حتى عندما كانت السينما ذلك «العظيم الصامت» كما وصفها تولستوي ذات مرة، فقد كانت تخاطبنا. فللسينما كما لكل الفنون لغة تعبيرية خاصة بها تطورت عبر أكثر من مائة عام، بدأت تتشكل مع أول عرض سينمائي جماهيري للأخوين لوميير في كانون الأول 1895، ولا زالت تراكم وتطور مفرداتها وقواعدها مع كل فيلم جديد يولد. مع بداية ظهور السينما في نهاية القرن التاسع عشر، لم يكن قد أدرك مبدعو ومطورو هذا الاختراع الجديد بعد أنهم قد أطلقوا فناً جديداً مستقلاً بذاته، فقد اقتصر استخدام «السينماتوغراف» آنذاك على عروض لمشاهد توثيقية من الحياة، أدهشت رواد الصالات التي افتتحت حديثاً وجعلتهم يقفون بالطوابير لمشاهدة هذه الأعجوبة الجديدة. في بداية عصر السينما اقتصر دور المخرج على تصوير القصة كما يتم تصوير مسرحية، لقد كان الأخوان لوميير يقومان بنصب الكاميرا ثابتة بحيث تكون عمودية على المشهد، أما الممثلون فكانوا يدخلون ويخرجون إما من اليمين أو من اليسار بشكل أفقي، وتكون اللقطة عامة بحيث تصور كل شيء والمشاهد ينتقي الجزء الذي يوجه له اهتمامه، أي باختصار كأن الكاميرا هي مشاهد يجلس في منتصف الصف الأمامي للمسرح. ثم جاء المونتاج. كان جورج ميليس أول من استخدم فكرة المونتاج، ثم جاء ديفيد غريفيث الأميركي ليؤسس سينما المخرج بانياً على ما قدمه المبدع إدوين بورتر، ثم قام أيزنشتين الروسي ورفاقه من الرواد الأوائل مثل مواطنه كوليشوف بتكريس هذه المدرسة. أما في سينما المخرج، فإن إيصال الرسالة والشحنة الإعلامية، يتم بطرق سينمائية مستحدثة تنجز الإيحاء المطلوب، يستخدم فيها المخرج المونتاج وحركة وزاوية الكاميرا والديكور والصوت ليفرض وجهة نظره. لنأخذ الطريقة الشهيرة التي اكتشفها كوليشوف – والمسماة باسمه «تأثير كوليشوف» على سبيل المثال. لنفترض أن اللقطتين التاليتين مرتا على الشاشة متعاقبتين: 1- ممثل ينظر باتجاه ما وعلى وجهه نظرة توحي بالرغبة. 2- صحن مليء بالطعام. 3- سيوحي لك تعاقب اللقطتين بأن هذا الشخص يشعر بالجوع. هنا قام المخرج وبوساطة المونتاج بإيصال الرسالة المطلوبة. ولتوضيح ذلك جيداً، لنفرض أن المخرج قام بترك اللقطة الأولى كما هي تماماً، واستبدل اللقطة الثانية بلقطة لامرأة تبرز مفاتنها، عندها سيتغير مضمون المشهد جذرياً! قد تبدو هذه القاعدة سخيفة، ولا تحوي ما يستحق التوقف. ولكننا قد نحس بذلك الآن لأننا نملك معارف سينمائية متراكمة بحكم كوننا مشاهدين متابعين ومنذ مدة طويلة، أما في بداية القرن العشرين فقد كانت لهذه الطريقة أثر السحر في مجال الإخراج السينمائي. بعض هذه الطرق والقواعد احتاجت وقتاً حتى أخذت شكلها النهائي، وأصبحت مقبولة ومفهومة كلية من الجمهور العادي، فكتب تأريخ السينما تحتوي على العديد من القصص الطريفة التي حدثت في بدايات عهد السينما، التي تبين كيف كانت ردة فعل الجمهور الأولى على أساليب سينمائية حديثة آنذاك، كالرعب والهيجان الذي حدث في إحدى الصالات بسبب ظهور اللقطات القريبة من جسم الممثل، أو قفز بعض المشاهدين من مقاعدهم بسبب لقطة اقتراب القطار باتجاه الشاشة! ولذلك فقد طور السينمائيون الرواد قواعدهم الجديدة بحذر، وخاصة فيما يتعلق بمفهوم اللقطة والمشهد وبالاختصار والتغير الزماني والانتقال المكاني، حيث كان لا بد من معالجة فنية لهذه القضايا للوصول إلى لغة فنية تعبيرية متفردة تستطيع أن تكوّن فناً جديداً مميزاً، سمي فيما بعد بالفن السابع. بدا وكأن السينما قد وجدت طريقها، مع غريفيث ومن ثم مع العبقري أيزنشتين. فقد اتضح لرواد السينما الأوائل أن اللقطة* وليس المشهد هو الوحدة الأساسية في بناء الفيلم السينمائي، فاللقطة في السينما تقابل الكلمة في اللغة، والمونتاج القائم على تجميع اللقطات قادر على خلق لغة فنية مدهشة لم يزل المهتمون والعاملون بحقل السينما يكشفون تأثيراته وأبعاده إلى يومنا هذا! فظهر المونتاج المتوازي «تصوير حدثين مختلفين مكانياً متوازيين زمنياً» والمونتاج المتبادل «تصوير حدث واحد بواسطة مجموعة من اللقطات لزوايا مختلفة من المشهد»، وظهرت اللقطة القريبة واللقطة الكاملة التي تفيد تركيز انتباه المشاهد وتعميق إحساسه بشعور الممثل، وظهر أيضاً الترافيلينج