صباح اليوم الختامي للدورة الرابعة عشرة لمهرجان السينما الافريقية بخريبكة التي شهدت احتفاء مؤثرا بإدريسا ودراوغو، كواحد من أفضل السينمائيين الذين أنجبتهم القارة السمراء، قمنا رفقة الصحفي السنغالي أبوبكار سيسوكو بلقاء معه. بصراحته و حماسته المعهودتين، استرسل مخرج «تيلاي» في تحليل وضعية السينما الافريقية منطلقا من رؤية نافذة لخصوصية القارة و تجربة رائدة استطاعت التحليق عاليا في أفق السينما العالمية رغم الإكراهات التي يرزح تحتها السينمائيون الأفارقة على العموم وأولئك المنتسبون لجنوب الصحراء على وجه الخصوص. فيما يلي قراءة في ثنايا هذا الحوار. «هذا المهرجان ملتقى حقيقي لإنتاجات متنوعة قادمة من مختلف ربوع القارة و فرصة ليجتمع السينمائيون و يتبادلوا الأفكار حول الأزمة الهيكلية التي تعبر منها السينما الإفريقية (...) أما التكريم فأستقبله بكل حفاوة، فهو يمكن أن يترجم احتفالا بما أنجزته من أفلام و قد يشجع بالتالي مخرجين شباب على المضي في العمل بثقة أكبر و يدفعهم لقول: هذا ممكن، نحن أيضا نستطيع بلوغ المراد...»، بهذه الكلمات استهل المبدع البوركينابي الإجابة عن توطئة الحوار حول تلقيه تكريما من المهرجان محددا إطار النقاش: التطرق للسينما بالقارة السوداء هو حديث عن أزمة هيكلية قبل أي اعتبار آخر و دور المبدعين في هذا السياق يتجاوز حدود الخلق ليعانق أدوارا أخرى ليست بالضرورة من صميم مهامهم المتعارف عليها كونيا. بلغة واثقة مضى ودراوغو في الحديث عن مهرجان يعرف عنه الكثير (كان ضيفا عدة مرات و ترأس لجنة تحكيم الدورة الحادية عشرة) و يعتبر نفسه من أبناء داره « ظل المهرجان محافظا على روحه مع مرور الأعوام، الاستقبال و ظروف الإقامة رائعين، كما أن كون المهرجان ليس ضخما و لقلة الالتماسات أثناءه يتسنى جمع المسلي بالعملي، فيستطيع المبدعون أن يعملوا في ظروف حسنة و أن يستجموا ليستجمعوا قواهم قبل الانطلاق نحو معارك الإنتاج من جديد». لم نتوقع حين عدنا لموضوع أزمة السينما بإفريقيا أن نتلقى في طيات الجواب انتقادا صريحا لدور النقاد و الصحفيين فهم، في رأي ودراوغو، لم يستطيعوا رسم طريق التحديات للمبدعين ولا يضطلعون بمهمة استشراف القضايا المحيطة بالسينما و طرحها على طاولة النقاش مكتفين بالإنتاج المرافق لخروج الأفلام بالقاعات. قبل أن يعرج على النقطة المفصلية لمسببات الأزمة وهي غياب منظمة اتحادية فاعلة و مؤثرة للمخرجين الأفارقة : «لما تصلح الفيدرالية الإفريقية للمخرجين FEPACI ؟ لماذا لا تؤدي دورها ؟ وهل بوسع السينما الإفريقية أن تكتسب يوما ما صوتا واحدا وإرادة قوية موحدة في الوجود من خلال منظمة قوية ذات حضور سياسي بارز ومسؤولية واضحة ؟ فالقضايا حاضرة الآن و تحتاج لمن يدافع عنها». بإمعان الغيور و لهجة محذرة، يؤكد الجهبذ الخمسيني على هشاشة الوضع السينمائي إفريقيا مستحضرا غزو الصور الأجنبية للمتخيل الإفريقي عن طريق التلفزة وانتشار الروابط عبر الساتل، فإن كان التثاقف و تبادل التأثيرات بين الشعوب ظاهرة صحية برأيه، فإن هيمنة صور الثقافات العظمى على الصغرى تحت غطاء قانون القوة الاقتصادية هو أمر غير مقبول البتة : «كل الشعوب قادرة على الإبداع، نحن شعوب مهيمن عليها اقتصاديا لكن هذا لا يلغي حقنا في تمثيلية صورنا في إطار التنوع الثقافي العالمي... هذه إشكاليات كبرى لا يستطيع السينمائيون كأفراد أن يضطلعوا بها و من هنا تنبع ضرورة العمل على خلق هيكل فيدرالي قوي يعبر على إرادة الشعوب هاته و يحمل تطلعات السينمائيين إلى مصاف النقاش الكوني». في معرض الجواب عن انتقادات بعض الأصوات لإبداعية الأفلام الإفريقية و ما يرون فيه انزواء موضوعاتها داخل نظرة تحمل الكثير من الكليشيهات و المباشرة رد ودراوغو بحزم جازما أن هذا كلام تافه و أنه لا يرى في ذلك بعدا حقيقيا من أبعاد الأزمة. فالمنافسة، في تصوره، كفيلة بفرز السمين من الغث و من تراكم الكم سيخرج الكيف لا محالة، قبل أن يستحضر التكنولوجية الرقمية و يؤكد بمرارة أن آمالا كبيرة عقدت عليها كي تكون حلا جذريا لمشكل الإنتاج نظرا لرخص تكاليفها المادية مقارنة بالشريط الفيلمي قبل أن تتمخض عن مشاكل تقنية جسيمة لدى استخدامها من طرف المخرجين الأفارقة بفعل غياب تكوين خاص للإلمام بجميع الحيثيات التقنية المرتبطة باستعمال وسائل التصوير الرقمية: «كل مقاربات الإنتاج (وسائل التصوير، التمويل...) التي نشتغل وفقها السينما الإفريقية مستوردة، إذ لم نتمكن بعد من ابتكار مقاربات إنتاج تستجيب لطموحاتنا انطلاقا من أوضاعنا الاقتصادية و الاجتماعية الخاصة». توقف محاورنا طويلا عند اشكالية التكوين وما ينبغي أن يولى لها من اهتمام قصد إعادة الاعتبار لمهن السينما، ليس بوازع نخبوي لكن من خلال إحقاق لما تستلزمه من توفر المرشحين على مستوى فكري و دراسي معين و ما ينبغي أن تتضمنه برامج التكوين من تركيز على مهارات تكفل للمستفيدين التحكم في إكراهات العمل الخاصة بالقارة الإفريقية، خاصة منها تلك المتعلقة بتقنيات الإضاءة. في اعتقاد ودراوغو، لا يمكن للسلطة العامة على مستوى الدول أن تلعب دورا أساسيا في حل الأزمة في ظل ضآلة الأسواق السينمائية المحلية (بدرجة أكبر بدول إفريقيا جنوب الصحراء) بفعل ضعف القدرة الشرائية لدى الساكنة و تمركز هذه الأخيرة في الأوساط القروية، كما أن واقع النجاعة الاقتصادية يقذف بفعل الثقافة إلى مؤخرة سلم اهتمامات المسؤولين السياسيين تحت تأثير استفحال الفقر بين جل الأهالي : «فلنأخذ مثال اثنان مليون أورو كموازنة متوسطة من أجل انجاز فيلم. يمكنك سريعا القيام بعملية حسابية لعدد المدارس والمستشفيات التي يمكنك تشييدها بهذا المبلغ فيصبح قرار صرفه في انجاز الفيلم صعبا...». لكن مرة أخرى لا يجب في رأيه أن تطغى المقاربة الاقتصادية على وظيفة السينما كرافد ثقافي مهم و دورها الأساسي في الرقي بالشعوب و حل الخلافات المزمنة التي تعصف بدول عديدة من القارة السمراء، وانطلاقا من الإيمان بهذه الثوابت نستطيع إطلاق تجربة التعاون جنوب – جنوب والعمل، شيئا فشيئا مع تحسن أحوال معيشة الساكنة، على تنمية الأسواق السينمائية المحلية و استغلال إمكاناتها الهائلة، ولم لا العمل على الاستفادة من شعبية الواسط التلفزي وانجذاب الناس إلى برامجه من خلال إنتاج أفلام تلفزيونية تستغل عائداتها من