3 تنطرح " مصحة الدمى " في هذا الكتاب عبر متن سردي ، نعته القاص ب " حكايات الفوتوغرام " ؛ وقد خلق القاص محتملا سرديا يليق بهذه المصحة والتي هي عبارة عن أجنحة تحاكي الأصل في المصحة . لكن سرعان ما تخرق هذا الأصل ، لتغدو المصحة غير إسمنتية، مسنودة على الحالة المشحونة بالهواجس والأحلام والقلق..فكانت أجنحة المصحة المتخيلة عبارة عن خانات في معالجة النوازل التي تقع وتخطر في ذات السارد ، في قلب المكان والزمان . لهذا ، فالحكايات تتخلق أمامنا ليس كتركيب خطي للأحداث ، بل يتم الإيهام بما يحدث ، في المسار والبرنامج السردي للسارد المطبوع بالانفصال والتجاذب بين الذات والموضوع . وفي الغالب تنطلق كل قصة من حادث ساقط أو مطروح أو مهمل . ليتوغل به السارد ، من خلال رحلة تتمثل في تلك التنقلات المشهدية بين العمارة ( مسكن السارد ) ، وفي قلب تلك المشاهد يتم تحريك الدمى . وهي تجنح من دائرتها إلى دائرة الصورة كتمثيل قد يبعد عن أصله الفوتوغرافي إلى آخر مفارق . هنا يحصل تأليف وتوليف هذا الفوتوغرام القصصي . كأن الأمر يتعلق بانتقالات موضعية ، من الدمية إلى الصورة إلى الحكاية التي تطرح تشخيصا لوضعيات السارد الذي لا يستقر على حال أو ملمح ، بل متعددا كشخوص عبارة عن تشكيلات تفكير وتأملات بين الظاهر والباطن ، بين المرئي واللامرئي . ورد في حكاية " جناح الأورام " 2 " هذا الرجل الذي عن لي ، ربما توهمت لحظتها أنه من الممكن أن يكون أحدا آخر هو نفسي، يمر من أمامي وأنا ناظره كما لو كان شخصا أخر غيري ولست أنا ، أو كما لو كنت أنا غيره ولست هو ، كان على الأغلب شبيهي المطابق أو بديلي الغريزي ، الذي يزعم أنه نصفي الضائع ، ويظهر بين الفينة والأخرى كي يلج حياتي عوضا عني ، يزيل أي أثر لذاتي . " ..في هذه الحالة ، لابد من لغة المرايا وتعدد زوايا النظر ، لصوغ الحدث الواحد . فغرفة السارد تتحول إلى أرجوحة أو أداة سفر في الذاكرة الفردية والجماعية ، في الشعور واللاشعور ..فكان لكل حدث مهمل أو متلاش امتدادات كأطر خلفية في تاريخ الإنسان ضمن توارد الحالات وتراسل الحواس ، فضلا عن تأملات على أسئلتها المتنوعة ، فتتخذ الدمى تمظهرات متلائمة والحالات ، إلى حد قد تتحول الدواخل إلى دمية أو دمى . وقد تكون هذه الأخيرة متربعة في أصلها وشجرتها من منظور عاد . نقرأ في حكاية " جناح الشظايا " 3 " في الحقيقة لقد رباها طيلة السنين الكثيرة الماضية في ركن دافىء من أعطافه حتى صارت بصنو عمره . وها هو الآن ، على مفرق الكهولة ، لم يعد يعلم هل هي نفس الدمية الأصيلة التي كان يحتفظ بها بين أشيائه الحميمية الخاصة ، دون أن يجرؤ على كشف سرها لأي كان ؟ أم هي دمية أخرى حديثة العهد بالظهور ، خرجت خلسة من غفوتها على الضفة المجهولة لوعيه ، كي تعوض دميته القديمة بعدما نهب الزمن رونقها مثل صورة فوتوغرافية محروقة ؟ " . والمتحصل أن السارد يسوق حكيه ، في تصاعد وتصعيد درامي ، يحول القصة إلى مقامات ومدارج ، والسارد مجذوبها و لاهثها بين الدوائر التي تأكل نفسها في توالد وتوليد.. ضمن دائرة قد يندغم مبتداها بمنتهاها ..حكي مبطن بجدليات بين اللغة والصورة ، وإمارة الدمى . وبما أن هذه الأخيرة تمثل وجوها إنسانية ولو مقنعة في الواقع والحلم والوجود..فتبدو قصص الرافعي سفرا في هذه الأحوال بكثير من الشك ، وإعادة طرح الأشياء على هياكلها وأساطير تأسيسها من جديد ، وفق حمولات السارد المعرفية والنفسية بالأساس . لهذا تحضر عدة أنفاس في هذه القصص في كتابتها ، منها النفس التراجيدي المتصاعد والمتنامي ، استنادا على تصادمات بين الأفكار والأنساق من خلال أصغر الجزئيات اللصيقة بحياة السارد . كأنه يقوم بتدوين قصصي لسيرته، وهنا يحضر النفس الأوتوبيوغرافي بخاصية دقيقة تبدد من التطابق واكتساح المرجع . 4 وبعد ، هل يمكن توصيف حكايات " مصحة الدمى " بالمناديل ؟ يغلب ظني ، أن الصلة قوية بين النص والمنديل، فكلاهما نسج وبصمة خاصة؛ يلتقيان في النقطة التي تربط الشيء بالشيء والملمح بالملمح على رقعة ما وضمن أفق طالع. فتتعدد المسارات والكينونات الخفية . وهو ما يؤدي فيضا إلى تمدد و إغناء الواحد الجسد الذي اختار بقوة ،النص أصلا وشبيها . وليس غريبا، أن يربط أسلافنا النص قديما بالنسيج والنسج. فبهذه البلاغة الخاصة، يعتبرون أكثر إصغاء للنص المحاك لغة وتخييلا ، النص الذي لم يقو النقد ( ولو بمعناه البلاغي ) آنذاك على احتوائه أحيانا ،على الرغم من أن التلقي زمنه تمثل في إصغاء أذن ترى . النص الذي أتحدث عنه هنا ، ليس بالهش أو المصاب في مهده ، ولا بمخروم الطبقات والتشكيل ؛ بل المحاك كسلسلة تكوين ممتد في اللغة والوعي..فالنص الرافعي جدير بهذه الصفة كنسج له طريقة خاصة ، في توظيق المكونات السردية ، هاتكا خصائصها العادية والمتراكمة ، فاتحا ومرتادا آفاق طرية ، تجعل القصة منفتحة على الخلفيات والعيون البصرية الأخرى ، من خلال سارد متعدد الزوايا ، يخيط المشاهد والمربعات أو الدوائر بحس دقيق بالمكان والزمان ؛ كأنه يطل على العالم من نقطة ما . فيكفي أن يلمس السارد شيئا يمر عليه بالحواس والتأمل حتى يتحول إلى غرائبي ، ليس كتقنية فقط ، بل كمنظور ورؤيا . إنه الشك القصصي الذي لا يبلع الأشياء والحقائق ، بل يعيد خلقها في التوتر المركب الذي لا يفضي لأيه نهاية آمنة . في هذه الحالة ، فبقدر ما يعذب النص القصصي صاحبه ، يعذب القارئ أيضا حتى لاينام على نظريات ما ..في أفق خلق مصاحبة بين النغمتين ، نغمة النص الأول والثاني الموازي . هوامش : أنيس الرافعي ، " مصحة الدمى " ، فوتوغرام حكائي ، دار العين للنشر بمصر ، سنة 2015 1 " مصحة الدمى " ، " النسيجة " ص 17 18 2 " مصحة الدمى " ، " جناح الأورام " ص 53 54 3 " مصحة الدمى " ، " جناح الشظايا " ص 102