"الحياة... إنها العنصر الوحيد الذي تستطيع أن تتنفس فيه بعض الكائنات المهملة" بودلير "الأكثر يأسا وتشاؤما. الأكثر جمالا" أنطوان كومبانون فيلم "هم الكلاب" كتب له السيناريو و أخرجه هشام العسري، أنتجه نبيل عيوش – عليان للإنتاج، من تصوير علي بنجلون ومونتاج صفاء بركة وتشخيص كل من حسن باديدة، يحيى الفاندي، عماد فجاج، جلال بو الفطايم، حسن هاسكا... "خلال إنجازه لبرنامج عن حركة 20 فبراير، يلتقي طاقم تصوير تلفزيوني برجل مجهول، وهو يدعي أنه اختفى قسرا منذ مدة تزيد عن 30 سنة خلال الإضرابات الشهيرة لسنة 1981 قبل أن يجد نفسه في وقتنا الحاضر وسط مظاهرة لحركة 20 فبراير" ... كان هذا ملخص الفيلم ضمن منشورات المهرجان الوطني للفيلم الأخير والذي شارك فيه الفيلم ونال جائزة النقد وجائزة أحسن أداء رجالي ...
من الوهلة الأولى (اللقطة الأولى) يبدو الفيلم مغايرا وطلائعيا وخارجا عن القواعد، فمشاهد الفيلم الأولى (الكادرات المتحركة/وضعية الكاميرا/الحوار/خصوصية الفضاء ...) تخرق ما تعوده المشاهد المغربي وتعلن منذ البداية عن رهان أسلوبي فيه كثير من الجرأة والمغامرة، مما سيجعل المشاهد يدخل في حالة من الاستنفار ويدفعه ليعيد تعديل جلسته واستحضار حذره وتركيزه، فالمخرج استهل مشهده الأول بكادر مقرب (جدا) لبوق هو مصدر صوت احتجاجي يمرر من خلاله المخرج معطيات آنية (البطالة/التهميش/الإقصاء/الظلم ...) هذا الاستهلال لم يستجب فيه هشام العسري كثيراً لإغراءات الأنماط المسبوقة في السينما (المغربية) حيث ابتعد عن الأفكار المتصورة سلفا، والأشياء المألوفة والتوسلات الفنية العامة. لهذا سيكون على المتفرج أن لا يسارع إلى الحكم عليه أو التذمر منه لأنه سيجد نفسه أمام مشاهد انفعالية متحركة وغير مريحة لم يألفها من قبل في الأفلام المغربية التي دأبت (الكثير منها) على الاعتناء السطحي بالمشاهد المصورة بكادرات ثابتة وعلى نحو جميل ومنمق من أجل التأثير على الآخرين وإستثارة الإعجاب، هذا النزوح الأسلوبي لسينما العسري يرافقه في البداية –دائما- تصعيد غير منطقي في الرفض والنقد جماهيريا، وينتهي بتثمينها، فقدر أفلام العسري أن ربحها يكون بالخسارة، فأسلوبه بالذات يحلو لعينة من المشاهدين أو النقاد أن يطيلوا حوله الكلام. الشاهد عندنا ما لاقاه فيلمه الروائي الأول "النهاية" في بدايات عرضه من سوء فهم ونقد متسرع وغير ممحص. ولا شك أن المتتبع لأعمال المخرج هشام العسري سيلاحظ أنه يؤشر على نهج فني وجمالي خاص وأسلوب معين في التعامل مع حكاياته. لذا يستحق هذا المخرج أن لا يسارع المتفرج إلى رفض منهجه وأن يتيح حيزا للتمعن والتفكير، وأن يهتدي لمشاعره الصادقة وثقافته الطموحة ويعزز التجربة المتنامية لهذا المخرج في حقل السينما المغربية. ويبدو أن تبرم هشام العسري من المألوف تعزز هنا (هم الكلاب) بجاذبية صورته وحيوية كاميرته الخاصة، حيث لم يركز المخرج طاقته الإبداعية من أفكار وأساليب تقنية لتقدم فقط صورة فيلمية بمستوى فني مرموق بالشكل المتعارف عليه تقليديا، لكنه حافظ على دقة مميزة في انتقاء