1- رسالة من أبي العلاء المعري إلى أحمد بوزفور من أحمد بن عبد لله بن سليمان التنوخي، المشهور بأبي العلاء المعري إلى الأديب الألمعي أحمد بوزفور السلام عليك و رحمة لله، وبعد بلغني - كبتَ لله عدوَّك- أنك تودّ، إنْ أنتَ لقيتَني يوماً، أن تسألني عن أشياء وأشياء، فكأني بك قد نسيتَ ما قلتُه في"رسالة الملائكة ": "وحقَّ لمثلي ألّا يُسأل، فإذا سُئل تَعَينَ عليه ألّا يجيب، فإنْ أجاب فَفَرْضٌ على السامع ألّا يَسْمعَ منه، فإنْ خالفَ باستماعه، ففريضة ٌ ألا يكتبَ ما يقول، فإنْ كتبه فواجبٌ ألّا يَنظر فيه، فإن نظرَ فيه فقد خبطَ في عشْواء..." وهذا كلام دأبتُ عليه منذ أوصدتُ بابي، في معرة النعمان، بعد عودتي من بغداد، فلم أعد آذنُ للزائرين، ولو كانوا من ذوي القربى. وقد علمتَ - حفظك لله - أنّي إنسيُّ الولادة وحشيُّ الغريزة وأني أفَضّلُ الصمتَ على الكلام، وفي ذلك أقول: وماذا يبتغي الجلساءُ عندي أرادوا منطقي وأردتُ صمتي وهكذا بقيتُ زمناً كقافِ رُؤْبَة، في أرجوزته التي ألزمَ رويَّها السكونَ. وذلك ما عبرتُ عنه في اللزوميات بقولي: مالي غدوتُ كقافِ رُؤبةَ قُيّدتْ في الدهر لمْ يُقْدرْ لها إجراؤُها وقد امتنعتُ فترة طويلة عن مجالسة الناس، غير أن إلحاحهم انتهى بي - أنا المستطيع بغيري- إلى فتح الباب الموصد، فصرتُ أستقبل طلاب العلم، القادمين من الأقطار القصية، وأقضي وقتا طويلا في التدريس والإملاء، وإن كنتُ أضيق بالكلام، مثلما أضيق بالتدريس وبالإملاء: أما ليَ فيما أرى راحةٌ يدَ الدهرِ منْ هَذَيان الأمالي؟ وصار طلابُ العلم يسألونني وصرتُ أحاول جهدي أنْ أجيب، مؤمنا في قرارة نفسي بأنه قد حقَّ لمثلي ألّا يُسأل... بيد أني - أطال لله بقاءك- أحب أن أَسْأل غيري وأن ألحّ في السؤال، كلما وجدتُ إلى ذلك سبيلاً. وسأبقى على ما جُبلتُ عليه، إلى أن تحين ساعتي، ويحلّ موعدُ الظعن إلى الآخرة، فأمضي مرددا قولي في اللزوميات: قدمْنا والقوابلُ ضاحكاتٌ وسرنا و المدامعُ ينْبَجسْنَهْ وقد وصفتُ في " رسالة الملائكة" كيف أدافع عزرائيل، عند دنو أجَلي ، وأسأله عن أصل كلمة ( ملَك)، ثم أحَدثه عما قاله عمر بن أبي ربيعة، وعما أنشده أبو عبيدة، فيقول لي مغتاظا من كلامي: - مَن ابن أبي ربيعة؟ ومن أبو عبيدة؟ وما هذه الأباطيل؟ إن كان لك عمل صالح فأنت السعيد وإلا فاخسأ وراءك. فأقول له : - أمهلني ساعة حتى أخبرك بوزن عزرائيل، فأقيم الدليل على أن الهمزة زائدة فيه. فيكتفي بالقول: - هيهات، ليس الأمر إليّ (إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.) ثم إني بعد ذلك أسأل منكرا ونكيرا: - أخبراني أيها الملكان، كيف جاء اسماكما عربيين متصرفين، وأسماء الملائكة أكثرها من الأعجمية، مثل إسرافيل وجبريل وميكائيل؟ فيقولان: - هات حجتك وخلّ الزخرف عنك. فأقول متقربا إليهما: - كان ينبغي لكما أن تعرفا وزن ميكائيل وجبريل، على اختلاف اللغات فيهما، إذْ كانا أخويكما في عبادة لله. لكن كلامي لا يزيدهما إلا غلظة. وبعد حواري مع الملائكة من خزنة الجنة، أتجه إلى مالك، خازن النار، فأقول له: - رحمك لله، ما واحدُ الزبانية، فإن بني آدم في ذلك مختلفون؟ يقول بعضهم: الزبانية لا واحد لهم من لفظهم، وإنما يَجْرون مجرى السواسية، أي القوم المستوين في الشر ... فيعبس مالك ويكفهر، فأقول: - يا مال، رحمك لله، ما تَرى في نون غسلين؟ وما حقيقة هذا اللفظ؟ أهو مصدر، كما قال بعض الناس؟ وهل هو واحد أم جمع؟ ثم أخبرني عن النون في جهنم، هل هي زائدة؟ وإنما أحكي لك هذه الأمور، أيها المغربي الأريب، لترى أني قد جُبلتُ على طرح الأسئلة، حتى في ساعة الشدة. وحتى " رسالة الغفران" أمليتُها لأَسْأَلَ لا لأجيب، أو لأسأل أكثر مما أجيب. وقد بقيتْ هناك أسئلة كثيرة لم أطرحها في هذا الكتاب، فلعلك يا صاحب َ "ديوان السندباد" تقوم بتأليف جزء ثان من (الغفران)، تحاور فيه شعراء الدار الآجلة، سواء منهم أولئك الذين يُسْقَون في الجنة من رحيق مختوم، أو الذين يتلظون في الدرك الأسفل من نار السَّموم . والسلام عليك و رحمة لله . 2- رسالة إلى أبي العلاء المعري من أحمد بوزفور السلام عليكم ورحمة لله وبركاته. نعم شيخي الجليل ، في نفسي أشياء كثيرة أحب أن أسألك عنها.. ولا يهم إن ساءتني وأنت تبديها لي، فلأن تسوءني ظاهرةً خير من أن تسوءني مضمرة. وأنا أعلم ياشيخي أنك وحشي الغريزة، تفضل الصمت على الكلام، ولكنني كنت أحسب أنك تلجأ إلى قاف رؤبة مع الجلساء فقط: وماذا يبتغي الجلساء مني أرادوا منطقي وأردت صمتي أما مراسلوك ، فقد كنتَ تختار قافَ تأبط شرا (يا عيدُ ما لك من شوق وإيراق/ ومر طيف على الأهوال طراق) فترد عليهم وتطيل الرد أحياناً، كما فعلتَ مع داعي الدعاة ومع ابن القارح. وذلك ما أطمعني وجرّأني على مراسلتك. ولن أختار ، ياشيخي الجليل، من أسئلتي اليوم إلا سؤالين: * أما السؤال الأول فهو سؤال مركب. وربما استطعتُ بسطه إذا أنا بدأتُ بالشرح الذي أوردتَه في كتابك (اللامع العزيزي) لبيت أبي الطيب المتنبي: أُغالبُ فيك الشوقَ والشوقُ أَغلبُ وأعجبُ من ذا الوصل والهجرُ أعجبُ فقد طرحتَ في البداية المعنى الأول العام لكلمة "أغلب" فقلتَ: (يريد: والشوق أغلبُ مني، أي أني لا أُطيقُه). ولكنك أوردت بعد ذلك قولك: (وذهب أبو الفتح بن جني رحمه لله إلى أن "أغلب" هاهنا من قولهم: أسَدٌ أغلب، أي غليظ العنق. يصف الشوق بالشدة، ويزعم أنه يغالبه وهو كالليث الأغلب... والذي ذهب إليه أبو الفتح لا يكون فيه إقرار من أبي الطيب أنه مغلوب، وهذا أشبه بمذهبه). تقصد مذهب المتنبي في الفخر والتعاظم. وأنا أريد أن أنطلق من إعجابك المعروف بشعر أبي الطيب على ما في مذهبه هو من التعاظم: أي مكان أرتقي = أي عظيم أتقي وكل ما قد خلق الله وما لم يخلقِ محتقر في همتي = كشعرة في مفرقي وعلى ما في مذهبك أنت من التواضع: دُعيتُ أبا العلاء وذاك مَينٌ ولكن الصحيحَ أبو النزولِ فكيف تفسر جُعلتُ فداك إعجابك أنت المتواضع المعتزل المتوحد بهذا التيّاه القلق، الذي لا يكاد يسكن ولا يكاد يرى (بل لا يرى فعلا) أحدا فوقه؟ وأنت بعدُ مهموم بالإنسان في عموميته وهو مهموم بإنسان واحد هو نفسه. وشعرك كوني وشعره شخصي. ونثرك كُتُبٌ مثل رسالة الغفران ورسالة الملائكة ورسالة الصاهل والشاحج.. ونثره نُتَف مشكوك في صحتها. فمن ذلك أن أحد إخوانه المصريين كان يُكثر عيادته لما كان مصابا بالحمى، فلما أبلَّ قطعه، فكتب إليه المتنبي: "وصلتَني أعزك لله معتلا، وقطعتَني مُبِلّا، فإن رأيتَ ألا تُكدّر الصحة عليّ وتحبب العلة َ إليّ، فعلتَ." وإعجابك، ياشيخي الجليل، بشعر أبي الطيب، وتأليفك الكتب في شرحه، وما يُحكى عنك أنك تقول: " قال أبو تمام... " و"قال البحتري.." فإذا أنتَ بلغت إلى شعر أبي الطيب قلت: "قال الشاعر..." حتى لكأنه هو وحده عندك الشاعر بالشين الكبيرة... هذا الإعجاب ياشيخي جعل بعض الناس يتهمونك أنت الآخر بالتكبر ويوقظ في نفوسنا ما جعلتَنا ننساه من شعر شبابك: وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانُه لآت بما لم تستطعه الأوائلُ فأفدنا ياشيخنا، خلدك لله في جنة الفردوس، عن قضايا هذا السؤال المركب: تواضعك وتكبرك وإعجابك بشعر رجل متعاظم على ما بينكما من الاختلاف حياةً وخُلُقا وشعرا. * أما السؤال الثاني فينطلق من علاقتي الشخصية بك، فأنا أحد المعجبين المفتونين بك شاعرا وإنسانا. وقد قرأت لكاتب معاصر لنا قوله عن موسيقيّ جاء بعدك، اسمه موزار : " عندما أقول موزار لا أقول إلا اسمك، لكنني أعني السماء، الغيوم، ابتسامة طفل، عيون القطط، وجوه الذين أحبهم، كل جمال العالم ." وأنا أيضا ، ياسيدي، عندما أقول "المعري" لا أقول إلا اسمك، لكنني أعني العقل، الشعر، الألم، الموت... أعني الإنسان. وفي شعرك ياسيدي دُرَرٌ تعبر عني كما عبرتْ عنك، على ما بيننا من قرون الزمن وفروق المعرفة والفكر. منها قولك: جسدي خِرقةٌ تُخاط إلى الأر = ض فياخائط العوالم خطني وقولك: وما المرء إلا بيتُ شعر عَروضُه مصائبُ، لكنْ ضَرْبُه حفرةُ القبر ونحن في المغرب نروي حكمة أمازيغية قديمة ، معناها هو (ليت العمر كالزرع يُحصد كل عام ويُزرع كل عام). وهي في نظري حكمة معرية (بامتياز) كما يقول شُداة العربية المبتذلة عندنا اليوم. على أنني، وإن ارتحتُ إلى فكرك وشعرك، أختلف معك في السلوك بعض الاختلاف، فأنت مثلا: لمّا رأيتَ الجهل في الناس فاشيا = تجاهلت حتى قيل إنك جاهل أما أنا فأميل في هذه الحالة إلى مذهب ابن عائشة القائل: لمّا رأيتُ الدهر دهر الجاهل = ولم أر المعروف عند العاقلِ رَحلتُ عَنسا من خمور بابلِ = فبتُّ من عقلي على مراحلِ كما أني أختلف معك في اللغة بعض الاختلاف.. فأنت مثلا تميل إلى الغريب في الفصيح، وإن كنتَ تشرحه، وأنا أميل إلى البساطة وإن وصلتُ إلى حد العامي الدارج. غير أني، ياشيخي العزيز، لا أرفع اختلافي/ اتفاقي معك إلى مستوى اختلافك/ اتفاقك مع أبي الطيب، ولكنني أتساءل: أليس هذا هو جوهر الإنسان؟ أن يتفق ويختلف في الآن نفسه، لأنه إذا اتفق اتفاقا مطلقا قد يصبح قردا، وإذا اختلف اختلافا مطلقا قد يصبح شيطانا: وهل يأبق الإنسانُ من ملك ربه = فيخرجَ من أرض له وسماءِ؟ أما عن تأليفي لجزء ثان من الغفران، فأنا الذال وأنت الظاء (عَمْرَك للهُ كيف يلتقيان)؟ وهل أنا، إن فكرتُ في ذلك، إلا رجل: طلبَ الأبلق العَقوقَ فلما = لم يَنله أرادَ بيض الأَنوقِ؟ 3- عبدالقادر وساط من أبي العلاء المعري إلى أحمد بوزفور من أحمد بن عبد لله بن سليمان التنوخي المشهور بأبي العلاء المعري إلى حضرة الأديب أحمد بوزفور السلام عليك و رحمة لله تعالى، وبعد مرحباً بكتابك الذي جاءني على غير موعد وأنْهَلَني من خير مورد. وإني لأقول لك -بعد أن قُرئَ عليّ- ما قلتُهُ في زمن مضى للشيخ أبي القاسم المغربي، وكان قد أنفذَ إليّ "إصلاح المنطق " مختصَراً: السلام عليكِ أيتها الحكمة المغربية والألفاظ العربية، أيّ هواء رَقَاك وأي غيث سقاك ! وأتذكر الآن أنّ أحدَ أخوالي كان قد سافر إلى المغرب فأطال الغيبة، فأرسلتُ إليه قصيدة طويلة على الوافر، أقول في مطلعها: تُفَدّيكَ النفوسُ ولا تُفادى = فأدْنِ الوصْلَ أو أطِلِ البعادا وفيها أعاتبه على سفره: علامَ هجرْتَ شرقَ الأرض حتى = أتيتَ الغرْبَ تختبرُ العبادا؟ وقيل : أفادَ بالأسفار مالاً = فقلنا: هل أفادَ بها فؤادا؟ وخالي هذا هو أبو القاسم علي بن محمد، وكان رجلا كثير الأسفار، مثل أنداده من التجار. وهو من بني سبيكة، الذين أفتخر بهم في قصيدتي هذه بقولي: كأنّ بَني سبيكةَ فوق طيرٍ = يجُوبون الغوائرَ والنّجادا وقد أشرتَ، رعاك لله - في كتابك إلَيّ - إلى ما لمستَه في شعري من اعتداد بالنفس ومن زهو وطموح. والحق أني لم أكن أخلو من ذلك في غضارة شبابي. وكيف أخلو منه وقد نشأتُ في بيت مُعرق في العلم والفضل؟ إذ كان جدي القاضي أبو الحسن سليمان بن محمد محدثا فاضلا شاعرا. ومن جميل شعره في الناعورة قصيدة يبدأها بقوله: و باكيةٍ على النهرِ = تئنُّ ودمْعها يجري وأخوالي من بيت معروف من بيوتات حلب. بل إن والدي عبد لله نفسه كان شاعرا أديبا لغوياً، أخذَ العربية عن ابن خالويه. وأخي الأكبر - أبو المجد - كان شاعرا، لكنه كان في الشاعرية دون الأخ الأصغر أبي الهيثم، صاحب البيت المشهور: مَنازل قومٍ حدثتْنا حديثَهمْ = فلمْ أرَ أجلى منْ حديثِ المَنازلِ ولهذا البيت قصة لا تخفى عليك، أنت المجبول على حب القصص. فقد مرّ أبو الهيثم برَجُل يَقلع حجارةً من أطلال "سياث" (المعرة القديمة) فساءه ذلك ، فأنشأ يقول: مَرَرْتُ بربْع منْ سياث فراعَني = بهِ زَجَلُ الأحجارِ تحت المَعاولِ أمُتْلِفَها شُلّتْ يَمينكَ خَلِّها = لمُعتبر أو زائرٍ أو مُسائل مَنازل قومٍ حدثتنا حديثهمْ = فلم أرَ أجلى منْ حديث المنازلِ وقد مات أبو الهيثم، رحمه الله، ولما يبلغ الخامسة والثلاثين من العمر. وتحتفظ له كتب الأدب كذلك برائية بديعة بعثها إليّ أيام كنتُ في بغداد، يستعطفني فيها كي أعود إلى المعرة . كما كان ابنُ عمتي ورفيق صباي أبو صالح محمد بن المهذب - وهو من ذوي الفضل والعلم - شاعرا مجيدا. وله نونية بديعة على الطويل، يصف فيها عزلتي بعد رجوعي من بغداد ونأيي عن أقربائي، مع أني شديد الدنو