يوم الاثنين 2 أغسطس 2010 أعلن الرئيس الامريكي باراك اوباما ان القوات الأمريكية المقاتلة ستخرج من العراق بحلول نهاية الشهر «طبقا للوعود وبحسب الجدول المقرر». وقال اوباما في الخطاب الذي القاه خلال مؤتمر وطني لقدامى المقاتلين المعوقين في اتلانتا (جورجيا) «عندما كنت مرشحا للرئاسة، آليت على نفسي وضع حد للحرب في العراق بطريقة مسؤولة. وأعلنت بعد قليل على تولي مهام الرئاسة استراتيجتنا الجديدة للعراق وللانتقال إلى مسؤولية عراقية كاملة». واضاف أوباما «أوضحت أنه بحلول 31 أغسطس 2010 ستنتهي المهمة القتالية لأمريكا في العراق، وهذا ما نقوم به بالضبط، طبقا للوعود وبحسب الجدول المقرر». وتابع اوباما «اليوم، في وقت يسعى الارهابيون للقضاء على التقدم الذي احرزه العراق بفضل تضحيات جنودنا وشركائهم العراقيين، ما زال العنف في العراق بادنى مستوياته منذ سنوات». ولفت الى ان الولاياتالمتحدة ستبقي على قوة انتقالية في العراق خلال الاشهر المقبلة على أن تسحب قواتها بالكامل بحلول نهاية 2011. وذكر أن القوات الأمريكية ستركز خلال هذه الفترة الانتقالية على دعم القوات العراقية وتدريبها وعلى القيام بمهمات مضادة للارهاب وحماية المبادرات الأمريكية المدنية والعسكرية. وأضاف «ينبغي ألا يخطئ أحد، فإن التزامنا في العراق يتبدل، من مجهود عسكري بقيادة قواتنا إلى مجهود مدني بقيادة دبلوماسيينا». لكنه أقر بأن «هذه المهام خطيرة، وسيكون هناك على الدوام (مقاتلون) مسلحون بقنابل ورصاص سيحاولون وقف تقدم العراق. وفي شبه إنذار إلى الشعب الأمريكي بتوقع المزيد من القتلى بين صفوف الجنود الأمريكيين أضاف «الحقيقة، ولو أنها صعبة، هي أن التضحيات الأمريكية في العراق لم تنته». ومن اللافت أن أوباما لم ينطق بكلمات «النجاح» أو «النصر» في حديثه عن إنهاء العمليات القتالية في العراق، كما كان من الواضح أن الخطاب موجه للرأي العام الأمريكي ولمعالجة تراجع شعبيته خلال الأشهر الماضية بسبب مشكلات داخلية بالإضافة إلى الأوضاع المتدنية بالنسبة لقوات حلف الاطلنطي في أفغانستان، وتعزز موقف طالبان. حرب مستمرة أوبام لم يكن وحده الذي حاول إعداد الأمريكيين لتقبل مزيد من الخسائر في العراق. نائب الرئيس الامريكي جو بايدن الذي كلفه اوباما الملف العراقي، أقر من جانبهيوم الخميس 29 يوليو 2010 بأنه لا يستطيع «ضمان» الهدوء في العراق بعد انسحاب القوات الأمريكية، ولو أنه اعرب عن تفاؤله في هذا الشأن. ويسجل تناقض بادين مع نفسه حيث أنه كان قبل 24 ساعة قد أكد أن الذين كانوا يحاولون زرع «الفوضى» في العراق قد «فشلوا». وكان اوباما الذي أعلن معارصته بشدة للحرب التي شنها سلفه جورج بوش في العراق عام 2003، قد اعلن في 27 فبراير 2009 بعد شهر فقط على تولي مهامه عن انسحاب تدريجي للقوات الامريكية من العراق بدءا بالقوات القتالية. غير أن منتقدي أوباما يتهمونه بالخداع والتمويه ويؤكدون انه لا يزال يحاول تحقيق الأهداف الأمريكية التي وضعها سلفه بوش وأنصاره من المحافظين الجدد، وهي أساسا التحكم في ثروات العراق النفطية المقدرة حاليا بأكثر من 520 مليار برميل، وتقسيم بلاد الرافدين عمليا إلى ثلاث كيانات، ومنع العراق من العودة إلى لعب دوره على الصعيد العربي وخاصة