وفي شعرك يا سيدي دُرَرٌ تُعَبرُ عني كما عبرَتْ عنك، على ما بيننا من قرون ..... 2 - من أحمد بوزفور إلى الشيخ أحمد بن عبدالله بن سليمان التنوخي ، المعروف بأبي العلاء المعري السلام عليك ورحمة الله وبركاته. نعم شيخي الجليل ، في نفسي أشياء كثيرة أحب أن أسألك عنها.. ولا يهم إن ساءتني وأنتَ تبديها لي، فلأنْ تَسُوءَني ظاهرةً خير من أن تسوءني مضمرة. وأنا أعلم ياشيخي أنك وحشي الغريزة، تفضل الصمت على الكلام، ولكنني كنت أحسب أنك تلجأ إلى قاف رؤبة مع الجلساء فقط :( و ماذا يبتغي الجلساء مني / أرادوا منطقي و أردتُ صمتي ؟) أما مع مراسليك فقد كنت تختار قافَ تأبط شرا: ياعيدُ مالك من شوق وإيراق ومرّ طيف على الأهوال طرّاقِ فتردّ على رسائلهم، وتطيل الرد أحيانا، كما فعلتَ مع داعي الدعاة ومع ابن القارح. وذلك ما جرّأني على مراسلتك. و لن أختار ، ياشيخي الجليل، من أسئلتي اليوم إلا سؤالين: أما السؤال الأول فهو سؤال مركب. وربما استطعتُ بسطه إذا أنا بدأتُ بشرحك في كتابك (اللامع العزيزي ) لبيت أبي الطيب المتنبي ( أُغالبُ فيك الشوقَ والشوقُ أَغلبُ / وأعجبُ من ذا الوصل والهجرُ أعجبُ .) فقد طرحتَ في البداية المعنى العام لكلمة « أغلب « فقلتَ : ( يريد: والشوق أغلبُ مني ، أي أني لا أُطيقُه ). ولكنك قلتَ بعد ذلك :( وذهبَ أبو الفتح بن جني رحمه الله إلى أن « أغلب « هاهنا من قولهم: أسَدٌ أغلب ، أي غليظ العنق. يصف الشوقَ بالشدة ، ويزعم أنه يغالبه وهو كالليث الأغلب. والذي ذهب إليه أبو الفتح لا يكون فيه إقرار من أبي الطيب أنه مغلوب، وهذا أشبه بمذهبه ). تقصدُ مذهب المتنبي في الفخر والتعاظم. وأنا أريد أن أنطلق من إعجابك المعروف بشعر أبي الطيب ، على ما في مذهبه هو من التعاظم ، وعلى ما في مذهبك أنت من التواضع . فكيف تفسر جُعلتُ فداك إعجابَك ، أنت المتواضع المعتزل المتوحد ، بهذا التيّاه القلق ، الذي لا يكاد يسكن ولا يكاد يرى ( بل لا يرى فعلا ) أحدا فوقه؟ وأنت بعدُ مهموم بالإنسان في عموميته وهو مهموم بإنسان واحد هو نفسه. وشعرك كوني وشعره شخصي. ونثرك كُتُبٌ مثل رسالة الغفران ورسالة الملائكة ورسالة الصاهل والشاحج.. ونثره نُتَف مشكوك في صحتها ، مثل هذه : فحين أصابته الحمى بمصر، كان بعضُ إخوانه من المصريين يُكثر زيارته، فلما أبلَّ قطعه، فكتب إليه المتنبي: « وصلتَني أعزك الله معتلا، وقطعتَني مُبِلّا، فإن رأيتَ ألا تُكدّر الصحة عليّ و تحبب العلة َ إليّ، فعلتَ.» وإعجابك، ياشيخي الجليل، بشعر أبي الطيب، وتأليفُك الكتب في شرحه، وحكايتهم عنك أنك كنتَ تقول :» قال أبو تمام « « قال البحتري « ، فإذا بلغتَ إلى شعر أبي الطيب قلتَ :» قال الشاعر»... حتى لكأنه هو وحده عندك الشاعر بالشين الكبيرة... هذا