أجل تطوير الإنتاج السينمائي للبلدان الإفريقية. التطرق لموضوع شائك كهذا هو مهمة مضنية دون شك لكن تحمسنا للاستفادة من خبرة رائد من هذا العيار كان حافزا للاستمرار بالأسئلة، فارتأينا أن نحطم رتابة الحوار بسؤال أكثر خصوصية حول ما هو بصدد التحضير له من أعمال فجاء الرد بدعابة لا تخلو من مسحة ضيق، تلتها بعد إلحاحنا كلمات تفوح من ثناياها حكمة بالغة «لا أدري بعد، نحن دائما بصدد الاشتغال على شيء ما و يكمن السؤال في مدى سرعة إخراجه إلى الوجود، لذلك يتوجب انتظار الوقت المناسب أو توفر الإمكانات المادية اللازمة لإنجازه. لعل كوني قد حظيت بفرصة إنجاز عدة أفلام قد فازت بجوائز و مكنتني من السفر حول العالم يجعلني لا أستعجل الأمور الآن. كأي مخرج لدي مشاريع لكني أتحلى الآن بالحكمة و القدرة على انتظار الوقت المناسب». هنا ينتابك إحساس أن الرجل ينظر بمنظار الرضا إلى مسار امتد زهاء أربعين عاما قد بوأه صفة رائد بارز داخل المشهد السينمائي الإفريقي، لكن كان كافيا أن نسأله عن شعوره حيال هذا المعطى الأخير لتعلو عيناه مسحة من التأثر وهو يستشهد بمثال كبير آخر لم يعد ينجز أفلاما هو سليمان سيسوكو و يستطرد بنبرة فيها شيء من الحسرة « أكيد أنك حين ترى مخرجين عالميين قد انطلقوا برفقتك نفس العام بأسبوعي المخرجين (ت.ن: مهرجان كانّ) و هم الآن ينجزون فيلما كل سنة تقريبا فقط لأنهم يمارسون بفضاءات ملائمة تتساءل إذا لم يكن قدرنا نحن أن نقود معركة خلق مثل هذه الفضاءات بافريقيا!!! لكن ذلك ليس بالمهمة الهينة». أعادنا هذا إلى قلب النقاش حول الأزمة ليستمر الحوار حول التوزيع و الاستغلال و يسهب ودراوغو (الذي تبوأ مدة عامين مسؤولية تسيير مجمل الصالات ببوركينافاسو) في تفصيل أبعاد إشكالية التوزيع مشيرا إلى غياب رؤية اقتصادية واضحة تتجاوز إكراهات قلة الإمكانات المتاحة لاقتناء حقوق الأفلام لإيجاد حلول في إطار تضامني بين الدول الإفريقية و كذا ضرورة العمل على خلق ترسانة قانونية لإرساء آليات تكفل تتبع مداخيل القاعات : «قبل أن يمضي السينمائيون في انتقاد الأوضاع الراهنة قائلين: «ينقص كذا و كذا» يجب الشروع في وضع أسس المنظومة السينمائية (...) لكن ما داموا منهمكين في دوامة الخلق و الرؤى الفردانية فلن نستطيع أبدا استنباط الدروس من أوضاعنا و لا الاستفادة من تجارب أسلافنا». في ختام هذا الحوار، انبرى صاحب «كيني وآدامز» إلى انتقاد الدور الذي يلعبه المخرجون في الخروج من الأزمة. فهو يرى أن هؤلاء لم يتخلصوا بعد من نزعتهم الادعائية بسمو وضعهم مقارنة بالآخرين ليعملوا جنبا إلى جنب مع الخبراء (رجال قانون، خبراء الاقتصاد، سياسيون...) و يخرجوا بأفكار بسيطة كفيلة بوضع أساس لمنظومة سينمائية متينة: «لم نقم بعد بوضع أسس السينما الفعلية، و في غياب ذلك، ستعيد نفس الإكراهات إنتاج نفس المشاكل و هكذا... (...) هناك حد لقدرة الإبداع على تجاوز الإكراهات، سيكون في الجيل الحالي أيضا مبدعون من حجم سيسي أو سامبين لكنهم حتما سيصطدمون يوما ما، مثل هؤلاء الكبار بالضبط، بإكراهات المنظومة هاته إذا لم تتم تسويتها على الأسس الفعلية التي تحدثنا عنها».