فيما يخص تهديد إسرائيل. ويضيف هؤلاء أن أوباما وطاقمه يستخدمون ألفاظا جديدة للتأكيد على التمسك بإستمرار إحتلال بلاد الرافدين. وللتأكيد على ذلك يشير منتقدو سياسة أوباما إلى أن الأنسحاب الذي تحدث عنه يوم الإثنين سينخفض عدد العسكريين الامريكيين في العراق الى حوالى خمسين الفا في نهاية اغسطس بالمقارنة مع 144 الفا عند تولي اوباما الرئاسة. وبموجب الخطة الامريكية الموعودة، فان آخر عناصر القوة العسكرية ستغادر العراق بحلول نهاية ديسمبر 2011، غير أن أحدا في واشنطن لم يتحدث عن مصير القواعد الأمريكية الضخمة في العراق وآلاف الجنود الأمريكيين الذين يرابطون فيها. كما لا يتحدث الرسميون الأمريكيون عن موعد انسحاب أكثر من 170 ألف من رجال قوات المرتزقة الذين يفضل البنتاغون تسميتهم بجنود شركات الأمن الخاصة. «وطنيون ووطنيون» ويشار إلى أن أوباما لم يدن في خطابه شن حرب على العراق حيث قال أن «نقاشا محتدما حول الحرب في العراق دار في البلاد. وكان هناك وطنيون ايدوا (الاجتياح) ووطنيون عارضوه». واضاف «لكن لم يقم يوما خلاف فيما بيننا بشأن دعم أكثر من مليون امريكي بالبزة العسكرية خدموا في العراق»، مضيفا «على كل امريكي ارتدى البزة العسكرية ان يعلم: سنوليكم اهتمامنا لدى عودتكم». ومن الملفت أن أوباما وفي نطاق ما إعتبره معارضوه جزء من عملية التمويه الكبيرة: قال إن «العنف في العراق اقرب إلى أقل مستوياته منذ سنوات» على الرغم من أن شهر يوليو 2010 شهد أكبر حالات عنف منذ مايو 2008. وقد تجاهل وجود مقاومة وطنية للإحتلال الأمريكي وأصر كسابقه بوش على وصف معارضي الإحتلال بالارهابيين، وهو يستخدم من حين لآخر شماعة القاعدة لتبرير التدخل رغم كل ما تم الكشف عنه في السنوات الماضية عن حقيقة القاعدة وعلاقاتها السرية مع المخابرات الأمريكية واستخدام واشنطن لها لتحقيق تبريرات تدخل في شؤون الدول الأخرى. نفس أسلوب التمويه استخدمه أوباما فيما يخص أفغانستان حيث قال «نواجه صعوبات هائلة في افغانستان، إلا أنه من المهم ان يعي الامريكيون أننا نحقق تقدما ونركز على أهداف محددة جيدا وقابلة للتحقيق». وكان اوباما قد اعلن في ديسمبر 2009 ارسال نحو 30 الف جندي اضافي الى افغانستان لدعم القوات المتواجدة هناك في واضاف اوباما «من الناحية العسكرية ان جميع القوات الاضافية تقريبا التي أمرت بإرسالها الى افغانستان باتت في المواقع المحددة لها. وبالتعاون مع شركائنا الافغان والدوليين انتقلنا الى الهجوم ضد طالبان عبر مهاجمة قادتهم وتحديهم في مناطق كانت تحت سيطرتهم». خسائر تهدد الإمبراطورية مع إعلان أوباما الانسحاب الامريكي التدريجي من العراق في 2011 بموجب اتفاقية أمنية، تشهد أمريكا جدلا حادا بشأن تركة الحرب التي بدأت سنة 2003 ولم تنته بعد. وتطال الانتقادات الثمن الباهظ للخسائر البشرية والمادية والضرر الذي لحق بصورة واشنطن في الخارج. إلا أن وسائل الإعلام المهيمنة لا تنقل غير تلك الإنتقادات التي تحاول تبرير شن الحرب، والتي لا تتحدث أبدا عن إمكانية نهاية المغامرة الأمريكية في بلاد الرافدين بنفس النتيجة التي تمخضت عنها حرب الفيتنام. يقول مايكل اوهانلون من مركز ابحاث جمعية بروكينغز «ثمن سياستنا كان باهظا جدا اكبر مما كان مقدرا