لم يكن السكن في حي المحيط مريحاً. اعتاد زملاؤنا في الأحياء الجامعية زيارتنا بين الفينة والاخرى، وكانت هذه الزيارات تكلفنا كثيراً، إذ أنهم كانوا يفضلون أن نعد لهم أكلات سودانية، لأن وجبات المطعم الجامعي تفتقد لذلك المذاق الحار ونكهة التوابل والبهارات التي اعتدنا عليها في السودان. شكل إعداد هذه الوجبات أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى ضعضعة ميزانية، مضعضعة أصلاً . وحينما بدأت نقودنا القليلة تتناقص انعكس ذلك على طعامنا، وهكذا أصبحنا نكتفي بما قل : بيض مع الطماطم في أحسن الأحوال، أو قليل من البطاطس السابح في الماء، وأحياناً الخبز مع البصل. فقط. سأترك موضوع الأكل جانباً حتى لا يقال إنني أفكر بمعدتي ،والواقع أنني لا أنفي ذلك كلية. *** بدت لنا عطلة الصيف ثقيلة ومملة، إذ كان علينا أن نعيش بمنحة يفترض أن تغطي ثلاثة أشهر لفترة تمتد إلى ستة أشهر أي إلى حدود بداية العام الدراسي. كنا لا نعرف كيف سنتدبر أمورنا. كنت شخصياً في حالة إحباط، ينطبق علي ذلك المثل القائل: الرجل اليائس حين يشم زهرة يتذكر جنازة. تحت وطأة المعاناة طرأت لي فكرة مغادرة المغرب إلى بريطانيا لاستكمال الدراسة الجامعية. لم تأت هذه الفكرة من فراغ. كنت قد كتبت إلى إحدى الجامعات البريطانية عن طريق المركز الثقافي البريطاني في الرباط، للاستفسار عن إمكانية متابعة الدراسة، فتلقيت رداً يفيد أن ليسانس السلك الأول يتيح متابعة الدراسة في المرحلة التي يطلق عليها أكاديمياً ما بعد DEUG (دبلوم الدراسات الجامعية العامة) . ومما شجعني على المضي قدماً لتنفيذ هذه الفكرة، أن الحصول على منحة للدراسة الجامعية لم يكن أمراً مستعصياً. لم أتحدث مع أحد حول هذه الفكرة، وكانت الخطوة التالية مراسلة بعض الجهات في بريطانيا التي تقدم منحاً دراسية. وبينما أنا منهمك في هذا المشروع، ستأتي الواقعة التي أحدثت تحولاً كبيراً في مسار حياتي. وأعني الواقعة التي جعلتني أمتهن الصحافة. وهي المهنة التي ستبتلعنا الى يومنا هذا، ومن يدري ربما حتى يتكرم علينا الزملاء بخبر في صفحة الوفيات . *** ذات يوم من أيام ذلك الصيف المتعب أخبر الأخ أبوبكر الصديق الزميل محجوب البيلي أن صحيفة جديدة تطلب محررين يعملون في ترجمة وكتابة الأخبار الدولية. التحق البيلي بالعمل ثم لحقت به بعد أسبوع. كانت الصحيفة هي "الميثاق الوطني" (1) ، كانت مكاتب تحرير الصحيفة توجد أيامئذٍ في شارع علال بن عبد الله في وسط الرباط. قاعة تحرير كبيرة إضافة إلى مكتب لرئيس التحرير. قابلت المسؤول الإداري آنذاك وأبلغني أن عملي سيحدده رئيس التحرير، الذي لم أكن أعرفه، مشيراً إلى أن الراتب سيكون طبقاً لنوع وحجم العمل الذي سينجز. دخلت قاعة التحرير فوجدتها تغص بالمحررين، حدد لي المسؤول الإداري المكتب الذي سأجلس عليه، إلى جوار الأخ البيلي، تبادلنا كلاماً هامساً مقتضباً خشية أن نثير غضب شخص ما، فنتهم بالإزعاج ونطرد من العمل. هكذا اعتقدت آنذاك، وربما سيكون هذا موقف أي شخص يبدأ العمل في يومه الأول في مهنة جديدة ووسط أجواء لم يألفها من قبل . جلست في حالة ارتباك في انتظار العمل الذي سأكلف به. مضت الساعات ثقيلة متباطئة كأنها سنوات. بعد فترة جاء أحد الأشخاص يحمل صحيفة "هيرالدتربيون"وطلب مني ترجمة مقال يتحدث عن أزمة سياسية في