في سوريا وبشكل خاص في حماة, المآسي والمعاناة لها عناد وإصرار التعايش والتطابق. فمن الأرملة التي تنام فوق قبر ابنها إلى القتلى الذين تقصف قبورهم المفتوحة وتحصد أقاربهم الذين جاؤوا لدفنهم، إلى المقابر الجماعية التي تحولت إلى حدائق عمومية قبل أن تعود بعناد أيضاً إلى مقابر. المآسي تتراكم بدرجات متوالية دون أن تتمكن من أن تجرف معها إنسانية الضحايا. السبت 13 غشت 2011 عليَّ أن أغادر حماة للعودة إلى العاصمة مروراً بحمص. فيصل ورفاقه رافقوني حتى مشارف المدينة، حيث كنا على موعد مع سائق طاكسي أرسله عمر من حمص. الخروج من المدينة جرى بدون مشاكل، لكن فيصل لم يخف قلقه. مراقبة بسيطة للهوية خلال الرحلة يكفي لجعل كل الشبكة التي أقامها المنسقون بالمنطقة في خطر. »انتبه جيداً لحواجز التفتيش، كان يلح على السائق الذي يعمل كغطاء للعديد من النشطاء، لأن الرجل لم يكن مبحوثاً عنه من طرف الأمن. وأقسم لك أنه بالأفلام والوثائق التي تحملها معها، الشنق مضمون«. بعد وداع سريع، سرنا في الطريقة وبسرعة وجدنا أنفسنا وراء رتل من الدبابات كانوا في الطريق إلى حمص، ليس هناك حاجز في الأفق. فور وصولنا، التحقت بعمر في مخبئه الآمن الذي التقينا فيه الدكتور علي والممرضة المتطوعة. كان المكان يعج بالناس، يدخل إليه ويخرج منه العديد من النشطاء، كنا مستغرقين في النقاش، عندما استقبل صاحب المنزل. رجلا له هيئة مثيرة. رجل في السبعين من العمر، كسا الشيب رأسه وعيناه تلمعان ذكاء، مامون جندالي يبدو كعالم ألماني، جراح مازال يمارس في عيادته الخاصة والمشهورة بجديتها في المنطقة. لكنه اليوم يستعد لمغادرة سوريا مع زوجته. قبل ثلاثة أسابيع، تعرض الرجل وزوجته للضرب الوحشي من طرف أزلام النظام. حملة تعذيب مقيتة بإيعاز من النظام، انتقاماً من ابنهم مالك جندالي عازف بيانو ماهر يعيش في أطلنطا بالولايات المتحدة. في يوليوز، نظم مالك حفلة موسيقية أمام البيت الأبيض باسم سوريا حرة وديمقراطية, رفع خلالها مناضلون سوريون أعلام الثورة. وغنى خلالها مالك آخر أعماله: »أنا وطني«. بدون غضب أو حقد، يتحدث الدكتور جندالي الذي مازال وجهه يحمل آثار الاعتداء، يتحدث عن وطنية ابنه مالك: »إبني أمريكي، ولد في ألمانيا لكنه كبر في حمص، وهو متشبث دائماً بهذه المدينة. ببلده الأصلي، عندما أصبح مشهوراً وحصل على الجوائز، أراد أن يفعل المزيد لسوريا. لكنني كنت أجيبه أن الحب والحرية والعدالة ليست لها حدود أو جنسيات، وأنه ليس بحاجة لذكر اسم سوريا في أعماله لكي يخدم بلده، مالك كان دائماً عاشقاً لبيتهوفن. كنت دائماً أزعجه بدعوته إلى تقليد استقلالية وكونية عبقرية الألماني الذي كان يحتفي بالفرح والبطولة وليس ب»بون» مسقط رأسه أو «فيينا» المدينة التي عاش فيها. في عمله الأخير، كان مالك يتحدث فقط عن الحرية. لكن يبدو أن هذه الكلمة أفقدتهم صوابهم. السفير السوري في واشنطن أنجز تقريره وبعد ساعات على انتهاء حفل إبني، سقطت علينا الأيادي الغليظة للنظام«. في تلك الليلة، غادر الدكتور جندالي عيادته عائداً إلى بيته، كان على بعد أمتار من بيته، عندما اقترب منه رجل وطلب منه إن كان بإمكانه أن يهتم بطفل أصيب برصاصة. قبل الطبيب وأجرى الرجل المجهول مكالمة من هاتفه المحمول طلب فيها أن يتم جلب المريض. بعد وقت قصير، وصل رجلان لم يكن معهما أي مريض، وضعوا الأصفاد في يدي الطبيب وكمموا فمه وأدخلوه إلى منزله، حيث كانت زوجته لينا المريضة ممددة على سريرها. بدا أن هذا الكابوس لا ينتهي. طلب رئيس المجموعة من الرجلين »الاعتناء« بلينا وكان يحكم قبضته على الطبيب وهم ينفذون. أجبر مامون جندالي على حضور هذا المشهد الرهيب, »كان مشهد رؤيتها وهي تضرب دون إمكانية التدخل، أمراً رهيباً لا يطاق. عالجت آلاف الناس في حياتي، وكنت هناك عاجزاً غير قادر على إنقاذ زوجتي. كانوا يضربونها مثل الوحوش. لينا عمرها 66 سنة وكانت مريضة. لقد كسروا فكها وفقدت بعض أسنانها. عندما جاء دوري كانوا يصيحون وهم يضربوني: »إبنك يريد أن يظهر أنه فنان، ستقول له كيف علمناك الغناء. بعد ذلك، جر المعتدون الثلاثة الزوجين: »سنذبحكما في الحمام، سيكون ذلك أنظف«، أغلقوا الباب على لينا وزوجها داخل الحمام بعد أن أطفأوا الأنوار وغادروا وهم يصيحون »سنعود بعد لحظة لقتلكم«، كانت كذبة يريدون بها استمرار الرعب... تمكن الدكتور جندالي من تشكيل رقم قريب من هاتفه الذي ظل في جيبه. سارع الرجل إلى بيت جندالي ووجد لينا مكومة على نفسها والدماء على وجهها ومامون مكبلا ومكمم الفم. حطموا كل شيء في الشقة، كسروا الدواليب وأفرغوها من محتوياتها »سرقوا مجوهرات وساعة »رولكس« التي أهداها لي إبني وحتى مفاتيح العيادة« ,قريب الدكتور صور كل هذه المشاهد وأرسلها على الفور إلى مالك على الضفة الأخرى من المحيط. الموسيقي الذي جن من الألم والقلق، اتصل بوزارة الخارجية الأمريكية، نددت هيلاري كلينتون بالجريمة، وقررت السلطات الأمريكية منح الزوجين حق اللجوء، لكن على الدكتور جندالي أن ينظم قبل ذلك عملية اللجوء, والتي تعني التخلي عن كل شيء: عيادته، مرضاه، منزله، أقاربه مكانته في مجتمع يعشقه. وعليه كذلك أن يتأكد أنه لن يتم اعتقاله في مطار دمشق عند المغادرة. وقد سبق للعديد من الأشخاص أن اعتقلوا من المطار وهم يغادرون. الزوجان لن يركبا نفس الطائرة. لينا سترحل أولا. وكامرأة لديها أكبر الحظوظ للمرور، وفي كل الأحوال فهو لا يريد أن يتركها لوحدها في سوريا ولو ليوم واحد. سيلحق بها.