وربما اكبر من الفوائد التي سنجنيها». في المقابل يقول ستيفن بيدل من مجلس العلاقات الخارجية ان رؤية الرئيس السابق جورج بوش لعراق جديد وديمقراطي يغير وجه الشرق الاوسط تبدو غير واقعية وساذجة. ويتساءل بيدل عن جدوى السياسة الامريكية في المنطقة طارحا علامة استفهام حول ما اذا كانت النتيجة «عكس ما كنا نأمله». ويتابع بيدل ان افضل ما يمكن للولايات المتحدة ان تأمله بالنسبة إلى العراق هو عراق «مستقر». وكتب ديفيد هيرزنهورن لصحيفة «نيويورك تايمز»: في بداية حرب العراق، تكهنت ادارة جورج بوش، بأنها ستكلف 50 مليارا. وبعد انقضاء سبع سنوات قدرت وزارة الدفاع تكلفة الحرب بحوالي 1200 مليار دولار. ويقدر جوزيف ستيغليتز الاقتصادي الحائز جائزة نوبل وناقد الحرب، التكلفة بما يزيد على أربعة آلاف مليار دولار. ويقول مكتب الميزانية في الكونغرس، ومحللون آخرون ان ما يتراوح بين الف مليار وألفي مليار دولار أكثر واقعية، اعتمادا على مستويات القوات وعلى مدى استمرار الاحتلال الأمريكي. على أي حال أصبحت حرب العراق تكلف شهريا مع بداية سنة 2010 أكثر من 12 مليار دولار، واللافت ان مخططي البنتاغون يتوقعون إستمرار هذه المصاريف حتى بعد خفض القوات إلى 50 ألف، وهناك من يتوقع إرتفاعها. لا أحد يتحدث عن السبب، فهم في واشنطن بكل بساطة يدفنون رؤوسهم كالنعامة في الرمال حتى لا يعترفوا بأن هناك مقاومة عراقية عجزوا عن دحرها، وهي في طريقها مرة أخرى إلى الإقتراب من تحقيق النصر كما إعترف بوش بطريقة غير مباشرة سنة 2007 حين قال أن بلاده تخسر المعركة وذلك قبل ان تتيح له تكتيكات جديدة تحسين وضع قواته بشكل يتبين الآن أنه كان مؤقتا. تنكر للحقائق لقد تنكر هؤلاء لتحليلات وتحذيرات صدرت خاصة في المانيا وروسيا عن اختصاصيين عسكريين حتى قبل الانطلاق العملي للغزو من أن العراق قد حسم خياره الحربي بتبني استراتيجية تدمج اساليب حرب العصابات بأساليب الحرب النظامية، مع منح ارجحية واضحة للأولى. ويقول محلل عسكري أوروبي «كان واضحا تماما للقيادة العراقية أن أي حرب مع أمريكا لا يمكن كسبها إذا كانت نظامية، بسبب التفوق الامريكي الساحق، تكنولوجيا وعسكريا وماديا، ولهذا اختاروا اسلوبا آخر هو الحرب الشعبية الطويلة الأجل». واشار الخبراء الالمان إلى انه اعلن رسميا قبل الحرب بشهور أن العراق قد قرر إعتماد استراتيجية حرب عصابات المدن، مع تحقيق الاستخدام الأمثل الممكن للقوات المسلحة العراقية ضمن هذه الأستراتيجية. وأقرن ذلك بتنفيذ خطة شاملة بتحويل قسم كبير من الجيش الى مجموعات صغيرة تتخصص بخوض حرب مدن، اضافة للاعداد السابق لوحدات الفدائيين وتشكيل جيش القدس وتدريبه وتزويده بالسلاح والعتاد وبكميات كبيرة. كان المطلوب تحقيق أكبر حشد وطني ممكن للمقاومة وتكبيد الجيش الأمريكي خسائر كبيرة وتحميل واشنطن تبعات تأزم نظامها المالي والاقتصادي وإضعاف مناعته في مواجهة الصدمات والازمات النابعة من داخله، لأجل ايقاظ عقدة فيتنام لدى الامريكيين ودفعهم الى الضغط على حكومتهم من أجل الانسحاب والتفاوض. لقد كان ذلك هو الخيار الأوحد الذي يضمن للعراق حرمان الولاياتالمتحدة من النصر، ليس بالضربة القاضية، بل بتجميع النقاط وانهاك الخصم الأمريكي وحرمانه من فرص التقاط