تركيا. كان ذلك المقال هو أول مقال أترجمه في حياتي المهنية. ولعل من الأشياء الطريفة أنني منذ تلك الفترة بدأت أهتم بالأوضاع السياسية في تركيا. ربما لأن تركيا فتحت لي طريق الصحافة أو ربما لأن لحظات البداية تظل راسخة في الذاكرة. كان المقال يتحدث عن صعود نجم بولنت أجاويد زعيم الحزب الاشتراكي، وصراعه مع سليمان ديميريل، زعيم حزب العدالة، الذي سيصبح بعد سنوات طويلة رئيساً لتركيا، بينما تراجع حزب أجاويد ليصبح من الأحزاب الصغيرة. بذلت جهداً استثنائياً لترجمة ذلك المقال، ويبدو أن الترجمة راقت المسؤول الذي لم أكن أعرفه، فبعد انتهائي من الترجمة حملت المقال إلى الشخص الذي أحضره لي في البداية، وكنت أعتقد أنه هو رئيس التحرير لأكتشف فيما بعد أنه فراش (شاوش) من أولئك المغاربة الذين أُبعدوا أثناء توتر العلاقات بين المغرب والجزائر خلال فترة الرئيس الراحل هواري بومدين. كان يدعى "علي" يتكلم العربية بصعوبة ويجد راحته في الفرنسية. كنت كلما ألتقيته بعد ذلك أمازحه : السيد رئيس التحرير. وكان اللقب يعجبه كثيراً. كانت فترة صعبة، أحس في كل يوم أنني أمام امتحان، لكن الأمور سارت سيرها العادي رغم صعوبات البداية. خلال فترة العمل في "العلم" *** كنت متلهفاً لقراءة أول موضوع أنجزه وأنا أبدأ مشواري مع هذه المهنة. انتظرت اليوم التالي وأنا أحسب الدقائق والثواني. في الصباح الباكر وعندما وصلت إلى مبنى الصحيفة وجدت نسخة من الصحيفة على المكتب، تصفحتها بسرعة وأحسست بضيق شديد لأن الموضوع الذي ترجمته حول تركيا لم ينشر. جلست على مكتبي في حالة وجوم وإحباط شديدين، وكأني أصبت بفاجعة. لم أحدث أحداً، بل قل إنني لم أكن قد تعرفت على أحد لأُحدثه. مشهد الأمس يتكرر من جديد، صديقنا علي الفراش (الشاوش) يحضر "هيرالد تربيون" وعليها علامة على موضوع يتعلق بالاتحاد السوفياتي. طلب مني ترجمته. انهمكت في الترجمة متجاوزاً حالة الإحباط التي تملكتني. كنت ألاحظ أن أناساً كثيرين يدخلون ويخرجون من قاعة التحرير، وثمة حركة دائبة وحديث هامس أو بصوت مرتفع لكنني لم اكن أفهم شيئاً مما يدور حولي . فرغت من الترجمة، وأظن أن الأخ محجوب البيلي كان قد قام بشيء مماثل. في اليوم التالي جئت الى الصحيفة ليس بحماس اليوم السابق، فقد كنت أنتظر أي شيء، كأن يقال لي ان العمل الذي أنجزته غير صالح، لذلك لم ينشر، وبالتالي، توكل على الله. وجدت الصحيفة فوق المكتب، تصفحتها، وكدت أصاب بالذهول عندما وقعت عيناي على الصفحة الثالثة في زاويتها اليسرى موضوع منشور على عمودين وفى أعلى الصفحة صورة للزعيم التركي بولنت أجاويد . يا إلهي، إذن نشر الموضوع . لا أكتمكم القول إنني قرأت ذلك الموضوع عشرات المرات واشتريت عدة نسخ من الصحيفة، فقد خجلت أن أطلب أعداداً أخرى. أعدت قراءة الموضوع في المكتب مرات، ثم نزلت إلى مقهى "مبروكة" المجاور للمبنى الذي كانت توجد فيه الصحيفة وقرأته مرات ومرات، وكنت في كل مرة أتخيل أن قارئاً قرأه متخيلاً رد فعله، فأعود لقراءة الموضوع. عندما رجعت للشقة في حي المحيط، كنت أعود بين الفينة والأخرى لقراءة الموضوع. في اليوم التالي ستكون المفاجأة أكبر، فقد وجدت مقالاً ترجمته منشوراً في الصفحة الثالثة كذلك، مذيلاً بتوقيعي "ط.