عندما طلبت مني هيئة تحرير (العلم) الكتابة عن محمد العربي المساري كأحد المدراء الذين تعاقبوا على إدارتها، قفز إلى ذهني سؤال استنكاري ... وهل كان المساري مديراً؟ لقد كان المساري، وظل وسيبقى صحفياً، هكذا عرفته .. وهكذا عملت معه. ثم رحت أفكر بعد ذلك، في الكيفية التي سأتناول بها شخصية هذا الإنسان الرائع. إن المطلوب كما فهمت، رسم صورة عن قرب لمحمد العربي المساري كمدير للعلم، ولكن في مثل هذه المواقف، لابد أن يتقاطع الشخصي مع الموضوعي، لذا ارتأيت أن أكتب عن المساري كما عرفته صحفياً، واستاذاً في المهنة، وفوق كل هذا وذاك، صديقاً عزيزاً. إنها محاولة للكتابة عن صحفي خبر المهنة وخبرته كان ذلك منذ سنوات طويلة مضت، وبما أنني لم أغلق ملف عملي في «العلم» حتى الآن ولهذه الواقعة ملابسات سأرويها لاحقا. فلا أعرف على وجه الدقة متى كان ذلك. ولكن أطن أن هذه الواقعة حدثت في يوم من أيام عام 1977، تلقيت حينئذ من الصديق الأستاذ عبدالجبار السحيمي رسالة شفوية مقتضبة تقول: ما رأيك في الانضمام لأسرة العلم؟ لم أتردد لحظة، ذهبت فوراً إلى 11 شارع علال بن عبدالله، والتقيت هناك الصديق السحيمي، الذي كنت قبل ذلك أتلذذ، بقراءة عموده «أعترف أنني لا أفهم» لم يكن هناك حديث طويل، والتوصيف الدقيق إنه لم يكن هناك حديث أصلا، بل سؤال واحد وجواب مختصر. السؤال: هل تنضم إلى أسرة العلم؟ الجواب: نعم. بعد ذلك ترك السحيمي، تفاصيل الأمور الأخرى للمساري باعتباره رئيساً للتحرير. لن أستطيع في هذه العجالة الإلمام بكل الجوانب الشخصية والمهنية، لسي العربي المساري، لكنني سأحاول التوقف عند بعض المحطات وكذا بعض الومضات. كان زاد «العلم» اليومي من الأخبار يتكون آنذاك من شقين، مراسلات المراسلين في الأقاليم، ووكالة المغرب العربي للأنباء وأحيانا نسخة من قصاصات وكالة الأنباء الفرنسية تجود بها «لوبنيون»، بين الفينة والأخرى. كانت هناك مشكلة دائمة، لم نعرف كيف نتغلب عليها. وتكمن تلك المشكلة، في الإغلاق المبكر للصحيفة. وهو أمر ظل يتبرم منه المساري ويزعجه إلى حد كبير. كان يلح علينا بضرورة البحث عن أخبار طرية ومتميزة، تبرر على الأقل صدور الصحيفة في الصباح. بأخبار ظهر يوم أمس، كما كان يقول. وحين لم نكن نجد مثل تلك الأخبار، يعبر المساري علانية عن إمتعاضه، ويقول لنا في قسم الأخبار «نحن نبيع القراء أكلة بايتة!». أما حين يجد أن هناك مادة في الأولى، ليست من الوكالة أو من أخبار المراسلين المتجاوزة، تكسو ملامحه علامات الارتياح وهو يقول «غداً سنقدم جديداً.. لكن يجب أن نفكر فيما بعد يوم غد». وهكذا تعلمت منه، درساً مهماً في الصحافة، وهو أن الخبر «ما تعرفه اليوم ولم تكن تعرفه بالأمس». كان يمقت التطويل والإطناب في صياغة الأخبار، ومنه أيضا تعلمت أن الخبر هو الذي يكتب جيداً، ومصادره واضحة وصريحة، وكان يلح علينا دائماً في التحرير، بضرورة تجنب الأخبار الألغاز أي تلك الأخبار التي تستند إلى مصادر وهمية. ولأن المساري يعشق مهنته إلى حد الوله، فقد كان يختلس من وقته المزدحم فترات يدلف خلالها إلى غرفة الأخبار، يقلب