درس الفيلسوف تشارلز تايلور في جامعة ماكغيل في مونتريال قبل الانتقال إلى كلية باليول بأكسفورد لدراسة الفلسفة والسياسة. وقد بدأ بكتابة سلسلة من المقالات المؤثرة حول مفاهيم الحرية وطبيعة التفسير في العلوم الاجتماعية مذ كان طالبا. أمّا كتبه فقد تمثّلت في قراءات نقدية للفلسفة الهيغلية، إضافة إلى كتاب بعنوان ?مصادر الذات: صناعة الهوية العصرية?. وقد صدرت أحدث أعماله في سنة 2007 تحت عنوان ?العصر العلماني?، وتزامن ذلك مع منحه جائزة تمبلتون تقديرا لما قدمه من أعمال طوال مسيرته العلمية. وقد قدّمت له هذه الجائزة مع منحة قدرها 1.5 مليون دولار، كما حصل هذا العام أيضا على جائزة كيوتو، والتي تضمنت منحة قدرها 50 مليون ين ياباني (حوالي 500 ألف دولار). وعلى إثر حصول تايلور على هذه الجائزة قام معه كريس بلور (Chris Bloor) بحديث شيّق نشرته مجلّة الفلسفة الأمريكيّة الالكترونيّة (philosophy now) ضمن عددها لشهري جويلية وأوت 2009 رأينا إمتاع القارئ العربيّ به. o كيف يمكن أن يتحقق ذلك؟ n حسنا، أعتقد أنه سبق أن وجدت لحظات في تاريخ الجامعة كان فيها هذا النوع من الاسترجاع أمرا ميسورا إلى أقصى الحدود. لقد كنت تجد في زمن ماكس فيبر - ونحن هنا ربّما نضخّم الأمر عاطفيا ولكن حتى قبله بقليل- أن طلاب الفلسفة في ألمانيا يتلقون الكثير من الدروس المعمّقة حول الفلسفة اليونانية وتاريخ الفلسفة وكانط والمثالية الألمانية، لكنهم كانوا يطالعون أيضا فيبر ودوركايم وترولتش وديلثي، وبذلك يتكوّن لديهم فهم واسع حول الكيفية التي وصلت بها الأسئلة التي تم طرحها إلى تلك المرحلة. وقد شدّ هذا الأمر انتباهي حين تمكنّت من رؤية نهايته، ذلك أنّني أظن أنه بدأ حقا بالاندثار، حتى في ألمانيا. وعندما زرت هابرماس آخر مرة، كان لا يزال يقدم مثل ذلك التعليم لطلابه، رغم أنّه لم يكن بالضرورة يتفق مع الكثير من الأشياء التي كان ينقلها إليهم. وهذا ما أغضبني عندما ذهبت إلى أكسفورد، فقد كان أناسها محدودين: إنهم لا يقرؤون ما نسبته واحد على عشرة من التقاليد التي أوصلتهم إلى ما هم عليه اليوم. o أردت أن أسألك عن كتابك ?مصادر الذات?. فهذا العام يمثل الذكرى العشرين لصدور طبعته الأولى. هذا صحيح، بالفعل! لقد كان ذلك سريعا، إن الأمر يبدو وكأنه تمّ البارحة! n لقد كان ذلك أوّل كتاب قدمت فيه بطريقة منهجية ما أريد قوله. لقد كتبت قبله كتبا عن هيغل، والكثير من المقالات عن مظاهر العلوم الاجتماعية. وقد كنت أريد بشدة لا مجرد أن أجادل ضدّ مواقع معينة في العلوم الاجتماعية وعلم النفس وما شاكلها فحسب، لكن أن أفهم لماذا كان الناس يدافعون عن تلك المواقف التي أرى أنها خاطئة وغير مقنعة بالمرة. ولكي تفهم لماذا، يجب أن تستوعب المفهوم الحديث للذات. إذاً، كانت تلك أوّل محاولة قمت بها لفتح ذلك المجال، ولم تكن مجرد مجادلة ضد بعض الأخطاء، بل محاولة لتفسير كيف تنشأ هذه الوضعية التي تكون فيها مثل هذه الأخطاء مقنعة للناس. ومازلت أشعر بأن ذلك كان نقطة تحول حقيقيّ في عملي، لأنه منذ ذلك الحين وأنا أعمل وأتوسع في حقل المشاكل ذاك، فكيف وصلنا إلى نقطة نتجادل فيها حول ?