ترعرع الشاب بالشمال، مهد المقاومة، في حضن الحركة الوطنية، والنضال النقابي. انخرط في الحقلين انطلاقا من باب متميز: باب التعبير والكلمة والإبداع الثقافي. هذا ما سيفسر لماذا سترقى الصحافة مع سي العربي المساري، إلى أداء ثقافي بامتياز، حيث يصبح التحرير الصحفي وكتابة المقالة، عملا إبداعيا محكما، بحس مهني وأخلاقي بل بصرامة مهنية وأخلاقية، تحصن نبل رسالة هذه المهنة التي عشقها. عانق المساري المهنة بحرارة وصنع نفسه في رحابها بين جدران جريدة العلم، المدرسة، واخترق أسرارها بصحبة رفاق الدرب كمحمد باهي، وعبد الجبار السحيمي، كما دعمها ثقافيا بجانب عبد السلام عامر ومحمد برادة وآخرين... وكان الصحافي، السياسي،النقابي، المثقف، الذي يتغنى بهذه المهنة النخبوية والشعبية في آن واحد، كلما جمعه فضاء «النقابة» بهؤلاء الزملاء في شتى ميادين التعبير، أمام حساء «بيصارة» معلمة الشمال مسقط الرأس. لم يشبعه القلم فزاوجه بالمذياع، الذي تقاسمه في الإذاعة الوطنية مع عبد الرفيع الجواهري، وأمثاله.. ولكن لم يتخل عن الخطوط الأمامية لمهنة المتاعب فالتحق بجبهة حرب كأول مراسل حرب للصحافة المغربية، فكانت الفرصة للخبر أن يسكن بالمرة كاتب الرأي الذي أصبح معروفا أنداك لدى الشباب من قراء وكتاب ومبدعين، العلم والعلم الثقافي.. السي العربي أدخل الخبر لجريدة العلم وكذلك الحوارات حول الخبر بعد الحوارات الثقافية، أي أنه أدخل الأسلوب الصحفي وتقنيات التعامل مع المعلومة. منذ ذلك الوقت بدأ ولع الأستاذ محمد العربي بالتوثيق والأرشيف..حب الوثيقة من خصال الصحفي المهني، وكنز ثمين للدبلوماسي.. أرشيف السي العربي قد يضاهي أرشيف وزارة الخارجية في بعض ميادين الذاكرة الوطنية، والدليل على ذلك كتابه حول محمد الخامس. التحرير والتوثيق والاشتغال على المعلومة يتطلب دقة ومنهجية في العمل.. الأستاذ المساري كرئيس تحرير جريدة العلم في أواخر السبعينيات رسخ في قاعة التحرير عقلنة العمل والالتزام بالوقت وبضوابط وقواعد التحرير. «الوريقات الصغيرة» للسي العربي معروفة لدى قدماء قاعة تحرير جريدة العلم، تلك الوريقات التي كان السي العربي يذكر فيها المواضيع المدرجة كمادة نشرة الغد... وأقلام العلم تعرفت مع السي العربي كذلك على أجناس وأركان صحفية جديدة، وتمرنت على «الحرفة» اللغوية الخاصة بالصحافة، أي لغة المساري الذي يشهد له أنه يكتب بسهولة ، بلغة سلسة وسهلة من السهل الممتنع، لا يعقد الأمور ولا يسعى إلى أن يتألق في اللغة حيث أن غايته هي غاية الصحافي: التبليغ لأغلب القراء، في حين أن السي العربي «اللغوي» غني إلى حد أنه يكشف عن مكامن من الحق والباطل، والواقع والمزيف في الوثائق الإسبانية التي تؤرخ لعلاقة المغرب بجارته إسبانيا... موضوع بحث التاريخ المشترك بين البلدين الذي إنفرد به السي العربي كاختصاصي كان يزعج المؤرخين والسياسيين الإسبان عندما يحلل العلاقات التاريخية والآنية بين البلدين بمستندات من الكتب والصحف التي جمعها من ذاكرة البلدين. حب التمحيص والتدقيق والتبليغ السريع الشفاف دفع الأستاذ المساري، وزير الاتصال، إلى اعتناق سنة اندهش لها موظفو الوزارة: كان يصر أن يكتب بنفسه الردود على كل المراسلات ويخفف بذلك على ديوانه عبئ هذه المراسلات الإدارية، وفي نفس الوقت يسعد مراسليه بسرعة الجواب وبطابعها الشخصي من طرف الوزير. ثم إن الوزير لم يتنكر لأصله كنقيب الصحفيين المغاربة، ومسؤول لجنة متابعة المناظرة المطلبية لسنة . 1993 فصرح لأول يوم لاستوزاره أنه سيتابع مسؤوليته هاته من موقعه كوزير. من ذكريات المكتب الوطني للنقابة الوطنية للصحافة المغربية، أن كاتبها العام السي العربي كان يخبر أعضاء المكتب بكل المراسلات التي توصلت بها النقابة ويعرض الجواب عليها للنقاش العام، ولا يهمه أن يثقل جدول الأعمال حتى يصل في بعض الأحيان إلى خمسين نقطة ! المهم بالنسبة إليه هو أن تكون الشفافية، معطى دائما في النقابة، وأن تسكن الديمقراطية كل أعضاء المكتب كما تسكنه هو كسياسي، كمثقف، كصحافي. ثلاث صفات تحلم كل الدول أن تجتمع في سفرائها.. وهذا ما حصلنا عليه في سفيرنا في البرازيل السي العربي المساري. فتعرق البرازيليون علينا وعلى بلدنا من خلال الصحفي، الكاتب، السياسي، المثقف المتعدد اللغات، والباحث الدائم في ذاكرة بلده، وثقافتها وعلاقتها مع الآخر، أو الآخرين سواء كانوا جيرانا كإسبانيا، أو بعدين كل البعد كأمريكا الجنوبية والبرازيل بالتحديد. ومع كل هذا، كنا نعرف أن السي العربي لا ينسلخ عن صفته التي يشهرها في كل حين كهوية واحدة ببطاقة واحدة: هوية الصحفي وبطاقة الصحفي، بوفائه هذا بنموذجه وبشخصه وبشخصيته ينصف ويقدس هذه المهنة النبيلة، ومعه بالفعل تستحق هذه المهنة صفة النبل كرافعة دائمة لحرية الفكر والوجدان . للسي العربي موقع متميز في وجدان الصحافة المغربية. وعسى أن تأخذ كل الأجيال القادمة من تفاني السي العربي في خدمة الصحافة المغربية .. كم تمنيت أن أكون يوما بقاعة تحرير يرأسها السي العربي حتى أحظى بنصائحه.. فيعاتبني، مثلا، عن الإطالة في حقه، معذرة الأستاذ العربي المساري أستاذي ورفيقي . إعذرني أخيرا إذا ناجيتك اليوم و أنت قد عزمت الرحيل عنا... بهدوئك المعتاد و سكونك الملهم للحياة و العطاء حتى من بعدك كما صار إبان بقائك...بقاء نبل مهنتنا فيك إلى الأبد!