أو الكاميرا المتحركة على محور، وبدأ المخرجون يعتمدون على استخدام الإضاءة الفنية والموسيقى المعبرة مع بدء ظهور الصوت. ربما كان أصدق لقب حازه المخرج الأميركي ديفيد غريفيث من بين ألقابه الكثيرة هو عراب المونتاج، ولكي نتأكد من ذلك ما علينا سوى مشاهدة فيلمه الخالد «مولد أمة». وتكفي هنا الإشارة لمشهد واحد هو مشهد اغتيال الرئيس الأميركي ابراهام لينكولن خلال حضوره لعرض إحدى المسرحيات، هذا المشهد الذي يتألف من 55 لقطة متتالية، الأمر الذي كان يشكل سابقة في ذلك الوقت، فنرى كيف أفاد هذا التقطيع المتقن في التصعيد الدرامي عن طريق الانتقال من الرئيس إلى المسرح إلى حارسه الخاص إلى باقي الجمهور إلى القاتل بلقطات سريعة، لينتهي المشهد بالذروة الدرامية وهي مقتل الرئيس الأميركي. ومع منتصف العشرينيات ظهر المخرج الروسي سيرجي أيزنشتين ليصل بسينما المونتاج إلى أقصى حدودها، وليبين الدلالات النظرية لعملية المونتاج، فهو الذي وضع نظرية المونتاج، التي تقوم على مبدأ أن عملية تتالي لقطتين في الفيلم ليس حاصلا جمعهما بل خلق لشيء ثالث جديد ومختلف بالمضمون والتعبير، وهو الذي وضع نظرية التصادم، والتي تؤدي لمضاعفة تأثير المشهد وإحساس المشاهد بالإثارة والتحفز. وفيلمه الخالد «المدرعة بوتمكين» 1925 الذي قال عنه تشارلي شابلن «أنه أعظم فيلم في تاريخ السينما»، والذي لا زال يلهم السينمائيين إلى هذا اليوم، شاهد على عبقريته الفذة. هذا الفيلم الذي أدى إلى خروج مظاهرات في بعض العواصم الأوروبية، والذي صدر قرار بمنعه في ألمانيا، وهو الفيلم الذي دفع بعض المثقفين إلى تقديم طلبات انتساب للحزب الشيوعي في أوروبا. وفي مشهد مذبحة الأوديسا يستطيع المشاهد أن يتلمس الأثر العملي لكل المبادئ النظرية التي وضعها أيزنشتين، وهنا قد يكون من المفيد الإشارة إلى اقتباس برايان دي بالما وفرانسيس كوبولا لبعض المشاهد من هذا الفيلم، أو لنقل تأثرهما به. الأول في مشهد سقوط عربة الطفل داخل محطة القطارات على الدرج من فيلمه «Untouchables»، والثاني في مشهد التداخل بين مشهد ذبح العجل وقتل مارتن شين لمارلون براندو في فيلمه «Apocalypse now». وهكذا أعلنها أيزنشتين صراحة: «فن السينما!.. ذلك يعني قبل كل شيء المونتاج». ولكن هذه لم تكن النهاية لتطور لغة السينما، فتاريخ السينما لم يخلُ عبر جميع مراحله من تيارات سينمائية واقعية مهمة نبذت المونتاج، وحاولت تحييده وتقنين اللجوء إليه قدر المستطاع. فبعد السينما الصامتة، ظهرت موجات واقعية شهيرة كالإيطالية الجديدة والموجة الفرنسية الجديدة وجماعة الخمسة وغيرها الكثير والتي وإن لم يكتب لها الاستمرار إلا أن أحداً لا يستطيع إنكار تأثيرها المهم على مسيرة الفن السابع. وعلاقة الفن بالواقع، هذه القضية الإشكالية القديمة الحديثة، أثرت على رواد الفن السابع وجعلتهم ينقسمون فيما بينهم. فهل يمكن لأي فن أن يقترب من الواقع دون أن يخسر شيئاً من قيمته الفنية؟! ولكن بالمقابل أليست المصداقية الكبيرة للصورة السينمائية وقدرتها على مشابهة الواقع هي سبب تفردها ونجاحها الواسع وشعبيتها الكاسحة في القرن العشرين؟ إن عملية المونتاج بلا شك تقوم بتشويه صورة الواقع وتتلاعب بها وتأولها لصالح المخرج، ولذلك رفضها الكثيرون من مؤيدي السينما الواقعية، والذين رأوا أن الأفضلية يجب أن تكون للموضوع على حساب الصورة وللممثل على حساب المخرج. وبعد أن أرسيت قواعد المونتاج وأصبح استخدامه طبيعياً، برز عدم اللجوء له كخيار فني جديد وكوسيلة تعبيرية مختلفة لبعض المخرجين. وهكذا كانت السينما الواقعية تحاول قدر الإمكان الإبتعاد عن المونتاج واستعاضت عنه بتقنيات أخرى مثل «عمق الحقل»** و«المشهد – اللقطة» ***. لنقرأ ما كتبه الناقد أندريه بازان أحد أهم النقاد الفرنسيين، وهو من منظري الموجة الفرنسية الجديدة حول «المونتاج الممنوع»: «عندما يكون اللب الأساسي لحدث ما يعتمد على التواجد المتزامن لعنصرين أو أكثر من عناصر الحدث، فإن المونتاج يكون محظوراً. وتكون إعادة استخدام المونتاج مبررة في كل مرة لا يكون فيها معنى الحدث معتمداً على التقارب المادي الملموس للعناصر المشاركة في تكوين الحدث». طرفة القداح /الشرق الأوسط