لم يكن عبثا أن يحصد فيلم " نصف السماء" لعبد القادر لقطع على جائزة أحسن سيناريو في المهرجان الوطني للفيلم بطنجة في دورته الأخيرة من طرف لجنة تتشكل من أدباء ونقاد سينما وفنانين ومهنيين في المجال السمعي - البصري، من قبيل الأديب و الروائي محمد برادة و السينمائي مصطفى المسناوي وغيرهما.. فهذا الفيلم الجديد، الذي تم إخراجه بعد "حب في الدارالبيضاء" (1992)، و"بيضاوة" (1998)، و"الباب المسدود" (2000)، و"وجها لوجه" (2003)، و"ياسمين والرجال" (2007)، والوثائقي التلفزيوني "بين عشق وتردد"، يعد ، بحق، تحفة سينمائية، بالمقارنة مع إنتاجات وإنجازات المخرج السابقة التي تركت، أيضا، بصمتها الواضحة في مسارات السينما الوطنية في السنوات الأخيرة.. ف " نصف سماء" جاء مشحونا بمواقف وأحداث تعكس جوانب عديدة و مؤلمة من مشهدنا السياسي و الاجتماعي في السبعينيات و الثمانينيات من القرن الماضي ، حتى وأن المخرج عبد القادر لقطع في تقديمه لهذا الفيلم في العرض الخاص مساء الخميس الماضي بأحد قاعات المركب السينمائي " ميغاراما" حاول أن يستدرك الأمر في الإطار باعتبار فيلمه هذا فيلما تخييليا بالدرجة الأولى و ليس فيلما تسجيليا، لكن الإشارة هاته أيقظت حاسة المشاهد نحو هذه الخاصية التوثيقية في الفيلم منذ بداية عرضه لصور أرشيفية حية من زمن الفترة المتحدث عنها ، و استنتج المتابع له بدون عناء بالتالي أن " نصف سماء" يجمع بين الخاصيتين معا، التخييلية و التوثيقية، في ذات الآن، وهو جمع قدم توليفة سينمائية جد ممتعة لم بجد المشاهد بدا من يصفق لها طويلا منذ انطلاق جنيريك نهاية الفيلم وإلى ما بعد إضاءة أضواء قاعة العرض.. قبل ذلك عرض هذا الفيلم الجريء في المقاربة و المعالجة السينمائية كانت للمخرج عبد القادر لقطع كلمة أمام الحضور لتوضيح " أسباب نزول" هذا العمل السينمائي، وهي الأحداث السياسية المؤلمة التي عرفها المغرب في الفترة المذكورة أعلاه، "فترة تركت فراغا «يقول لقطع » كان لابد من أجد صيغة لملئه في حياتي، من منطلق أنه كان يزعجني باستمرار وكان ينبغي أن أعالجه، بإنجاز شريط سينمائي يتميز بخصوصياته، خصوصيات المرحلة التي لم أتواجد فيها جسديا بالمغرب ، لأنه لما تم القبض على عبد اللطيف اللعبي، كنت متوجدا ببولونيا لدراسة السينما، ومن ثمة أحسست بفراغ في حياتي.. وكذلك فمنذ أواخر السبعينيات كنت أبحث عن طريقة لإنجاز فيلم من هذا النوع، فقرأت العديد من الكتب عن الاعتقال و السجن..إلخ، ولكن عندما قرأت السيرة الذاتية لجوسلين اللعبي ( زوجة اللعبي) عثرت على مسألتين دفعتاني لمباشرة تفعيل مشروعي السينمائي، أولا أن الكتابة كانت ذات رؤية نسوية، بخلاف أكثر الكتابات التي أنتجت عن هذه المرحلة، ثانيا أن بطل الأحداث، الذي هو عبد اللطيف العبي كان من المؤسسين لليسار الجديد الذي تكون في السبعينيات، و بالتالي فهذا الكتاب كان بالنسبة لي يضم جميع المكونات التي أحتاجها لتناول هذا الموضوع بالجدية اللازمة.. ويضيف لقطع " وبعد قراءة هذا الكتاب اتصلت بعبد اللطيف اللعبي وجوسلين، واتقفنا جميعا حول هذا المشروع السينمائي، وقررنا أن نكتب، أنا و اللعبي، كتابة السيناريو." واختتم لقطع تقديمه أما جمهور كبير ونوعي، فيهم المهني السينمائي، و الإعلامي ومناضلون من اليسار ومدعوون.. أن فيلم " نصف السماء" هو فيلم تخييلي ( فيكسيون) مقتبس من أحداث واقعية، و بالتالي فهو ليس فيلما تسجيليا يروي أحداثا تاريخية كما وقعت.. هو فيلم - يوضح - فيه علاقات مختلفة، فيه عنف، كما فيه ألم و عاطفة.. "ومن ثم كان الأساس بالنسبة لي أن يكون التطرق إلى الموضوع تطرقا حيا، وبالتالي هذه الحيوية الموجودة في هذا الفيلم يستشعرها الجمهور.." الأكيد أن هذه الحيوية التي تحدث عنها المخرج استشعرها المتتبع من خلال الممثلين أنفسهم الذين كان التميز يطبع أداء أغلبهم، حيث اندمجوا في الأدوار المسنودة إليهم وتبادل الحوارات بكل العفوية و الطلاقة التي تعطي لهذا الفيلم الصدقية في تقديم أحداث عرفها المغرب في ما مضى في إطار درامي جد متميز لم يستشعر من خلاله أية فراغات وبياضات أو إقحامات غير مرغوبة.. أو أي تكلف أو تصنع في التقمص والأداء، بل كانا عكس ذلك متمكنين برعت فيها كل من الفنانة صونيا عكاشة المتقمصة لدور جوسلين، التي ركزت فيه على الطابع الإنساني فيه وكذا، على الثمن و المقابل الكبير الذي قدمته نسوة من أمهات وزوجات وأخوات من خلال تضحيات جسام بهدف الإفراج عن ذويهن، كما برع فيهما الفنان أسامة الباز الذي جسد دور عبد اللطيف اللعبي، والذي لا شك سيطبع ذاكرته " التشخيصية" ومساره المهني مثلما هو حال الكثيرين من الفنانين الذين شاركوا في هذا الفيلم مهما كانت الأدوار المسنودة إليهم كبيرة أو صغيرة من قبيل زكريا عاطفي و محمد كافي وغيرهما.. الذين استطاعوا جميعهم تقديم وبشكل جد موفق فيلم يوثق للذاكرة الجماعية في فترة تاريخية عاشها المغرب، توثيق لا يسجل معاناة الإنسان المثقف عبد اللطيف اللعبي خلال فترة اعتقاله في السبعينيات من القرن الماضي بقدر ما يسجل صمود زوجته الأجنبية وأم أطفاله الثلاثة جوسلين اللعبي.