الأنفاس ومنعه من تنفيذ خططه الأستراتيجية والعسكرية والسياسية، من خلال اجباره على البقاء محصورا في اطار ردود الافعال الناجمة عن شراسة وحدة وانتشار المقاومة، وتواتر عملياتها. حتى وإن لم كانت خطط المقاومة العراقية التي وضعت في البداية قد تعرضات لبعض النكسات أو بالأصح العثرات فإنها وحتى الآن حققت جزأ هاما من أهدافها. ومع ذلك وبكل بساطة حاولوا ويحاولون ان ينكروا على شعب تمتد حضارته على مدى 60 قرنا من تاريخ الإنسانية المعروف، بطولاته ونجاحه بمقاومته في وقف مسار مخطط الشرق الاوسط الكبير وما كان يتضمنه من مشاريع تقسيم الاقطار العربية الى 54 كيانا. شهادة ألمانية خلال الثلث الاخير من شهر مايو 2008 طرح في المكتبات الغربية الاوروبية كتاب ليورغن تودن هيغر عن دار النشر س. بيرتلس مان في ميونخ وفي 306 صفحة حول حرب العراق. فقد قام هيغر بزيارة العراق وسكن في بيت تابع لافراد من المقاومة العراقية وقابل العديد من عناصر المقاومة دون أي رقابة من اي جانب لا من قوات الإحتلال ولا من أي طرف آخر . وذكر المؤلف ان المقاومة العراقية ليست مقصورة على العراقيين السنة، بل تشمل جميع الطوائف والمذاهب من سنة وشيعة ومسيحيين وغيرهم كما يشارك فيها بعثيون واسلاميون ومن كافة الاتجاهات. وقال هيغر ان هدف المقاومة هو طرد الإحتلال الأمريكي واستقلال العراق ووحدة أراضيه. وأكد المؤلف ان الصورة التي يرسمها المحتل الامريكي عن الوضع في العراق زائفة، وان المقاومة العراقية لا تتعمد قتل المدنيين كما يدعي الامريكان، وأنها تركز قتالها ضد قوات الاحتلال وعملائه، أما الجثث المجهولة فهي جثث مواطنين عراقيين قامت قوات الاحتلال باعتقالهم وسلمتهم إلى مؤسسات مرتزقتها وهي التي تقوم بدورها بقتلهم ورمي الجثث في الشوارع مثلما تفعل المليشيات الطائفية. وذكر الكاتب بشهادات عراقيين عملوا في جهاز الشرطة بعد الإحتلال وكيف كانوا يدفعون لتفجير سيارات ملغمة وغيرها من العبوات وسط المدنيين ولصق التهمة بالمقاومة العراقية. نظرية أبن خلدون يقول المحلل العسكري العراقي عماد الدين الجبوري: رغم أن الإنسحاب الرسمي للقوات القتالية الأمريكية ليس هو الجلاء، فضلاً عن بقاء زهاء 50 ألف جندي مدعومين بنحو 200 ألف مرتزق، والاحتفاظ بأكثر من 40 قاعدة، بينها خمس قواعد هي مدن عسكرية، فإن هذا الإنسحاب وفق الحساب الزمني منذ سقوط بغداد يوم 9 أبريل 2003 يعتبر عدا تنازليا وليس تصاعديا. فلو لم يكن كذلك لنجحت نظرية المحافظين الجدد التي تبناها الرئيس السابق جورج بوش بفرض الأنظمة السياسية عبر استخدام القوة العسكرية، ولأتضحت معالم مشروع الشرق الأوسط الكبير بدلا من إندثاره، ولأمتدت هيبة الأذرع العسكرية الأمريكية إلى دول الجوار بدلا من غطسها بوحل أرض الرافدين سنة بعد أخرى. بل ولتحقَقَ هدف الإجهاز على المقاومة. في بحثه ودراسته للتاريخ البشري وفق منهج تجريبي علمي، نص المؤرخ أبن خلدون (1332-1406 م) على أن الوقائع والأحداث التي تجري في الزمن الحاضر، والتي لها ما يشابهها من الأحداث والوقائع في الزمن الماضي وفي نفس المكان، فإنه يمكننا أن نتنبأ بمستقبلها. وهذا التنبوء العلمي بالمستقبل قد أخذ به علم الاجتماع الحديث. وعندما يؤكد أبن خلدون على إدخال السببية