س? و?ص? مفترضين أنها نقيضة ?ب? و?ت?، ولم تكن البدائل الواضحة بهذا الشّكل دون غيره. ولقد بذلت من أجل ذلك جهدا كبيرا في الاسترجاع، في محاولة معرفة كيف وصلنا إلى هنا، وأيضا في محاولة فهم الأمر بطريقة مختلفة. o لديك الكثير من الاستنتاجات القاطعة حول الهوية الحديثة لا تستقيها من الفلسفة بل وكذلك من تاريخ الدين والأدب والفن وما تابعه، بحيث يصعب على أيّ شخص لا يملك معرفة واسعة تقييم ادّعاءاتك على نحو كاف. n نعم. عظيم جدا (يضحك)، وهذا ربما ما سيدفع الناس إلى قراءة شيء ما! هذا يتصل مع ما كنت أقوله عن الصورة المثالية التي أحملها حول الجامعات الألمانية في عشرينات القرن الماضي. حقا يجب أن يكون لدينا هذا النوع من الاتساع في نظام تعليمنا لتاريخ العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية وما تابعها. لذا أنا لست راضيا عن ردة الفعل هذه. إذا كان الناس يريدون التيقّن من صحّة فكرة ما، فعليهم أن يطالعوا، وهذا ما سيجعلهم قادرين على تكوين وجهة نظرهم الخاصة للطريقة التي وصلنا بها إلى ما نحن عليه اليوم. o يحتوي الكتاب على تصريح مسجّل يلخص نقدك للجوانب الضحلة في ثقافتنا: ?لا شيء يمكن أن يعتبر إنجازا في عالم لا يمثّل فيه الأدب شيئا ذا بال عدا أنه إرضاء للذات?. n حسنا، ف?ما يجعل الأشياء مهمّة في نهاية المطاف?لا يمكن أن يتحوّل ببساطة إلى تحقيق الذّات أو إرضائها. وهذا ما يضعك في حالة من التّراجع وتقول: ?حسنا! ولكن ما الذي سوف يمنحني الرضا الذاتي؟?. ولسوف يتوجّب عليك في النهاية أن تشير إلى شيء ما يتجاوز ذاتك الشخصي، مثل الطريقة التي تسير بها الأمور أو حالة الكون أو وضعية البشر أو الاتجاه الذي يسلكه التاريخ الإنساني، حيث تحمل جلّ هذه الأمور التي يجد فيها الناس رضا عميقا عن الذات مثل هذه الميزة، فالبعض قد يقول: ?أريد أن أعمل مع منظمة أطباء بلا حدود في الكونغو?، وقد يقول آخر: ?أريد أن أكتب أعظم رواية كنديّة على الإطلاق?. ينبغي أن يكون واضحا أنّ كلّ هذه الأشكال من الارتياح العميق تلامس طرفا آخر يتجاوزك. لذا فإنّ تصريحي ولئن كان مسجّلا إلاّ أنّه يحمل في طيّاته حقيقة هامّة. o حين كنت أفكّر هذا الصباح في كتابك الأخير ?العصر العلماني?، مرّت حافلة كتب عليها شعار لجماعة ملحدة (أو لجماعة لا أدرية بشكل أوضح): ?على الأرجح لا يوجد إله: توقّف عن القلق الآن واستمتع بالحياة?. n لقد سمعت عن هذا! إنه أمر يدفع دفعا إلى الضحك بشدّة. هذا أمر شديد الغرابة، أليس كذلك؟ أنا أحاول معرفة لماذا يحدث هذا في زمننا. لماذا نشهد هذه الظواهر الجديدة الخاصّة بالمحتارين/الملحدين الرّاغبين في نشر ?الإنجيل?، ويكونون أحيانا غاضبين جدّا؟. أعتقد أن هذا يشبه ردّ الأساقفة على داروين خلال القرن التاسع عشر. فقد كان عند الأساقفة شعور بأنّ العالم كان يسير في اتجاه معيّن إثر حدوث الكثير من التحوّلات... وفجأة اكتشفوا أنّ توقّعاتهم كانت خاطئة، فاهتزّوا بصفة عنيفة وغضبوا غاية الغضب. وبالمثل، ها نحن نرى اليوم نفس الأمر يحدث بين المثقفين العلمانيين/الليبيرالين الذين شعروا أنّ العالم يسير في اتّجاه معيّن، وأنّ كل شيء يسير حسب الخطة، وحين اتّضح لهم أنّهم على خطأ هاهم يهتزّون ويغضبون، إنّها لظواهر مثيرة للشّفقة وكأنّ وضع ملصقات على الحافلات سوف يجعل الناس يغيّرون بطريقة ما وجهات نظرهم حول الله والكون ومعنى الحياة.. إلخ. شعار على حافلة! ليس من المرجح أن يغيّر هذا شيئا أساسيا داخل أيّ شخص. o تبدو إشارتك إلى أن الناس المعاصرين عالقون بين قطبين متنافرين ذات دلالة. فالمشهد يتضمّن حسب ما رسمته تعصّبا إلحاديّا من جهة، وتعصبّا دينيّا من الجهة المقابلة، وهو ما يترك الشخص العادي متردّدا بين الأمرين ولا ينجذب إلى أحدهما، ليبقى في منزلة بين المنزلتين متخبّطا في نوع من العبث. n هذا صحيح. وهو لا يؤدي إلا إلى الحيرة أو إلى الحرتقة (bricolage) أي أن تكوّن موقفك الخاص. وفي كتابي ?العصر العلماني? ذكرت العديد من الشخصيات التي تقوم بذلك بشكل واضح. ف?فيكتور هيغو?، وهو فرنسيّ نموذجيّ من فرنسيّي القرن التاسع عشر، يجسّد مثالا عن أشخاص كونوا موقفا وسطيا، وأعتقد أن هذه الظاهرة أصبحت منتشرة للغاية اليوم، بما في ذلك الحالات التي يفرض فيها الواقع على الناس حرتقة ما (de facto bricolage)، لكنّه في نهاية المطاف موقف غير نابع من ذواتهم. كما توجد حالات يكوّن فيها الناس موقفهم نتيجة وعي ذاتي. وهذا ما يقصده النّاس غالبا حين يقول أحدهم: ?أنا روحاني، ولكني لست متديّنا?. وترمز عبارة ?لست متديّنا? إلى أنّي غير منتم لأيّ تقليد ذي صيغة محدّدة مسبقا عليّ التقيّد بها، في حين تعني عبارة ?أنا روحاني? أنّي منفتح على جلّ التقاليد الموجودة. أعتقد بلا شك أن هذا المشهد الذي يتضمّن عددا هائلا من المواقف المختلفة لروحانيين وغير روحانيين إضافة إلى ما ذكرناه من قبل، والمتعايشة في نفس الوقت داخل نفس المجتمع، هو أمر لم يسبق له مثيل في التاريخ، ولا يزال عدد المواقف آخذا في التضاعف. حيث يوجد منها اليوم ما لم يتم مجرد التفكير فيه على الإطلاق قبل قرن. ويعيش مجال العبور بين النمطين المتعصبين من الأشخاص حالة فوران، وما قمت به ليس سوى إلقاء نظرة على بعض الديناميكيات الكامنة فيه.