الألوان وإتقان في الصوت بأبعاده المتكاملة. كما شكل كادرا فنيا متحركا وعميقا من حيث المؤشرات الدلالية والمرتكزات الحكائية، وأعطى تصورا مركزيا أشر عليه مند بداية الفيلم ووجه صورته مباشرة لمخاطبة المشاهد. لقد أجاد هشام العسري في تفعيل صورة فيلمية متطرفة نوعا ما تورط المتفرج وتدخله ضرورة وسط أحداث البطل من خلال لقطات التتبع tracking shots وبكاميرا غير ثابتة تؤكد درجة التوتر الكبيرة وتبين تأثير طول حكاية البطل انطلاقا من ظهوره في ساحة الاحتجاجات إلى تتبعه بغرض اكتشاف حكايته (البحث عن عائلته) إلى الوقوف على حقيقته. ولعل ما يميز فيلم هشام العسري هو أن الأفعال على الشاشة تتجلى وتتنامى على نحو متعاقب بصرف النظر عن واقع كونها تحدث على نحو متزامن أو ارتجالي عند استعادة البطل للأحداث الماضية. وهو يؤكد بشكل صريح كون الماضي لا يمكن استعادته بأي حال بل وغير مهم في ذاته، ما يهم أكثر هو الوعي الفردي بالذات ومنزلة الرؤى الذاتية عن الحياة وعن الماضي. ويظهر أن المخرج من خلال اختياره السردي المتنامي حاز على حصة كبرى من التفوق تجيب عنه وتدافع عن أسلوبه (الخاص/الشخصي) personnel style ويجعلنا نأمل في أن يستنبت في حقلنا الإبداعي السينمائي بدرة ما يعرف بأسلوب المرحلة period style الذي يحتفي بطابع ومزاج فئات معينة من المخرجين، ذلك أن التفنن في بلورة أساليب جديدة من التصوير لن يكون إلا مجرد نزوح والتفاف غير كاف للتأسيس لمكون جديد. ربما نكون مبالغين في التعبير، لكن علينا أن نعترف بأن هناك محاولات "مغربية" تحمل هذا الهم وتبذل جهد يحسب لها في بلورة أساليبها الخاصة (حكيم بلعباس/فوزي بنسعيدي/هشام العسري ...). لقد جمع لنا العسري في فيلمه (هم الكلاب) خيوط الحكاية بانتظام، وجعلها تنتظم في مسار واحد هو مسار الشخصية/البطل 404 وصنع لنا بطلا من ذاك الزمن البعيد (زمن الاعتقالات/الاغتيالات/القهر) وقدف به -الآن- في زمن الأبطال الذين لم يعودوا أبطالنا (أبطال بمظهر حسن/أنيق/وسيم ...). كما جعلنا الفيلم نستعيد فترة غابرة ونتذكر حكايات مرت على أسماعنا كان أبطالها (طلبة/يساريون/اشتراكيون/عمال/فنانون/ ...) وحتى أشد المكلومين بواقع هذا الماضي المدموغ برهاب قديم بصم فترة غير سعيدة من تاريخ المغرب لم يكن أحد منا يظن أن هشام العسري سينفخ في رماد خامد ليجعلنا نتدفأ بعذاب وألم رجل/بطل مر يوما من هنا، رجل كانت له عائلة وجيران وبيت وأصدقاء وأسرار، هذه الجرأة (على مستوى التناول وليس كحق في التعبير) تدعونا لنتساءل ماذا يعرف المخرج هشام العسري عن سنوات الرصاص؟ ما يهم هو أن المخرج العسري –وهذا يحسب له- تفاعل إيجابيا مع ميزة فن السينما وحضورها الدائم كوسيلة لسبر معضلات معقدة عبرت زماننا، لكن هل سيكون قدر السينما الخاص حافزا لأن يركبها المخرج السينمائي -هذا على سبيل الإطلاق وليس تعيينا محددا- بدون وعي أو تمحيص أو اتساق مع موضوعه؟... • حول البطل بطل الفيلم 404 كان شخصاً أعزل وغير مهيئ بشكل فعال للمجابهة مع الحياة بعد أن كان محميا منها داخل (عائلة / زوجة/أولاد/أحباب...)