الإعجاب ياشيخي جعل البعض يتهمك أنت الآخر بالتكبر ويوقظ في نفوسنا ما جعلتَنا ننساه من شعر شبابك: وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانُه لآت بما لم تستطعه الأوائلُ فأفدنا ياشيخنا، خلدك الله في جنة الفردوس، عن قضايا هذا السؤال المركب: تواضعك وتكبرك وإعجابك بشعر رجل متعاظم ، على ما بينكما من الاختلاف حياةً وخُلُقا وشعرا. - أما السؤال الثاني فينطلق من علاقتي الشخصية بك، فأنا أحد المعجبين المفتونين بك شاعرا وإنسانا. وقد قرأتُ لكاتب معاصر لنا قوله عن موسيقيّ جاء بعدك اسمه موزار: ( عندما أقول موزار لا أقول إلا اسمك، لكنني أعني السماء ، الغيوم، ابتسامة طفل، عيون القطط، وجوه الذين أحبهم، كل جمال العالم ). وأنا أيضا ياسيدي عندما أقول « المعري» لا أقول إلا اسمك، لكنني أعني العقل، الشعر، الألم، الموت... أعني الإنسان. وفي شعرك ياسيدي دُرَرٌ تعبر عني كما عبرت عنك ، على ما بيننا من قرون الزمن وفروق المعرفة والفكر. منها قولك:( جسدي خِرقةٌ تُخاط إلى الأر/ ض، فيا خائطَ العوالم خطْني ) وقولك : ( وما المرء إلا بيتُ شعر عَروضُه / مصائبُ لكنْ ضَرْبُه حفرةُ القبر.) بل إنني أحيانا أحكم على هذا القول أو ذاك بأنه « معري « حتى ولو لم تقله أنت ، ما دام يعبر عني. و نحن في المغرب نروي حكمة أمازيغية قديمة تقول ( ليت العمر كالزرع يُحصد كل عام ويُزرع كل عام ). وهي في نظري حكمة معرية ( بامتياز ) ، كما يقول شُداة العربية المبتذلة عندنا اليوم. على أنني ، وإن ارتحتُ إلى فكرك وشعرك، أختلف معك في السلوك بعض الاختلاف، فأنت مثلا (لمّا رأيتَ الجهل في الناس فاشيا / تجاهلت حتى ظُنّ أنك جاهل ). أما أنا فأميل في هذه الحالة إلى مذهب ابن عائشة القائل : (لما رأيتُ الدهرَ دهرَ الجاهل / ولم أر المعروفَ عند العاقلِ/ رَحلتُ عَنساً من خمور بابلِ / فبتّ من عقلي على مراحلِ .) وأختلف معك في اللغة بعض الاختلاف.. فأنت مثلا تميل إلى الغريب في الفصيح، وإن كنتَ تشرحه، وأنا أميل إلى البساطة وإن وصلتُ إلى حد العامي الدارج. وقد أطربُ إلى حد الرقص لمقاطعَ شعرية من هذا العامي الدارج . و أنا - ياشيخي العزيز - لا أرفع اختلافي/ اتفاقي معك إلى مستوى اختلافك/ اتفاقك مع أبي الطيب ، لكني أتساءل: أليس هذا هو جوهر الإنسان؟ أن يتفق ويختلف في الآن نفسه، لأنه إذا اتفق اتفاقا مطلقا قد يصبح قردا، وإذا اختلف اختلافا مطلقا قد يصبح شيطانا: هل يأبق الإنسانُ من ملك ربه = فيخرجَ من أرض له وسماءِ ؟ فما هو رأيك دام النفع بك؟ أما عن تأليفي لجزء ثان من الغفران، فأنا الذال وأنت الظاء ( عَمْرَك اللهُ كيف يلتقيان ؟) وهل أنا، إن فكرتُ في ذلك، إلا رجلٌ ( طلبَ الأبلق العَقوقَ فلما / لم يَنَلهُ أراد بيض الأَنوقِ ؟).