لما كتبنا في مقال سابق، عن اسمهان ذات الصوت الأوبرالي، كان في حسباننا أن نكتب عن فريد أيضا. لأن تلك تستدعي هذا، على اعتبار أن الشقيقين وجهين لعملة واحدة في الفن وظروف الحياة. وعليه فإننا سنستغني عن التفاصيل في حياة سليلي عائلة آل الأطرش، لأنها متضمنة في المقال المذكور : اسمهان الأسطورة المتجددة (أ- ش، عدد : 11064). هو إذن الملحن والعازف والمغني (1914-1974)، الذي شق طريقه عبر الحفر في الصخر. قاسى العوز والمعاناة الشديدة وبخاصة عند انتقال أسرته المكونة من والدته وشقيقيه لمصر. اشتغلت والدته في العديد من الحرف لإعالة الأسرة، وكانت تمتلك صوتا جميلا متمرسا على الغناء فوظفته للاستعانة على عوائد الزمن في إحياء الأفراح. ولحسن حظها أن الملحن الكبير " فريد غصن " كان صديقا للعائلة، فعرفها على كبار الملحنين (داوود حسني - القصبجي - زكرياء أحمد) الذين اهتموا بالصوت الظاهرة لأسمهان حيث عملوا على تمرينه للغناء. فريد هو الآخر استفاد من هؤلاء، وبخاصة في العزف على العود الذي أخذ أصوله عن فريد غصن في البداية. ولنباهته، تعلم العزف بسرعة مدهشة. اشتغل وهو يافع في العديد من المنشآت الفنية، من بينها " كباريه " الفنانة والمستثمرة في المجال " بديعة مصابني ". وبالموازاة مع العمل، ثابر فريد واجتهد وواصل الدراسة وتعلم العزف على العود سواء في المعهد الموسيقي أو على يد كبار كالقصبجي والسنباطي. وهو ما مكنه في ما بعد من قفزة نوعية توجت بمدرسة كبرى في العزف والتلحين والغناء. ابتدأ التلحين وهو لا يتجاوز 17 عاما بأغنية (اعمل إيه علشان أنساك)، ثم خصه بعد ذلك الملحن اللبناني الكبير يحيا " اللبابدي " مدير قسم الموسيقى بالإذاعة الفلسطينية (قبل الاحتلال) بأغنية " يا رتني طير لا أطير حواليك " سيغنيها أمام الملك فاروق سنة 1939، وأرفقها بأغنية " أفوت عليك بعد نص الليل " في نفس السهرة والتي كانت قد أثارت ضجة حيث اتهمها بعض شيوخ الأزهر، بالإباحية، إلا أن غنائها أمام الملك وضع حدا لتلك الضجة. من أولى الأغاني التي لحنها له غيره أيضا أستاذه " مدحت عاصم " (كفاية أشوفك من بعيد) وهي من أقدم الألحان. باستثناء هذين العملين احتكر فريد لنفسه التلحين ولم يعد يستعين بغيره إلى آخر حياته. بل قدم أروع الألحان للكثير من المطربات والمطربين. على مستوى الشعر الغنائي، يعتبر فريد شديد التنوع في الإغتراف من ينابيع شعرية مختلفة وبخاصة في العامية. وفي هذا الإطار تصنف ثلاث اتجاهات، الأكثر تأثيرا التي مهرت سيرته الغنائية والفنية. الأول : يمثله " يوسف بدروس " وهو شاعر غنائي كتب لاسمهان أشهر أغانيها. ارتبط اسمه بفريد وهو من كتب له أول عمل (اعمل إيه علشان أنساك) سنة 1929 وبعدها طقطوقة (أنساك وافتكرك ثاني - وأغنية امت تعود يا حبيبي - وأفوت عليك بعد نص الليل) التي أثارت حفيظة الفقهاء. الاتجاه الثاني : ويمثله الشاعرين (اسماعيل الحبروك وفتحي قورة). الأول شاعر غنائي وناقد وصحفي كبير ترأس تحرير العديد من المنابر لكنه توفى مبكرا عن سن 36 عاما، ولم تسلط الأضواء عليه بالقدر الكافي كقيمة إبداعية. هو غزير العطاء ويكفي أن نذكر أنه كتب لعبد الحليم حافظ (تخونوه - أسمر يا اسمراني - مشغول)، وغنى فريد من أشعاره ( حبيبي سهرني - وحياة عينيك - عيني مهما قالو عنك ...). الشاعر الثاني في نفس الاتجاه " فتحي قورة " الذي خصه بلآلئ جميلة مثل (انت وحشني - علشان مليش غيرك - حلوة بشكل - يا حليوة يا حليوة و حبي وحبك) وهي من الأغاني الخفيفة التي أضافت طعما خاصا لمسيرته الفنية. الاتجاه الثالث : ويجسده أرق شاعر في الرومانسية والعذوبة، وهو الذي سيعرف معه فريد الأطرش الانتقال إلى الأعمال الكبرى (أول همسة - الربيع - حكاية غرامي - نجوم الليل - حبيب العمر ويا حبيبي طال غيابك) بالإضافة إلى أغنيتين " سافر مع السلامة " و " أنا وانت لوحدنا ". هذا فضلا عن أسماء كبيرة غنى لها فريد الأطرش كرائد الشعر العامي " بيرم التونسي " (أحبابنا يا عين - هلت ليالي حلوة ولقى الأحبة ...) بالإضافة إلى القصيدة الفصحى من خلال الشاعر " بشارة الخوري " الأخطل الصغير (عش انت - أضنيتني بالهجر)، ولصالح جودت غنى (يا حكاية العمر كله) وكامل الشناوي شقيق مامون الشناوي (لا و عينيك)، ومرسي جميل عزيز (قلبي وعيني اختاروا) وغيرهم.