إلى صديقي الطيب العلمي في عيد ميلاده الستين ليس غريبا عن القاص أنيس الرافعي ولعُه الشديدَ الوطء لموضوعة واحدة يشتغل عليها وفيها ليُضمنها مجزأة على شكل فصوص قصصية في مجموعة سردية. وليس غريبا عنه أيضا نحتُه لأجناس أدبية عند كل خروج قصصي أو سردي جديد. تصبح، مثلا، الأبواب جنسا في "أريج البستان في تصاريف العميان" حتى ولو أنه لم يُعلن ذلك مباشرة، ولو أنه وضع على الصفحة الأولى من الغلاف: "دليل حكائي متخيل". وتصبح القصص مينيمالية على حافة الصفر، كما في مجموعته "ثقل الفراشة فوق سطح الجرس". وقس هذا الأمر على بعض منجزه في السنوات الأخيرة من هذه الألفية الثالثة. وها هو في عمله السردي الصادر عن دار العين للنشر بالقاهرة (2015)، "مصحة الدمى" يضعنا أمام جرح آخر للجنس القصصي يحمل هذه المرة صيغة مركبة من ثلاث كلمات: "فوتوغرام-حكائي". إنه (الجرح) صدى لثلاثة أحياز: الفوتوغرافيا، الخط/ الكتابة والحكاية. أو لنقل الصورة الضوئية والأثر الخطي والصوت. أو لنقل إنه مهماز بثلاثة رؤوس غير ممكن تبسيطه. من العتبة الأولى الكامنة في العنوان والتجنيس، يدعونا أنيس الرافعي للدخول معه إلى منطقة الخافية حيث لا وجود لهواء طلق ينبئ بوجود الحياة في الكائنات المتراصة أحيانا والمرمية هنا أو هناك في غرف وممرات مصحته. غرابة مقلقة تكمن في "مصحة الدمى" تجعلنا، ونحن نقرأ "الغصص" و"الأورام" و"الهلاوس" و"العاهات" و"الشظايا" و"الفصام" و"العدم"، في حالة امتعاض رهيب.. امتعاض يبعث حياة صادمة من نوع خاص غير معهود في سجلات الأجساد البشرية. لكن هذا الامتعاض يصَّاعدُ ويَخبو حسب الجرعتين التي تم تناولهما في "قسم الإرشادات".. ففي الفوتوغرافيا (الجرعة الأولى)، تقول سوزان ستونتاغ: "حين ينتابنا الخوف، نطلق الرصاص، لكن حين ينتابنا الحنين، نطلق الصور".. أما الجرعة الثانية فهي شبيهة بحفل زفاف، يكون فيه القارئ هو العريس، يقول فلسييرطو هرنانديث: "كانت الدمية ترتدي فستان عروس. عيناها الكبيرتان مفتوحتان على وسعهما، ومصوبتان في اتجاه السقف. لحظتها، لم يكن يعلم إن كانت ميتة أو أنها تحلم فحسب. فذراعاها الممدودتان إلى الأمام كان تصرفا يحتمل أن يعبر عن يأس شامل أو عن فرح غامر". وأنت ت(ت)جرع هاتين الرقيمتين لا تنسى أن وراءك كاميرا تترصد كل حركاتك، ولا تنسى أيضا أن أشعة أمامك تقتنص في كل لحظة صورة لنبضات ملامحك... لن يكون الأمر سهلا لمن يجتاز "قسم الإرشادات" ويتعرف على سجل الدمى وبعض ملامحها في ال "فوتومونتاج-سردي" ("النسيجة" و"مدونة الدمى")، لأنه ما إن يصل إلى "حكايات الفوتوغرام" حتى يجد نفسه أمام رعب مدو، موزع على سبعة طوابق.. كل طابق فيه جناح يحمل اسما خاصا به، يتناثر فيه الحكي مُوشَّى بعلامات وطلاسم تتحول أحيانا إلى حشرات، وأحيانا أخرى إلى زواحف، وأحيانا أخرى إلى أدوات حادة قاطعة... وإليكم الدليل في "جناح العاهات": "كنت نملة ضئيلة ووحيدة، في طريقها لأن تصعد، بعد لحظة، السلالم بأرجل مهدودة وأنفاس متلاحقة، في اتجاه علبة الكبريت الخاصة بها..."