في مجال البحث التاريخي، لأن معرفة السبب تمكننا من معرفة المسبب، وإن قراءة المستقبل ترتبط بالأسباب التي تتفاعل في زمننا الحاضر. لذا فإن المستقبل يمكن أن نتنبأ به وفق أسس علمية. فالتاريخ عند أبن خلدون علم من بين العلوم الطبيعية الأخرى، وظاهرة من ظواهر الطبيعة ليس إلا. ولهذا كتب في «المقدمة» ما يلي: «إنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام وربط الأسباب بالمسببات وإتصال الأكوان بالأكوان وإستحالة بعض الموجودات إلى بعض». وإذا ما طبقنا هذه النظرية على الوضع في العراق بين زمن الاحتلال البريطاني أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وما تبعه من ثورات وإنتفاضات إنتهت بزوال الاحتلال وإنتصار الثوار، وبين الاحتلال الأمريكي منذ العام 2003 ولحد يومنا هذا، مع إستمرارية النهج الجهادي المقاوم الذي أجبر الإدارة الأمريكية على وضع جدول زمني للإنسحاب، فإن الاحتلال لا محال زائل وإن المستقبل يتجه فقط صوب المقاومة العراقية. رصيد فشل على الرغم من مرور سبعة أعوام على سقوط عاصمة البوابة الشرقية للأمة العربية تحت الإحتلال ووعود ساسة واشنطن ولندن وبقية شركائهم بأن يحولوا بلاد الرافدين إلى جنة في المنطقة العربية، ونموذجا يمكن تعميمه ليخلص الولاياتالمتحدة وإسرائيل ممن تصفهم بالأنظمة الشمولية والدكتاتورية وتلك الساعية لفرض أوهام الوحدة العربية من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي وتدمير إسرائيل، تكشف الحصيلة زيف كل ذلك، وتعثر كل المخطط، وتفضح أكبر وأفظع الجرائم ضد الإنسانسة منذ عقود طويلة. لقد تحول العراق إلى جمهورية أرامل وأيتام وقد حذرت عدة منظمات دولية من ذلك، بعد أن فاق عددهم 8 ملايين شخص مع نهاية سنة 2008. وعكست منظمات دولية تابعة للأمم المتحدة حالة المجتمع العراقي بعد الاحتلال الأمريكي لهذا البلد بأرقام مهولة. فقد قدرت منظمة الأممالمتحدة لرعاية الأمومة والطفولة «اليونيسيف» عدد الأيتام في العراق بأكثر من 5 ملايين و700 ألف طفل حتى عام 2006. وأكدت دراسة أجرتها الأممالمتحدة ومراكز أبحاث أخرى أن عدد الأرامل في العراق قد بلغ 3 ملايين امرأة. زيادة على ذلك أصبح العراق الذي كان يستقدم العمالة من الخارج لسد حاجيات اقتصاده بلد العاطلين حيث أن أكثر من 60 في المائة من القوى العاملة عاطلون عن العمل. أما التعليم فلا حرج حيث تعود الأمية لتشمل الملايين بعد أن كانت قد محيث قبل الغزو حسب تقارير الأممالمتحدة. لقد تم قتل أكثر من مليون ونصف مليون عراقي على الهوية، واصبح أكثر من أربعة ملايين عراقي لاجئين خارج بلادهم في حين شرد أربعة ملايين آخرين داخل العراق نفسه، واجبروا عل ترك منازلهم ومدنهم وقراهم. وعمل التحالف العملي بين واشنطن وطهران على تغيير الخارطة السكانية في العراق وتمهيد الأرضية لبناء دويلات الكانتونات الطائفية. بغداد جاء في تقرير للمركز العربي الألماني صدر في الربع الثاني من سنة 2010: إن سكان بغداد يعانون من ظروف العيش الصعبة. سكان المدينة يتحدثون عن معاناتهم واحتياجاتهم وآلامهم وآمالهم ويستذكرون بغداد التي تغير حالها وصعب وضعها. ومن لم يزر مدينة بغداد منذ مدة، فإنه سيجد صعوبة في التعرف من جديد على هذه المدينة الواقعة على