أن يستمع حسن إلى (الشاهد رقم 6), (فضة) زوجة الشيخ, تتعب الشخصيات, وينهك المخرج, ويصل إلى درجة عالية من الإحباط, والانهيار, يتكوّر في زاوية منزله, أو مكان خرب, تماماً مثل أيّ شخصية أخرى, ويكشف (مسرحياً) عما في داخله : هذه ليست سينما, هذا ليس فيلماً, لقد خدعتك الحربُ مرةً أخرى, هذا ما يخلقه الحلم, والذكريات. رماد فيلمي يوحي هذا العنوان المكتوب على الشاشة, الأخير في قائمة العناوين الفرعية, برماد فيلم (عدي رشيد), أو الرماد الفيلمي بعد احتراقه, أو تلفه كلياً. الآن لديك فيلمان, واحدٌ أحرقته الحرب, والآخر أحرقته الأحداث المُحيطة بك, وآلامك الداخلية,.... أكرهكم, أنتم السبب, أنتم السبب لكلّ ما وصلنا إليه, حقيقةً أكرهكم, من أنتم, آه, من, من أنتم, من؟ اقطع يا (زياد). لقد بدأ الفيلم من شريط خامّ تالف, يمكن أن يفنى, ويتحول إلى رماد, وانتهى فيلماً مُنجزاً يدعو إلى الحياة . ضربات البيانو من جديد, مثل قطرات ماء تتساقط برتابة .