، و"ولعل بعض الأخطار جحر عميق، ولعل بعض الأهوال حنش يخرج من الجحر، ويبدأ في السعي!"، و"على الأغلب، لقد حانت لحظة قطع جسم الحنش من المنتصف، تفاديا للاختناق داخل الدائرة المغلقة!"... إنه عبور من عالم المنقطع (الخارج المشكل من الأفراد والأشياء) إلى عالم المتصل الذي يتجلى من خلال انتهاك طابوهات العالم الخارجي بفعل الموت والعنف والثورة (على حد تعبير الكاتب الفرنسي فيليب سوليرس في قراءته للكاتب الفرنسي جورج باطاي). العالم الذي ينسجه لنا القاص والكاتب أنيس الرافعي (والنسيج، كما هو معلوم، عمل العناكب)، عالم مليء بكائنات تتحول إلى عكس ما ينتظره الزائر لأجنحتها، تتحول إلى مسخ يلتهم كل ما يعثر عليه لسانه الطويل الممتد في الجهتين معا: الخارج والداخل. في "مصحة الدمى" لا يمكن للقارئ إلا أن يعثر على اللحم... الدمى حين تدخل إلى المصحة تصير بفعل الأدوية والإبر والصعقات الكهربائية كائنات لحمية. هل يريد أنيس الرافعي أن يقول لنا إننا نحن اللحم المتحرك نهارا والنائم ليلا لسنا سوى دمى خارجة من مصحة، أو إذا أردنا التعبير فلسفيا، خارجة من صيدلية الفيلسوف الإغريقي أفلاطون. شيء ما في "مصحة الدمى" يدعو إلى النظر في المرآة للتحقق من أننا فعلا هياكل يكسوها اللحم. انعدام المرآة هو انعدام لأحد شروط التحقق في الوجود. هذا ما يقوله الرجل الولع بالفوتوغرافيا في "جناح الفصام": "هو سر رهيب وصادم، سوف تذيعه لأول مرة في حياتك، بعد أن تعبت من إخفائه في أعماقك لسنين طويلة، بل إنك لم تجرؤ على إفشائه ولو لذلك الرجل الحي، الذي تمثل نسخة منه دون استئذانه، ودون مكاشفته أنك شبح يعاشر دمية!". إنه اللحم في أقصى وأقسى حالاته الوجودية.. اللحم الحي الطري الخشن الأديم الليل الأديم النهار الخارج الداخل في بعضه البعض... "اللحم، كل هذا اللحم، لا ينصرف ولا يستريح ولا يتقهقر إلى الوراء. اللحم، كل هذا اللحم، تذهب فيه بعيدا ولا تصل. تصل فلا تعرف كيف تعود. اللحم، كل هذا اللحم، هل كان مجازا؟ أم أثرا متروكا في ماء؟...". هل دخلت الدمى إلى المصحة ليعود إليها لحمها بعد لحَمَتْ عظامَها في الخارج، فصارت يابسة ناشفة كنبات شوكي؟ هل انعدام المرآة هو انعدام للصوت والحركة في الجسد الآدمي؟ هل دخلت الدمى، مرة أخرى، إلى المصحة لتعيد عملية الانتهاك وترفع المنع دون أن تلغيه من أجل إعادة الاعتبار للرغبة؟ "اللحم، كل هذا اللحم، ما عدت تشعر به، وما عاد يشعر بك، وكم هو صعب أن لا تشعر به، وكم هو صعب أن لا يشعر بك وأنت تراه ويراك، وتتوغل فيه ويتوغل فيك".