نهر دجلة والضاربة في عمق التاريخ. في ساعات الليل المتأخرة توحي المدينة وكأنها مازالت محافظة على طابعها القديم، موسيقى تقليدية تتصاعد نغماتها من شارع أبي نواس، وفي نادي العلوية تعزف مجموعة من كبار السن مقامات موسيقية من التراث العراقي القديم. أما في جنوبالمدينة فلهيب النار المنبعث من المنشأة النفطية «الدورة» شاهد على خيرات البلاد النفطية وثرواتها. وما أن ينقشع ضوء الصباح حتى تظهر بغداد على صورتها الحقيقية التي تحولت إليها. فبعد مرور سبع سنوات على سقوطها، أصبحت المدينة التي يبلغ تعداد سكانها سبعة ملايين نسمة عبارة عن مجمع كبير للفقراء: جبال من القمامة تتناثر هنا وهناك، أنقاض الحرب من منازل ومتاجر لم تبارح مكانها. يمكن للمرء أن يتحدث عن كل شيء في بغداد، إلا عن عملية إعادة الأعمار، المدينة صارت موبوءة فالشوارع مهدمة والأوساخ والقمامات في كل مكان. حتى عندما كانت ارتال الدبابات الأمريكية تتقدم نحو مشارف بغداد سنة 2003 كانت المدينة أحسن حالا فالكهرباء والمياه كانت تصل إلى الجميع والقمامة لم تتراكم أبدا. الربح والخسارة كتب الصحفي العراقي عوني القلمجي «يكفي للأنصار «المقاومين» أن لا يخسروا حتى يربحوا». هذه هي المقولة الشائعة التي يستخدمها وزير الخارجية الامريكية الأسبق هنري كيسنغر، كلما جرى تقييم للوضع العسكري في العراق. وهو بذلك اراد الهروب من الاعتراف بهزيمة قوات الاحتلال لعجزها عن انهاء المقاومة الباسلة، في حين كان الكاتب والخبير الاستراتيجي الامريكي جارلس رايس أكثر شجاعة، حيث قال أننا جيدون في الحرب التقليدية ولكننا فاشلون في الحرب ضد المقاومة، ليس هناك من ضوء في نهاية النفق، أن استخباراتنا فاشلة في العراق ولا تستطيع التمييز بين الأشرار «المقاومين» والجيدين العملاء»، تماما كما كنا في فيتنام، فلا ندري الموظف العراقي الذي يعمل معنا، هل هو معنا بالفعل أو أنه يتجسس علينا ويعمل لصالح المقاومة؟. أن استمرارية هذه الهجمات وتكرارها ستقضي على إرادتنا ورغبتنا في مواصلة الحرب وتجعل المقاومة تنتصر في النهاية». اما الاخرون الذين اكدوا هذه الحقيقة، من جنسيات مختلفة، فعددهم يفوق العشرات، منهم، على سبيل المثال، الألماني شبنغلر في كتابه تدهور الحضارة الغربية، وويلي ولسن الانكليزي في كتابه سقوط الحضارة، وجيمس دوبنز، المحلل في مركز «راند كوربوريشن» للأبحاث، وشون كاي، الأستاذ الجامعي في أوهايو، ونعوم تشومسكي، وبرجنسكي وغيرهم. في حين تنبأ بول كندي، صاحب كتاب صعود وسقوط الامبراطوريات، قبل الاحتلال بعدة شهور، ب «ظهور مقاومة عراقية قادرة على الحاق الهزيمة بامريكا وباسلحة بسيطة، وبعمليات استشهادية لم تألفها من قبل». بينما حذر مؤلف كتاب تناقض القوة الأمريكية، جوزيف ناي، الذي كان يعمل مساعدا لوزير الدفاع السابق في حكومة بيل كلينتون، في نهاية كتابه، الحكومة الأمريكية من «المصير الذي قد تجد نفسها منساقة إليه، والذي يشبه مصير الإمبراطورية الرومانية، التي فسدت من داخلها، وذلك للتناقضات الكبيرة الموجودة في سياسات القوة الأمريكية». إن النموذج الديمقراطي الامريكي أصبح يرمز إليه بسجناء «أبي غريب» معصوبي العينين أكثر مما يرمز إليه تمثال الحرية الشهير». الاستطراد هنا له وظيفة