، بطل جعله غيابه القسري والملغز (30 سنة) يهيم على وجهه باحثا عن ماضيه، لم تنفعه كثرة التذكر ولم تسعفه الأماكن وأبواب البيوت (الموصدة في وجهه) ولا الأشخاص (الغير الراغبين فيه) ليوقف عندها عجلته الصغيرة (عجلة الدراجة الهوائية/إكسسوار) التي أصبحت رابطه بماضيه وبغايته وأمله ليزيل حرقة اللقاء بأحبائه. البطل 404 بتعبيرات وجهه التي تقوم بجزء كبير من العمل نيابة عن التمثيل السينمائي وصمته وسكونه، سيمنحنا كل هذا انعكاسات روحية سرعان ما أصبحت مرئية دون وساطة أية كلمات، وهكذا سيصبح الإنسان/البطل 404 بالإضافة إلى لوازمه السلوكية (نظرات/إيماءات/مشيته الخاصة) مرئيا من الداخل أيضا ... البطل/الممثل (حسن باديدة) منح المخرج هشام العسري حركية مفرطة في الأداء وقدم بذلك مادة صالحة وجاهزة لبناء شكل فني سينمائي مميز جدا، وخلق ذلك التواصل الذي يعتقده المخرج ضروريا للعمل مع الممثل أثناء الممارسة. ولعل ميزة الممثل حسن باديدة هنا والذي يحب "الديعان" في أدائه هي النتيجة الجيدة والبسيطة والبعيدة عن منهجية محددة للعمل، ويبدو أن الاهتمام بالتركيب العضوي للشخصية وتحديد الاتجاه الصحيح وقلة الملاحظات من المخرج، أعطانا هنا أداءً خارقا للممثل وبناء محكما للمخرج. البطل 404/الممثل حسن باديدة أكد لنا بأدائه، أن له عادات مختلفة وتصور مختلف وذوق وأسلوب خاص في الأداء، فهو يحب البحث أثناء الممارسة عن متنفس لحيويته من خلال النظرات ولحظات الصمت والتأمل في محيطه (مشاهد تفقده للشقة/تأمله للناس والأمكنة/انعزاله بعيدا عن طاقم التصوير). كما يظهر أن النموذج/البطل هنا في الفيلم مبني بوسائل خارجة عن النص (Work in progress) حيث امتلك تلك السلطة الرمزية في قيادة كل المشاهد الهامة، وكأننا أمام حكاية تطور نفسها بنفسها وتتوالى مشاهدها عفويا .... لكن هناك شيء عرضي مؤسف سببه أداء الممثل حسن باديدة، فأداؤه الآسر والبسيط والعفوي والصادق والذي أشر به على لحظات قوة أداء الشخصية الرئيسية، بدا معه أداء الممثلين الآخرين بقوته ومهارته باهتا ومزيفا على نحو لا يحتمل، وهذا نقلني إلى حكاية ستانسلافسكي مع المرأة العجوز في مسرحية سلطة الظلام. • حول المونتاج إيقاع المونتاج خلاق يتولد من تتابع اللقطات وفقا لعلاقاتها من ناحية الطول، وهو إحساس بالاستمرارية يحدده طول اللقطة ومضمونها الدرامي (لقطات التتبع/لقطات السكون) كما أن المحدد الذي تحكم في عملية المونتاج هو صدمات البطل السيكولوجية والتي تظهر أكثر كلما كانت اللقطة تتضمن حدثا أكبر (لقاؤه بالحبيبة/لقاؤه بالعائلة/...). هذا الخط الدرامي وإن كان يتنامى متسارعا، إلا أن الانتقال من مشهد إلى آخر لا يتم جزافا أو بدون تخطيط وتمعن لأنها (أي الانتقالات) لا تتم لمجرد تغيير مشهد بمشهد آخر، إنما تخضع لبواعث نفسية وجمالية. ومن جوانب القوة في الفيلم تلك القصدية المتمركزة في (المونتاج) والتي تستدرج المتفرج وتبهره، وأحيانا تخذله وتصدم توقعاته، هذا الاستدراج تقوده كاميرا موضوعية تعبر عن الشاهد الخارجي المحايد عبر لقطات تتبع