ج". لا أستطيع الآن وبعد كل هذه السنوات التي مضت أن أصف شعوري، لكن سأقول لكم إنني في كل مرة كنت أقرأ التوقيع أعيد قراءة الموضوع، حتى كدت أن أحفظه عن ظهر قلب. *** ثم توالت المواضيع التي تنشر، وما أن مرّ شهر حتى رسخت أقدامي تماماً. وفي نهاية الشهر الأول سينادي عليّ المسؤول الإداري، وأظن أنه كان يدعى " نعيم " ليسلمني ظرفاً بداخله مبلغٌ من المال . وضعت الظرف في جيبي ورحت أنتظر ساعة مغادرة مبنى الصحيفة، ليس فقط "على أحر من جمر " بل قل "على أحر من فرن ". وعندما فتحت الظرف عددت المبلغ بسرعة قياسية لأجده ألف درهم بالتمام والكمال. كان ذلك أول راتب أتقاضاه من هذه المهنة، ولأنه كان يعد مبلغاً محترماً في تلك السنوات من السبعينيات، فقد رحت أتمشى ما بين شارعي محمد الخامس وعلال بن عبد الله يلازمني إحساس بأنني "أوناسيس" سوداني في شوارع الرباط. عدت للزملاء في شقة الرطوبة والبرد في حي المحيط، وأتذكر أننا أقمنا وليمة كادت تنسينا كل مرارات الشهور التي مضت وكان قرارنا الفوري أن نرحل لشقة أخرى تكون أكثر دفئاً . وهكذا كان، فقد رحلنا إلى الحي نفسه في شقة تقع قرب ملعب "بيكس". لكن، مهلاً، لاتعتقدوا أن الأمور سارت كما ينبغي. كان من الواضح أن الصحيفة تتلمس طريقها، وتعيش مرحلة تأسيس وما يتبع ذلك من مشاكل، كما كان واضحاً أن القائمين على أمرها، وهذه أمور سأُدركها فيما بعد، يبحثون عن فريق عمل صحافي متكامل والسعي لتأسيس مطابع ومقر جديد للصحيفة. لذلك، وبعد أن تذوقت طعم الراتب والغلاف الذي يسلمنا إياه المسؤول الإداري كل شهر، جاء شهر ثم تبعه آخر ثم ثالث لم نعد نتسلم شيئاً. بعدها، قيل لنا أن نصبر قليلاً مع وعد بتوقيع عقود عمل مع جميع المحررين، وأخبرت شخصياً أن راتبي سيكون في حدود 2500 درهماً، وشرعت إدارة الصحيفة في تسليمنا دفعات مقدمة خصماً على الراتب . في مطبعة "العلم" *** انتهت عطلة الصيف، وعاد الزملاء من عطلاتهم ليجدوا صاحبكم هذا، وقد أصبح محرراً ينشر له في كل يوم مقال مترجم أو تعليق ، بل أكثر من ذلك أصبحت أكتب عموداً يومياً أخترت له إسم "مساقط ضوء" . أعود بكم الآن إلى الكلية، إذ أن العمل شكل حافزاً لإنهاء الدراسة بسرعة من أجل التفرغ للمهنة الجديدة. تبعاً للظروف التي استجدت، كنت قد صرفت النظر عن فكرة السفر إلى بريطانيا لمتابعة الدراسة الجامعية، لذا تسجلت في تخصص علم النفس رفقة الصديقة نجية، وكنت آمل إنجاز تخصص في علم النفس الجنائي، لماذا هذا التخصص على وجه التحديد ؟ لا أملك جواباً . وجدت صعوبة في التوفيق بين ظروف العمل والدراسة، لكنها كانت صعوبات البداية، إذ عندما بدأت المحاضرات تبين أن هناك بعض المواد التي لا تتطلب حضوراً منتظماً، كما أن العمل في الصحيفة يبدأ عملياً في الحادية عشرة صباحاً ويستمر حتى حدود الثالثة بعد الظهر، وخلال هذه الفترة عادة لا تكون محاضرات في الكلية. لم أستمر كثيراً في شعبة علم النفس، إذ أن المواد لم تستهوني، فارتأيت الانتقال إلى شعبة الفلسفة. لم أجد صعوبة تذكر في هذه الشعبة، ورغم ظروف العمل وعدم الاستقرار الذي سيميز تلك السنة، فقد استطعت اجتياز الامتحانات بسهولة، ونجحت في الدورة الأولى، لكنني سأنقطع لأعود بعد سنتين لإنجاز بحث التخرج في ظروف أفضل بكثير من تلك التي تابعت فيها الدراسة في السنة الثالثة. تسجلت بعدها لإنجاز شهادة الدروس المعمقة بعد الليسانس. *** استمر الوضع في صحيفة (الميثاق الوطني) على ماهو عليه أي في ظل أجواء مرحلة التأسيس، وأضحت الظروف المعيشية صعبة للغاية . صحيح أنني اكتسبت تجربة مهمة، وتعرفت على أجواء العمل الصحافي، وأهم من ذلك أنني سأتعرف على عدد لا بأس به من الزملاء، أعتز بمعرفة وصداقة بعضهم إلى يومنا هذا. لكننى بالمقابل كنت قد ضقت ذرعاً بعدم الاستقرار المادي خصوصاً أن الناس لم تعد تتعامل معك كطالب. إذن ما العمل ؟ في تلك الفترة ورغم قصرها يبدو أن إسمي أو ما أكتبه أصبح ذا شأن . *** وذات يوم سأتلقي من الصديق عبد الجبار السحيمي رئيس تحرير صحيفة "العلم"، رسالة شفوية مقتضبة تقول : ما رأيك في الانضمام لأسرة العلم؟ لم أتردد لحظة، ذهبت فوراً إلى 11 شارع علال بن عبد الله حيث يوجد مقر الصحيفة، على أمل اللقاء بالصديق السحيمي، وجدت رسالة شفوية لدى كاتم أسرار " العلم " بالصديق الراحل عبد النبي (رحمه الله) الذي سألقبه فيما بعد " بأفضل شاوش في إفريقيا " مفادها أن الصديق السحيمي حدد لي موعداً جديداً. ساورتني بعض الشكوك حول احتمال أن يكون الرجل قد عدل عن رأيه . أحسست بشيء من الخيبة. عدت بعد يومين أو ثلاثة، لم أعد أذكر، في الموعد المحدد وجدت الصديق السحيمي غارقاً في أوراقه وملفاته في مكتب يطل على باب المطبعة الخلفي . لم يكن هناك حديث طويل، والواقع أنه لم يكن هناك حديث أصلاً، بل سؤال واحد وجواب مختصر. السؤال : هل تنضم إلى أسرة العلم؟ الجواب : نعم . بعد ذلك ترك السحيمي تفاصيل الأمور الأخرى للصديق محمد العربي المساري الذي كان آنذاك رئيساً للتحرير. مع الزميل بوجمة افزران خلال فترة العمل في "العلم" *** في اليوم التالي التقيت المساري، وأبلغني أن ظروف "العلم " المالية لا تسمح إلا بأجرة متواضعة... واقترح مبلغاً في حدود 1300 درهم. لم أناقش، ودون تردد وافقت . تقاسمت مكتباً كان يجلس فيه الزميلان محمد بنيس ومصطفى السباعي، قبالة مكتب السحيمي . كنت اعتقد أنني سأعمل في القسم السياسي أو قسم الأخبار، لكن ذلك لم يحدث حتى كتبت موضوعاً سبب لي وللصحيفة مشكلة، بسبب توقيته، فقد كان هناك وفد مغربي رفيع المستوى يزور موسكو للتوقيع على صفقة مهمة لبيع الفوسفات للسوفيات، وإذا بصاحبكم هذا يجمع مادة تحقيق من بعض الصحف والمجلات الإنجليزية حول قضية المنشقين السوفيات، أولئك الذين فروا من موسكو ولجأوا إلى الغرب وينشر التحقيق في تزامن مع زيارة الوفد إلى موسكو. تلقيت توبيخاً من الأستاذ عبد الكريم غلاب شخصياً، لعله كان الأول والأخير، بعد ذلك تقرر أن أنتقل إلى القسم السياسي، ربما حتى لا أكتب عن منشقين آخرين. أما أول موضوع كلفت بإنجازه فله حكاية تروى. جئت في صباح أول يوم عمل لي، ووجدت فوق مكتبي نسختين من " العلم و"لوبنيون". رحت أتصفحهما في انتظار أن أكلف بشيء أكتبه. وعند منتصف النهار جاء الصديق السحيمي يحمل قصاصات ومواد تتحدث عن " شارلي شابلن " بمناسبة وفاته وطلب مني تلخيص كل ذلك في موضوع للصفحة الأخيرة. كان ذلك أول موضوع أكتبه في العلم. بعدها اندمجت في أجواء العمل، وكانت بحق أجواء حميمية وبعد سنتين أمضيتها في صحيفة " العلم " انتقلت الى صحيفة "الشرق الأوسط..." وتلك قصة طويلة. طويلة جداً. _______ (1) صحيفة (الميثاق الوطني) يومية مغربية كانت ناطقة باسم حزب التجمع الوطني للأحرار. [email protected]