كونه يكتسب اهمية خاصة جراء الحملات الضخمة التي يقودها الاعلام الامريكي العملاق ضد المقاومة العراقية، فمثل هذه الاعترافات والتنبؤات تؤكد على ان انتصار المقاومة ضد قوات الاحتلال أمر حتمي في نهاية المطاف، مادامت لم تخسر المعركة. وان تراجع المقاومة لا يعني هزيمتها، كما اشاع بعد أنصار العصر الأمريكي، لتبرير انتقالهم الى عملية المحتل السياسية، لتحقيق مكاسب ذاتية او فئوية ضيقة. فالتراجع في الحروب الشعبية الطويلة الامد، ليس سوى صفحة من صفحاتها يتم اللجوء اليه، لاسباب تتطلبها تطورات الصراع، او لدواع ذاتية او موضوعية. والتاريخ لم يقدم لنا مثالا واحدا عن مقاومة خاضت حرب تحرير شعبية طويلة الامد، كالتي تجري رحاها على ارض العراق، وسارت بخط صاعد على الدوام. بل ان هذه الحروب تعتمد اصلا على مبدأ الكر والفر قبل انتقال المقاومة الى الهجوم الاستراتيجي النهائي لطرد قوات الاحتلال. التضليل الكبير يوم الثلاثاء 3 أغسطس نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية تقريرا حول وعود أوباما بإنهاء الحرب على العراق، جاء فيه: كلمة «انفصال» لم تجسد يوما التصور في العلاقات بين دولتين يبدو مصيرهما مرتبطا على مضض، رغم مدى الإرهاق الذي تسببه إحداهما للأخرى. اللحظات جاءت ومضت: الحكومات الانتقالية، إعلان السيادة، توقيع الاتفاقات. وكان إعلان اوباما يوم الاثنين ضمن واحدة من تلك اللحظات. يوم الأربعاء 4 أغسطس نشرت صحيفة «ذي غارديان» البريطانية مقالا للكاتب شيموس ميلن يقول فيه انه بالرغم من قول الرئيس اوباما ان انسحاب القوات الامريكية من العراق سيتم في الموعد المحدد له، فان اعادة تسمية القوات الامريكية المقاتلة لن تعيد للعراقين بلدهم. وأضاف ميلن: «بالنسبة الى معظم الناس في بريطانيا والولاياتالمتحدة، أصبح العراق شيئا من التاريخ. وقد أخذت أفغانستان حصة الأسد من انتباه وسائل الإعلام بينما ترتفع لا محالة حصيلة القتلى في صفوف قوات حلف شمال الأطلسي. والآن يتركز الجدل بشأن العراق على القرار الأصلي بالغزو: اما ما يحدث هناك في 2010 فلا يكاد يذكر. ولا بد ان يكون هذا قد تعزز من خلال إعلان الرئيس اوباما هذا الأسبوع أن القوات الأمريكية المقاتلة في العراق ستسحب. وبالنسبة الى قسم كبير من الصحافة الأمريكية والبريطانية، كان هذا هو الأمر الحقيق: اذ هللت العناوين ل»نهاية» الحرب وقالت «القوات الأمريكية تغادر العراق». ولا يمكن ان يكون هناك شيء أبعد من ذلك عن الحقيقة. ان الولاياتالمتحدة لا تنسحب من العراق على الإطلاق- إنها تعيد تسمية الاحتلال. وبالضبط كما تم تغيير عنوان حرب جورج بوش «على الإرهاب» إلى «عمليات الطوارئ في الخارج» عندما أصبح أوباما رئيسا، سيتم تغيير اسم «العمليات القتالية» الامريكية إلى «عمليات الاستقرار». وبينما أخبر الناطق باسم الجيش الأمريكي في العراق الجنرال ستيفن لانزا صحيفة «نيويورك تايمز» بأنه: «بصفة عملية، لن يتغير شيء»، فبعد الانسحاب الذي سيتم في أغسطس سيكون هناك 50 ألف جندي أمريكي في 94 قاعدة عسكرية، من أجل تقديم «الاستشارة» وتدريب الجيش العراقي، و»توفير الأمن»، وتنفيذ المهمات «المضادة للإرهاب». أي أن ذلك، بالنسبة الى الجيش الأمريكي، يغطي بشكل جيد كل ما قد يرغبون