طويلة للخلف/أمام (الشخصية)long backward tracks، هذه المواجهة المباشرة والقريبة بين الكاميرا والبطل 404 تتيح للجمهور أن يرى وجهه البائس وملامحه الباهتة علاوة على الأشياء التي يتفاعل معها (الناس/الأماكن)، وهنا المخرج لا يترك الكاميرا تصور على هواها دون إعداد بل يحركها وفق ما يمليه عليه حسه الفني وإدراكه بحيث ينقل لنا أفكارا ومعطيات مهمة، وكأننا نرى ألوان الواقع وليس ألوان الفيلم، وهو بذلك ينزاح – قليلا/نسبيا- على ما حدده ارنهايم كفرق بين صورة الكاميرا وصورة الواقع (تحديد المكان / البعد عن الشيء/ إلغاء استمرارية المكان والزمان/التأطير/قصر النشاط الحسي على عناصر بصرية/انعدام اللون (نرى ألوان الفيلم وليس ألوان الواقع)، ويقترب كثيرا من فنية الفيلم التي أوصى بها إزنشتاين ( الفيلم الفني ... ينبغي أن يعيد تشكيل الواقع). إن الحكاية في عمومها تقوم على فعل التقديم l'acte de présentation، وتقديم الحكاية يتطلب وساطة حقيقية ينهض بها فعل التشخيص والتمثيل l'acte de représentation وهي أفعال تساعدها على أن تكون مقنعة وقابلة للتصديق، وحكاية البطل 404 تتمظهر بصدق لأنها أحداثها قدمت قريبة من الحياة نفسها كما هي، ولأن إحساسنا بمعاناة هذا البطل/الشخصية كان قريبا إلى أحداث تاريخية مرت ثقيلة وما زال أثرها لم يمح بعد، لذا فالحكاية هنا تأتي مصحوبة بمؤشرات صالحة حسب مفهوم الصدق والصلة بالواقع ... • حول الحوار بالنسبة للحوار ينزع في غالبه إلى نوع الحوار العرضي الذي يعطي الانطباع بأن الحوار مسجل عرضا ومن غير قصد، وتجعلك تشعر كأنك أمام أشخاص يتحدثون دون أن يعلموا بأن أصواتهم مسجلة ... أصوات لها رنين مألوف على السمع وبنبرة رخيمة وعذبة وهو ما جعل الحوار يأتي متألقا (مكتوب/مرتجل) ومؤدى على نحو رائج وقريب من الواقع. كما أن منطق حركات الشخصيات والمشاعر والطاقة كان حقيقيا وملموسا بشكل طاغ من خلال تفاعلهم الحواري، والذي حضر كمكون قوي جدا في تدعيم البناء الدرامي للفيلم والحفاظ على توهج الحكاية، فجاء الحوار مدعما للحظات الصمت الجميلة للبطل 404 المرفوقة بسلوكات أبدع من خلالها الممثل حسن باديدة و كان لها أثرها العاطفي والجمالي داخل بنية الفيلم .... • حول غياب الموسيقى الأكيد أن الموسيقى منذ بداية تعالقها مع السينما قد فتحت أفاقا رحبة أمام الصورة الفيلمية وقامت بدور تكويني وإنشائي وأصبحت لغة سينمائية بديلة عن الأصوات الحقيقية في الواقع. وأكملت المعنى المألوف بتحويلاتها النفسية. عند العسري يختلف الأمر بشكل يكاد يكون التفكير في الموسيقى ترفا وبذخا زائدا، فالمشاهد لا يأتي إلى أفلام هشام العسري ليسمع موسيقى ولا يبدو أنه في حاجة إليها لتعينه على تفسير الصور ولا أن تكون تعبيرية ولا زخرفية حتى، لذلك ظل المخرج بعيدا عنها قريبا من الأصوات الحقيقية في الواقع (أصوات الاحتجاج/السوق/الشارع ...). هذا ويبقى فيلم "هم الكلاب" لمخرجه هشام العسري مولوداً جديداً يكرس أسلوبا خاصا لمخرج لا يسعني إلا أن أعلن أننا سننتظر أعماله القادمة، لأن نوع فنه يعجبنا ...