القصاصات بنفسه، وحين يجد أن خبراً ما قد أهمل لا يخفي ضيقه، ويقول لنا «ياجماعة حرام عليكم ما هذه الأنانية لماذاحرمتم القارئ أن يطلع على هذا الخبر واحتفظتم به لأنفسكم؟» أما حين كان يجد مراسلة من أحد المراسلين في الأقاليم، وقد دفنت في الأضابير أو لم يتم الاعتناء بها، كان يعلق ساخراً: مساكين هؤلاء المراسلين يجتهدون ويرسلون لنا أخبارا ونكتفي نحن في التحرير بدفنها دون مراسم تشييع! حتى في عتابه يظل رقيقا مهذباً وكثيراً ما يمزج الطرفة بالعتاب. إن الصحافة بالنسبة للمساري ليست مجرد اخبار أو تحقيقات أو حوارات، أو تعاليق وتحاليل، فهي قبل كل شيء أخلاق... كان يقول لي دائما: «صحفي بلا أخلاق مهنية ليس صحفياً». لذلك استوعبت تماماً لماذا حرص على تشكيل لجنة لمراقبة الممارسة الأخلاقية للمهنة، كإحدى اللجان الأساسية للنقابة الوطنية للصحافة المغربية. والأخلاق المهنية عنده أن لايكذب الصحفي، لأنه يخاطب الآلاف، فإذا كذب فمعنى ذلك أنه يساهم في تغليط الآلاف أيضاً. اتذكر مرة كتبت خبراً كان إلى حد ما مشكوكاً في صحته. استدعاني كعادته في الصباح الباكر، وتحدث عن بعض الأمور العامة ثم عرج على الخبر موضوع اللقاء ليقول: أكثر ما يضايقنا في «العلم» أن نتلقى «بيان حقيقة»، الخبر الذي كتبته اليوم جيد جداً، إذا كان صحيحاً أما إذا كان خاطئاً، فهذا معناه أننا سنفقد قراء كثيرين. وأردف: «لك أن تتخيل عاملا في معمل لتعبئة السردين، إذا أخطأ في تعبئة علبة سردين واحدة التعبئة الصحيحة واستهلكها مواطن، سيتسبب ذلك حتماً في تشويه سمعة المعمل، فكيف يكون الموقف إذا كان الخبر مادة يستهلكها كثيرون؟» واستوعبت الدرس: فمن الأفضل للصحفي أن لايكتب شيئاً، عوض أن يكتب خبراً مشكوكاً في صحته، حتى ولو كان سيجلب للصحيفة آلاف القراء الجدد. كان إذا لم يرغب في نشر مادة ما، يختار أسلوباً خاصاً لإشعار المحرر بذلك. أتذكر أنني كنت أشرف على صفحة الأخبار الدولية، وكانت تسمى آنذاك «آفاق دولية» وشرعت في كتابة تعليقات في عمود كان ينشر بعنوان «مساقط ضوء» حول الأزمة العراقية الإيرانية... وهي أيامئذ في بدايتها، والموضوع تكتنفه آنذاك حساسيات خاصة، سألني المساري: هل ستستمر طويلاً؟ ومن يومها لم اكتب حرفاً عن ذلك النزاع. إن الدقة والمثابرة والمتابعة، صفات تطغى على ما عداها عند المساري. في اجتماعات التحرير كان يسجل كل شاردة وواردة، وحين يتقرر تكليف أحد المحررين بإنجاز عمل ما، يظل يتابعه بحزم لايخلو من لباقة، ويحثه على الإنجاز. كنت إذا دخلت مكتبه تلحظ أن هناك ورقة بيضاء يكتب عليها مايسميه «بالتكليفات»، وهي عبارة عن ملاحظات تلغرافية، على سبيل المثال: * مراسلو الأقاليم.. * متابعة موضوع الخارجية... * عمود صفحة المراسلات... * تلخيص ندوة طنجة للصفحة الأولى... * متابعة موضوع جمعية المساندة... ولعل أسعد أيامه هي تلك التي يجد فيها متسعاً من الوقت للتشطيب على جميع الملاحظات التلغرافية في الورقة البيضاء التي أمامه، أي أن تكون جميعها قد انجزت.... كما كانت له عادة سأستفيد منها كثيرا في وقت لاحق، وهي أنه ما أن يدخل عليه