بفعله. صحيح أن 50 ألفا هو خفض كبير لعدد القوات في العراق قبل عام. لكن ما سماه أوباما ذات مرة «الحرب الغبية» هي حرب مستمرة بلا رحمة في الواقع. وحتى إن كان من النادر رؤية الجنود الأمريكيين في الشوارع، فإنهم ما زالوا يموتون بمعدل ستة كل شهر، ويتم قصف قواعدهم بانتظام من جانب جماعات المقاومة، بينما يقتل الجنود العراقيون والعسكريون المدعومون من قبل الولاياتالمتحدة بأعداد أكبر بكثير. إعادة تسمية في غضون ذلك، فإن الحكومة الأمريكية لا تعيد تسمية الاحتلال فحسب، بل إنها تخصخصه أيضا. هناك نحو 180 ألف متعاقد من القطاع الخاص يعملون مع القوات المحتلة، ومعظمهم «من مواطني دولة ثالثة»، عادة من الدول النامية. الولاياتالمتحدة تريد الآن توسيع أرقامها كثيرا في ما سماه جيريمي سكاهيل، الذي ساهم في كشف الدور الذي قامت به شركة «بلاكووتر» الأمنية، «التدفق القادم» من المتعاقدين في العراق. تريد هيلاري كلينتون أن تزيد أعداد المتعاقدين العسكريين العاملين لوزراة الخارجية وحدها من 2700 إلى 7000، لتركيزهم في خمسة «مراكز توظيف دائمة» في العراق. ميزة الاحتلال ذي المصادر الأجنبية هو أن يتحمل آخرون الموت من أجل الحفاظ على السيطرة في العراق. كما يساعد ذلك في الالتفاف على الالتزام الذي قطع قبل مغادرة بوش منصبه بقليل، بسحب كامل القوات الأمريكية من العراق بحلول نهاية 2011. اما المخرج الآخر، وهو المتوقع لدى جميع الأطراف، فهو الطلب الجديد الذي سيأتي من المنطقة الخضراء للولايات المتحدة بالبقاء لمدة اطول. والواضح هو أن الولاياتالمتحدة، التي يعدل حجم سفارتها في بغداد الآن حجم حاضرة الفاتيكان، ليس لديها نية السماح بانفكاك العراق في أي وقت قريب. ويمكن العثور على أحد اسباب ذلك في العقود الاثني عشر التي مدتها 20 عاما لتشغيل أكبر حقول النفط العراقية التي سلمت العام الماضي لشركات أجنبية، وبينها ثلاث شركات أمريكية انكليزية كبرى استغلت النفط العراقي خلال عهد الاستعمار البريطاني قبل العام 1958. بغداد ستنهض مجددا لقد كانت الحرب على العراق فشلا سياسيا واستراتيجيا للولايات المتحدة. ذلك انها لم تتمكن من فرض حل عسكري، ناهيك عن تحويل البلاد إلى منارة للقيم الغربية أو شرطي للمنطقة. وهناك دلائل على أن واشنطن تسعى لإيجاد شكل جديد من أشكال النظام شبه الاستعماري بالوكالة للحفاظ على قبضتها على العراق والمنطقة. لو كانت بغداد تقدر أن تسقط لكانت قد سقطت على يد هولاكو فلا تنهض مجددا. ولكنها نهضت. ومن كل مجزرة تالية، ظلت تنهض ولتنحر الغزاة الذين نحروها. وقد فعلتها بغداد، في تاريخها، 12 مرة. ومرة تلو الأخرى كانت المجازر هي السلاح الذي يستخدمه الغزاة. وما أخطأوا هذه المرة. فقد حاولوا قتلها بأكوام الجثث، وبفرق الموت، والتهجير، وحواجز الكونكريت، وبمزيج من مليشيات وجنود ومرتزقة من كل جنس. ولكن شاهد التاريخ يشهد انها تقاوم اليوم أفضل مما فعلت في كل مرة. وتتباهى بفرسان حريتها أكثر من كل مرة. وتدحر رعاع العصر أسرع من كل مرة. وهي تدفع غزاتها وعملاءهم الى دَرَك لم يروا له قاعا بعد. لو لم تكن بغداد بغدادَ لما كان لها من صمود أهلها ما كان. ولكنها من خلال الرماد والموت، كالعنقاء تنهض. وتاريخها هو الذي يصنع العبوة الناسفة.