منهم، ثم يستشفع بأخي أبي الهيثم كي أفتح له بابي الموصد. وذلك بعد أنْ أجمعتُ على انفراد يَجعلني كالظبي في الكناس ويَقطع ما بيني وبين الناس. نعم أيها الشيخ الأديب - حفظك لله - لقد افتخرتُ في سقط الزند بأسرتي - وأنا في حداثة سني - وافتخرتُ كذلك بنفسي. ولكنني أزعم أن هذا الفخر بالنفس لم يكن مبنيا على الزهو والاعتداد وعدم التواضع - كما هو الشأن عند أبي الطيب - وإنما كان مكابرة مني، ومغالَبة ً لآفة العمى، التي ابتُليتُ بها وأنا في سنتي الرابعة، بعد أن أصابتني علة الجدري، فنشأتُ لا أعرف من الألوان إلا الأحمر، لأني أُلْبسْتُ في الجدري ثوبا مصبوغا بالعصفر، فلم أعقلْ غيره: و إظلامُ عينٍ بعده ظلمةُ الثرى = فقُلْ في ظلامٍ زيدَ فوق ظلامِ ثم إن الشامتين و الحساد كانوا يزيدونني اعتدادا وإصرارا ومكابرة: وقد نبحُوني وما هجْتهمْ = كما نبحَ الكلبُ ضوءَ القمرْ ويشهد لله أني لقيت منهم عنتا كبيرا، خاصة حين كنت في مدينة السلام. وأنتَ تعرف أن أبا الحسن علي بن عيسى الربعي - إمام النحو ببغداد - قال يوماً لمن معه كي يدعوني للدخول: "فليصعد الإصطبْل! " والإصطبل هو الأعمى بلغة أهل الشام. فكيف لا أفتخر- أيها الأديب الأريب - بعلمي وحسبي على الربعي وأمثاله؟ وأما عن إعجابي بشعر أبي الطيب فلذلك قصة طويلة، بدأتْ وأنا طفل صغير حين ذهبَ بي والدي إلى حلَب، وفيها أخوالي بنو سبيكة، فصرتُ أتلقى النحو على ابن سعد النحوي. وأنت تعرف أن ابن سعد هذا كان راوية المتنبي. وكان يروي قصائده على مسمع مني. وذات يوم أنكرتُ روايته لبيت من دالية أبي الطيب، التي مطلعها: أزائرٌ يا خيال أم عائدْ = أم عند مولاك أنني راقدْ؟ والبيت كما رواه ابن سعد هو: أو مَوضعاً في فناء ناحيةٍ = تحمل في التاج هامة العاقدْ فقلت له مصححا: " أو مُوضعاً في فتان ناجيةٍ " والمُوضع - بضم الميم ، كما لا يخفى عليك - هو المسرع في سيره، والفتان، بالياء المخففة ، غشاء من أدم يوضع فوق الرحل، والناجية هي الناقة السريعة. وبهذه الرواية يستقيم المعنى ويتضح. 4- رسالة إلى أبي العلاء المعري من أحمد بوزفور السلام عليك أيتها الحكمة الإنسانية الشاسعة، السحيقة العمق، الخالدة الإنارة، ما بقي على هذه البسيطة قارئُ عربيةٍ مستنير. أما بعد فمن ينكر ياشيخي الجليل أنك ابن بجْدتها في الأدب والعلم، وابن شجرتها في النسب المُعرق في الشعر: وهل أنت إلا شاعرٌ وابنُ شاعرٍ = وذو نسب في الشاعرين عريق؟ أصولك وفصولك ياسيدي من سلالة لا يُجحد تفوقها وتألقها في تاريخ الأدب العربي، وأنت جُذيل هذه السلالة المحكك ومحكها المجدول، فتهْ إن شئت كما شئت، فمن يُحاجّك إلا جاهل أو جاحد أو لئيم؟ ولكنه فخر المكابرة كما تفضلت بالقول، وقد وعيته فطامنت منه وخفضتَ لنا - نحن قراءك والمعجبين بك - جناح الرفق من الرحمة، كي تهيئنا لتقبل مفهومك التراجيدي عن الإنسان (ولعلك ياشيخي تسأل عن معنى كلمة التراجيدي.. وأنى لي أن أشرح ما عجز عن شرحه ابن رشد، وهو عندنا في المغرب مفكر وفيلسوف شرح أرسطو وقرب الحكمة من الشريعة أو الشريعة من الحكمة، وفهم من التراجيديا الإغريقية شيئا قريبا من النبل السيئ الحظ أو المجد الصريع أو الموت المولود مع كل مولود، والنامي فيه حين ينمو، وقاتله حين يموت). وقد عرفنا من سيرتك المبثوثة في كتب الأدب، ومن أقوال القدماء فيك وأقوالهم عنك، وهي أقوال تفضلَ عالم من علمائنا المعاصرين، كفيف مثلك، اسمه طه حسين، فأشرف على جمعها في كتاب واحد أسماه (تعريف القدماء بأبي العلاء)... عرفنا من هذه السيرة ومن هذه الأقوال أنك أُصبتَ بالعاهة صغيرا ولم تعد تذكر من الألوان، كما قلت في رسالتك، إلا اللون الأحمر. وقد نصحتُ بعض طلابنا في الدراسات العليا، الذين يحضّرون أطاريحهم في الأدب، بتتبع هذا العرق في شعرك، وقلت لهم إنني أحدس أن لهذا اللون معنى خاصا في شعرك لا يقاربه لون آخر، وضربت لهم بعض الأمثلة، ومنها قولك عن البرق: إذا ما اهتاج أحمرَ مستطيرا = حسبت الليل زنجيا جريحا ومنها قولك في قصيدتك الشهيرة: عللاني فإن بيض الأماني = فنيت والزمان ليس بفان وأنت تتحدث عن سهيل، وهو نجم يضرب إلى الحمرة: وسهيل كوجنة الحِب في اللو = ن وقلب المحبّ في الخفقان يسرع اللمح في احمرار كما تس = رع في اللمح مقلةُ الغضبان ضرّجَتْه دما سيوفُ الأعادي = فبكت رحمةً له الشّعريان ومنها قولك عن السيف: ودبّت فوقه حُمرُ المنايا = ولكن بعدما مُسخت نمالا والعرب تشبه فرند السيف أي متنه وما عليه من الوشي بآثار النمل، يقول امرؤ القيس: ومهند عضب مضاربه= في متنه كمدبّة النمل وليس عجيبا ياشيخي الجليل أن تصحح لراوية المتنبي ما يرويه من شعره، ولو أدركتَ المتنبي وهو حي وتحاورتما في شعره لكان قد قال: (المعري أعلم بشعري مني ومن ابن جني). أما التصحيف وطرائفه فكثيرة، ولا سيما ما يُروى منها عن عصر انتقال الثقافة العربية من الشفوي إلى المكتوب، وفي هذه الطرائف المفرح والمحزن والممتع. وأنقل من كتبك ياشيخي قولك في تعريف التصحيف: (أصل التصحيف أن يأخذ الرجل اللفظ من قراءته في صحيفة ولم يكن سمعه من الرجال فيغيره عن الصواب). وقد ذكّرني حديثك عن التصحيف وعن (المَوضع والمُوضع) وتفسيرك للمُوضع: من (أوضع يوضع) بقصيدة لامرئ القيس أولها: أرانا مُوضعين لأمر غيبٍ = ونُسحرُ بالطعام وبالشراب عصافيرٌ وذِبّانٌ ودُودٌ = وأجرأ من مُجلّحة الذئابِ وبرجز لدريد بن الصمة يقول فيه: ياليتني فيها جَذَعْ = أخبّ فيها وأضعْ وبشعر لعمر بن أبي ربيعة يقول فيه: تبالَهْنَ بالعرفان لما عرفنني = وقلن امرؤ باغٍ أكلّ وأوضعا وكان عمر قد تنكر في زي أعرابي أضلَّ ناقتَه ، كي يتقرب من نسوة مضين يتنزهن خارج المدينة. وأين يُذهب بنا في هذه الكلمة - ياشيخي - عن قوله تعالى في سورة التوبة (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا، ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سمّاعون لهم) ويقول المفسرون عن كلمة (لأوضعوا) هنا: أي لأسرعوا السير بينكم بالنميمة والفتنة والبغضاء. وتقبل ياسيدي وإمامي الخالص من حبي والعميق من احترامي وتقديري.