أحد المحررين، حتى يبدأ في تسجيل الملاحظات... كان يكتب ويتكلم في الوقت نفسه! وكان لديه أسلوب لطيف في المتابعة، فهو يرسل لك وريقة تلو الأخرى وإذا ما طرأت له فكرة أو حتى نكتة، يرفقها لك مع الملاحظات الخاصة بالعمل. * * * * وتظل «العلم» تسكن المساري صباح مساء. في بعض الأحيان وحين يكون مزاجه رائقاً، كنا نخرج من الصحيفة لنتمشى في شوارع الرباط، كنت أجد متعة لاتضاهى وأنا استمع إليه وهو يتحدث عن بعض الملاحظات المهنية... كانت الجريدة معه أينما ذهب. ولعلني استأذنه الآن، في أن انقل لكم رسالة شخصية تلقيتها منه مباشرة بعد تعيينه سفيراً في البرازيل، وكنت قد بعثت له ببطاقة تهنئة على المنصب الجديد. تاريخ تلك الرسالة هو يوم 1985/10/6 وفيها يقول المساري: «خاطبت بطاقتك، نفساً ممزقة بين إغراءات التجربة الجديدة، والحنين الصادق لحياة عشناها معاً. أعلل نفسي هذه الأيام بأن معي بطاقة عودة. أحياناً أتلمسها بحرص وكأنها تميمة واقية. أنت تعلم أن «العلم» صعب فراقها، علمت ذلك وجربته. فهي تقي من الملل والزلل. الملل لأن طلباتها لاتنفذ وطاعتها واجبة فلا يبقى للمرء وقت لينشغل بنفسه، ومن الزلل لأنها تفرض على المرء أن يرعى الصلات التي تربطه بالآخرين. ادع لي بقرب العودة مع المحبة والتقدير» أخوك محمد العربي المساري. واذكر أنني سألته في رسالة أخرى عن الفرق بين «العلم» والسفارة أجابني برسالة اقتطف منها هذه الجملة: «السفارة مثل تاكسي تركبه بمن فيه، لاخيار لك في تحديد المسيرة، وتحديد رفاق الطريق، الفرق الوحيد أنك تجد نفسك أنت هو سائق التاكسي». بعد صدور الشرق الأوسط بفترة وجيزة، طلب منه رئيس تحريرها آنذاك، أن يرشح له مراسلاً للصحيفة في الرباط، وكان أن رشحني المساري لهذه المهمة.. وعندما بدأت أعباء العمل الجديد تزداد، جئت إليه مصارحاً.. قلت له لايمكنني التوفيق بين المهمتين، العمل في العلم والعمل كمراسل، استمعت بانتباه إلى نصائحه التي ختمها قائلاً: على أية حال لن تقبل منك «العلم» خطاب إستقالة، لذا انصرف إلى عملك ومتى وجدت أنك ترغب في العودة ل «العلم» لاتستأذن أحداً بل أطلب من سي عبد النبي أن يجد لك مكتباً. وهكذا غادرت «العلم» بهذا النبل وروح الزمالة العالية... لذلك فإنني شديد الاعتزاز أن ملف عملي في «العلم» ظل مفتوحاً، لم أقدم استقالة ولم يطلبها مني أحد، وبالطبع لم أقل... وكان ذلك من بين الدروس المفعمة بالود التي تلقيتها من المساري. الآن، هل قدمت صورة عن قرب للأستاذ محمد العربي المساري كأحد مدراء صحيفة العلم؟ المؤكد أنني لم أتحدث عن «مدير» لأنني لم أتعامل مع المساري «كمدير» ولم أحس طوال فترة عملي معه أن هناك علاقة بين «مدير»... و«موظف» ولم أكن أتذكر هذه الوظيفة «مدير العلم» إلا حين أقرأ ترويسة الصحيفة... والمؤكد كذلك أن المساري ظل وسيظل صحفياً، وإنساناً رائعاً. إنني اليوم لشديد الإعتزاز أن أكتب عن هذا الصحفي/الإنسان. سيظل المساري استاذاً في المهنة وأخلاقياتها، وصديقاً عزيزاً، أتاحت لي العلم كدأبها فرصة سانحة لأتحدث عن مشاعري تجاه الرجل الذي تعلمت منه الكثير... الكثير.