لم يكن صراخ الحمقى وتأرجحهم بين الجد والهزل، بين المألوف والمجرّد، بين العقل واللاعقل، بين الحقيقة والخيال، بين الحقيقة والوهم، بين الخطأ والصواب، بين الواقعي والمتخيل إلا رغبة في أسماع الصوت المكتوم داخل أسوار الاعتقال، وهو ما حصل من خلال انعدام الوقت الميت، والتركيب الدينامي داخل موسيقى صاخبة حيوية، واعتماد اللونين الأسود والأبيض كخلفية ثابتة للتأكيد على الصراع الأبدي بين الحضور والغياب . بذا كانت «سوالف الكمرة» تحليقا خلّاقا فوق عش العنكبوت على غرار «التحليق فوق عش الوقواق» لكين كيسي بتعديل مستمر لعلامة التشوير في اتجاه حمق العالم الخارجي من تأليف وإخراج محمد حتيجي، وتشخيص كل من رشيد العسري، مصطفى السميهري، مونية المكيمل ، وعادل نعمان، جاءت «جماعة لبساط» بمسرحية «سوالف الكمرة» عرضا يحبل بلوحات تراجيكوميدية دالة قابلة بفعل حبكتها لقراءات متعددة تفتح باب التأويل على مصراعيه: فمن دلالة العنكبوت الى تمرّد المعتوهين الى الولادة القيصرية الى الانتقام من مدير المارستان ، كانت حكاية الأحمق العاقل فينا بكل صراخه المكتوم بين الهزل الجدي والجد الهزلي في دوامة البحث عن الخلاص... لم يكن العرض استعراضيا خطابيا لمقولات معرفية تتناول موضوعة الحمق والبله والعته و العطب والتشرد ... بل كان حكاية مملكة المجانين في انتقال البلد بأسره من مأساة «بويا عمر» الى مأسسة الحمق داخل مؤسسة تليق بالمقام . فمن رحم العنكبوت، تنطلق اول لوحة للمسرحية بكل المسخ (la metamorphose) الإيحائي الدال عن الانبثاق من الكائن - الحشرة الى شبه الكائن - الإنسان ،بالتركيز على لحظة الانتقال الحاسمة إعلانا عن ميلاد أربع كائنات متحولة باستمرار تتقن التبدل السريع من حال الى حال في تناوب سلس بين الأدوار تسجيدا لسيرورة وجوب الولادة المستمرة وضرورة منطق الارتقاء. فمن صلب عش الحشرة البيضاء على الخلفية السوداء (على غرار الوجود الأبيض في مساحة العدم الأسود) يحصل الانتقال من اللوحة التجريدية الى المشفى الواقعي باعتباره اللحظة الضرورية لولادة الجنس الآدمي السليم . ولادة هذه الكائنات المعتوهة هو ما يخلق منذ الوهلة الأولى الوعي لدى المشاهد بضرورة التقاط الفكرة التاوية خلف الضحكات الهستيرية، واللعب الكرنفالي، والحركة الدائبة المستمرة شلالا على الركح الأحمق ، هو نفسه ما يجعل من كائنات العنكبوت « سوالف» تحتاج الى أكثر من مشط كي تنساب حريرية تلائم بهاء ضوء « الكمرة»، كائنات هلامية، زئبقية، غير قايلة للتصنيف، لأنها بكل بساطة كائنات الجسر بين ضفتي الحمق والتعقل، فتشتغل على طول العرض حمولة الصفة وشغب الموصوف، ويؤجّل الى حين كل حكم قيمة . بذا لم يكن حمقى اللوحات أشكالا (Formes) فارغة، قوالب جاهزة ، معيارية، ظواهر صوتية سرعان ما يحيلها المشاهد الى ما اعتاده في تعامله البسيط مع « الحمق» ليقصيها خارج دائرة الاهنمام، بل كانت، على طول العرض، قوى (Forces) تتخلّق في تحولاتها لتحافظ برزانة على ضرورة استنطاق الكلام دونما ايغال في لعبة الحكيم المالك ناصية « الحقيقة». لم يكن المشفى منابر متراصة لإلقاء الخطب الجوفاء، بل كان جسرا لتفاعل مستمر بين قاطنيه، تفاعل تتصارع فيه الكائنات الذكورية المعطوبة على اثبات ذاتها، وتأكيد حضورها في تسابق محموم لنيل السلطة المعنوية حتى داخل فضاء رافض لها لا يقيم كبير اعتبار الا لسلطة القيّم على ترشيد الحمق، حينها تبرز لغة الجسد التي للأنثى وحدها ، بكل أبعادها الجنسية، قوة المحرار (le thermométre) الذي تقيس به درجة الحرارة في تسابق الفحولة المجنونة للفوز بالأنثى، والذي من شأنه ان يبقي على أدنى ما يطمح إليه الأحمق من أدميته المعلّقة إلى أجل غير مسمى. هو التسابق الذي لن تحول كل الإعاقات الذهنية والبدنية دون إذكائه رغبة في إنعاش النفس المقهورة بنسيم انثوي حتى وان كان محمّلا بعرق الأشغال الشاقة والألم الحاد لرقصة الأنثى المذبوحة . هل كنا نضحك «مع»أو «على» ضحايا «سوالف الكمرة» تلك هي المسألة التي ظلت هاجس المؤلف والمخرج، ولم تكن ثلاثة لوحات داخل العرض: - لوحة الولادة من رحم عش العنكبوت - لوحة ولادة الأنثى بكل مخاضها العسير - لوحة الانتقام من تجبّر القيّم على تدارك الخلل، وهي اللوحات الثلاثة التي حصلت على الدرج أسفل عش العنكبوت، إلا التذكير المأساوي بالواقع المزري لفئة اجتماعية طالها العبث والتناسي، والذي يحول دون تحويل الركح الى مجرد «ذريعة» لتمرير خطاب الضحك على آفة المعتوهين وجرح المعطوبين، وبهذا ينتقل المشفى من الركح ليمتد عميقا، ويحوّل المشاهد نفسه الى كائن أحمق شاك في كل يقينياته ومنسّبا كل « حقائقه» . لم يكن صراخ الحمقى وتأرجحهم بين الجد والهزل، بين المألوف والمجرّد، بين العقل واللاعقل، بين الحقيقة والخيال، بين الحقيقة والوهم، بين الخطأ والصواب، بين الواقعي والمتخيل إلا رغبة في أسماع الصوت المكتوم داخل أسوار الاعتقال، وهو ما حصل من خلال انعدام الوقت الميت، والتركيب الدينامي داخل موسيقى صاخبة حيوية، واعتماد اللونين الأسود والأبيض كخلفية ثابتة للتأكيد على الصراع الأبدي بين الحضور والغياب . بذا كانت «سوالف الكمرة» تحليقا خلّاقا فوق عش العنكبوت على غرار «التحليق فوق عش الوقواق» لكين كيسي بتعديل مستمر لعلامة التشوير في اتجاه حمق العالم الخارجي.