من عبدالقادر وساط إلى أحمد بوزفور صديقي العزيز، شاهدتُ هذا المساء برنامجا تلفزيونيا عن إحدى ملكات الجمال ، في أروبا، ، فعجبتُ كيف تختلف معاييرُ الجَمال و تتباين مقاييسه باختلاف الأزمنة و البلدان . و على أية حال ، فالملكة التي رأيتها اليوم فتاةٌ جميلة . و هي هيفاء حين تُقبل ، مثل سعاد في قصيدة كعب بن زهير. آما إذا هي أدبرَتْ ، يا صديقي العزيز ، فإنها أبعدُ ما تَكون عن سعاد . ذلك أن ملكة الجمال هذه فتاةٌ رَسْحاء. و الرسحاء - كما لا يخفى عليك - هي المرأة الخفيفة العجيزة . و قد تساءلتُ مع نفسي ، و أنا أتابع البرنامج المذكور: تُرى ما الذي كان سيقوله عمر بن أبي ربيعة ، لو كان حاضرا معي الآن ، يرى هذه الملكة الرسحاء ، ويتابع حركاتها ؟ فمن المعروف عنه، رحمه الله ، أنه كان شديد السخرية من النساء الرسح ، كثير الهجاء لهن ، كثير الدعاء عليهنّ . بل إنه « أفتى» مرةً بعدم جواز شهادتهن ، حين قال : و ارفُضوا الرّسْحَ في الشهادة رفضاً = لا تُجيزوا شهادةَ الرسحاءِ و هو لم يكتف برفض شهادتهن ، و لكنه « أفتى» كذلك بوجوب إبعادهن ، و نفيهنّ إلى قرية تكون خاصة بهنّ: ليتَ للرسْح قرْية ً هنَّ فيها = ما دعا اللهَ مسلمٌ بدُعاء و ما على هؤلاء الرسح ، إذن ، سوى الإقامة في قريتهنّ تلك،» بأرض بعيدة و خلاء» ، دون أي اختلاط بالنساء الممتلئات ، المكتنزات : ليس فيها خلاطهنّ سواهنّ = بأرض بعيدة و خلاءِ رحم اللهُ شاعرَنا أبا الخطاب .لقد كان يُفتي كيف يشاء ، حين يتعلق الأمر بالجَمال و بمعايير الجمال. كما أنه كان كثير الحلف ، لا يتردد في النطق بالأيمان الغليظة ، في قصائده، حتى تُصدقه النساء البَهاكن ! من أحمد بوزفورإلى عبدالقادر وساط مساء الخير سي عبدالقادر. أنا يا صديقي أرتاح لشعر عمر راحة خاصة ، لا أرتاحها مع شاعر آخر. و يحلو لي أن أسميه الشاعر الحلاف . و كل حلاف كما تعرف كذاب. و لكن أعذب الشعر أكذبه كما يقولون . و إذا كان عمر من أكثر الشعراء حلفا ، فلأنه كان من أكثرهم استعمالا للحوار. و بدل أن يكتفي بالحديث عن المرأة ، كغيره من الغزلين ، أعطاهاالميكروفون لتتكلم في شعره بصوتها. و أنت تعرف مقطوعته الجميلة التي يقول فيها : و قد أرسلتُ جاريتي = و قلتُ لها: خذي حذرَكْ و قولي في ملاطفة = لزينبَ نَوّلي عُمَرَكْ فهزت رأسها عجبا = و قالت من بذا أمرك ؟ أهذا سحرك النسوا = نَ ؟ قد خَبّرْنَني خبرك و قلن إذا قضى وطرا = و أدرك حاجة هجرك و لم أجد صوتَ المرأة في شعر شاعر عربي أرقَّ و أدقَّ منه في شعر عمر . لا بد أنه كان يعيش بين النساء، ثم بين أهل الفن في عصره، و على الخصوص المغنين ، لكي يكتسب هذه الرقة و هذا المرح و هذا النزوع إلى اللعب . إنك لا تجد عنده خشونة امرئ القيس و لا حزن العذريين ، و إنما هو لاهٍ أبدا ، محاور مدرار أبدا ، ينفث حيثما حل سحرَ الكلام ، فيسحر و ينسحر. و استمع معي إلى هذا الديباج الخسرواني : زعموها سألتْ جاراتها = و تعرتْ ذات يوم تَبْتَردْ أكما ينْعَتُني تُبْصرْنَني = عَمْركنّ اللهُ أم لا يقتصد؟ فتضاحكن و قد قلن لها = حَسَنٌ في كل عين مَنْ تَوَد حسدا حُمِّلْنَهُ من أجلها = و قديما كان في الناس الحسدْ زعموها أنها لي نفثتْ = عُقَداً يا حبّذا تلك العُقَدْ كلما قلتُ متى ميعادنا = ضحكتْ هنْدٌ و قالت : بعد غد و يا صديقي العزيز ، شكرا جزيلا لأنك نبهتني لذلك المنفى الذي أراد عمر أن يُبْعد إليه الرّسْح ، فلم أكن على علم به. وقد ذكرني بصورة طريفة ، تخيلها المعري للشعراء الرجاز في « رسالة الغفران « . إذْ خصص لهم في الجنة مكانا بعيدا ، قرب السور الذي يفصل بين الجنة والنار ، وحظر عليهم الخروج منه، وليس فيه من الحياة إلا الضروريات. والطريف أن الملائكة تقول لهم: « قصّرتم فقُصّرَ بكم « . وياصديقي العزيز، لقد انشغل الدارسون بما يحبه الشعراء، وتجاهلوا ما يكرهون. أنا أحلم بدراسة طريفة يكون موضوعها الرسح في شعر عمر، والرجاز في رسالة أبي العلاء و.....قبيحات الشعر، وهن كثيرات في شعر الهجاء. وفي هذه الحالة ، لن تقرب الدراسة أبا نواس الذي يقول: ( وأرحمُ القبحَ فأهواه ). من عبدالقادر وساط إلى أحمد بوزفور نعم صديقي ، لم يكن المعري رحيما بشعراء الرجز ، إذ كان يرى أنهم مقصرون في ما دأبوا عليه من « سفساف القريض.» و لذلك اختار لهم في جنته ذلك المكانَ القصي ، الذي يخلو من متع الجنان .لقد قسا عليهم مثلما قسا عمر بن أبي ربيعة على الرسح ، اللواتي لا حظَّ لهن من (الامتلاء)، فنفاهنّ إلى قرية بعيدة ، و دعا عليهن بكيفية قاسية ،و دعا في الوقت نفسه للخود الخرائد المكتنزات بطول البقاء ، حين قال : عَجّلَ الله قطّهُنّ و أبقى = كلَّ خود خريدة قَبّاءِ ويا صديقي، كم تمنيتُ لو كنا نستطيع الانتقال إلى زمن عمر بن أبي ربيعة ، فنغتنم الفرصة كي نقوم بزيارة لقرية الرسْح .ثم نمضي بعد ذلك إلى « رسالة الغفران « و إلى ذلك المكان القصي من الجنة ، الذي تحدثنا عنه ، و الذي أفرده المعري لشعراء الرجز، فإن بي شوقا عظيما إلى العجاج و رؤبة... من أحمد بوزفورإلى عبدالقادر وساط مساء الخير سي عبد القادر. لمَ لا نجمع بين زيارة عمر بين أبي ربيعة وبين الرحلة إلى رسالة الغفران؟ نَدخل الجنة مع ابن القارح ، ونبحث عن عمر فنجده في قصر تجري من تحته الأنهار، وهو يتقلب في نعيم الجنة ، بين أحضان حُور عين ، لا نهاية لحسنهن وملاحتهن، ولكنهن جميعهن رُسْح... و ذلك عقابا له على جريه في حبل الباطل أيام العاجلة. فنسبح عندئذ بحمد الله ، ونترحم على ذلك الذي قال ، حين سمع أن عمر بن أبي ربيعة قد وُلدَ ليلة مات عمر بن الخطاب : « أي حق رُفع ، وأي باطل وُضع .» من عبدالقادر وساط إلى أحمد بوزفور صباح الخير سي أحمد. أنا معك في ما ذهبت إليه ، خصوصا و أن المعري لم يذكر ابنَ أبي ربيعة في رسالة الغفران، و لم يتخيل له مكانا لا في الجنة و لا في النار.نعم يا صديقي ، نضربُ عصفورين بحجر ، فنمضي مباشرة إلى رسالة الغفران ، حيث يعيش عمر بين الحور العين، و لكنه مضطر لأن يقنع بالرسح اللواتي طالما سخر منهن في الدار الفانية. و إني لأراه جالسا هناك، فإذا بسرب من إوز الجنة يحط بالقرب منه و إذا بهن ينتفضن و يتحولن إلى حور عين ، كما يحدث عادة في رسالة الغفران. و إن شاعرنا ليُعجب بهن مقبلات ، و لكنه لا يقتنع بما يراه حين يراهن مدبرات، فيأتيه هاتف يَسمعه و لا يعرف مَصدره : - يا عمَر، هذا جزاء ما قلتَه في الدار الزائلة عن النساء الرسح . فيسمع كلام ذلك الهاتف ولا يحتج ، و هل إلى احتجاج من سبيل؟ ثم يتقدم منه ابن القارح - على مرأى و مسمع مني ومنك - و يقول له : - يا أبا الخطاب، لبئسَ و الله ما كنتَ تفعل في الدنيا الغرور! تجري وراء النساء، و تفسد عليهن حجهن، ثم تحكي في أشعارك كيف استسلمن لك، بعد أن أغواهن الشيطان، أو بعد أن اجتمعت عليهن أنت و الشيطان، ثم تزعم دون حياء أنك رجل عفيف ، فتقول في إحدى قصائدك ( إني امرؤ مولع بالحسن أتبعه / لا حظّ لي فيه إلا لذة النظر). أما والله لولا أن رحمته قد وسعتْ كل شيء ، لكنتَ الآن في الدرك الأسفل من النار . و يحاول شاعرنا أن يدافع عن نفسه ، غير أن ابن القارح يواصل قائلا : - ألم يكن الناس ، يا أبا الخطاب، يروون قصيدتك الدالية التي أفحشت فيها غاية الإفحاش ، حتى ليخجل المرء من ذكرها في هذا المقام ؟ فيقول له عمر: - لعلك تتحدث عن القصيدة التي أقول فيها : و ناهدة الثديين قلت لها اتكي = على الرمل من جبّانة لم تُوَسَّدِ فقالت: على اسم الله ، أمرك طاعة = و إن كنت قد كُلّفتُ ما لم أعودِ و يغضب ابن القارح ، و تنتفخ أوداجه من الغضب ، عند سماع هذه الأبيات، و ينكر على عمر إنشادَها في ذلك المكان، فيقول له الشاعر : - يا ابن القارح، أرى أن الباري جل و علا قد غفر لي ذنوبي و أكرمني بالجنان، و أنت تعارض هذا الغفران ! فأنى يكون ذلك و هو ليس بكائن ؟ فيسكت ابن القارح عندئذ و قد عجزَ عجزاً بيّناً عن إيجاد الجواب المفحم . من أحمد بوزفور إلى عبدالقادر وساط يا صديقي العزيز ، كيف استطعت أن تتشرب أسلوبَ « رسالة الغفران « فتتحدث و كأن روحَ المعري تلقي على لسانك ما تلقي ؟ بنفس البلاغة و السخرية و التناصات ؟ و لقد أعجبني قولك على لسان عمر يخاطب ابن القارح « أنى يكون و ليس ذاك بكائن « ، ففيه إشارة ذكية إلى قول مروان بن أبي حفصة ، يمدح العباسيين و يعرض بالعلويين ( أنى يكون و ليس ذاك بكائن / لبني البنات وراثة الأعمام) ؟ و إشارة ذكية كذلك إلى طريقة المعري في الكتابة. إني أحس كأنه يبني الجمل « بالإيمبي 3 « ، فتحتَ كل جملة قبو مترع بالتراث السابق عليه ، عربيا و إنسانيا. و يبدو أن ابن القارح هذا لن يرعوي عن تَنَفّجه و افتخاره بما اكتسب في الدار العاجلة من زاد قليل في اللغة و الشعر. هل هو في حاجة إلى رسالة غفران جديدة تفحمه ؟ ما رأيك في أن نقوم بنفيه إلى جنينة صغيرة ، شبيهة بجنينة الرجاز ، نسميها « جنينة اللغويين المتنفجين « ؟ من عبدالقادر وساط إلى أحمد بوزفور أوافقك الرأي - سي أحمد - فيما ذهبتَ إليه بخصوص ابن القارح. و إذا كنا قد تغاضينا عنه على مضض ، حين كان يتهجم على صديقنا عمَر ، فلأنه من المولعين بالأدب و لأنه من أبناء حلب، و هي مدينة لها في نفوسنا مكانة خاصة .وأرى أنه قد فاض بنا الكيل الآن ، فلنقترح عليه بكل هدوء أن ينتقل للإقامة في جنة اللغويين المتنفجين ، و لو إلى حين . و ها نحن الآن على مقربة من جنة الرجز. و إني أسمع الآن عمراً يخاطب ابن القارح بقوله : - يا بن القارح، إنك ما علمتُ لَقليلُ النظر في شعر الغزل، فهلا كنتَ مثل حماد الراوية ، الذي قال عني : « إن شعر عُمَر هو الفستق المقشر.» و كما تعلم - يا صديقي العزيز - فلا يكاد المرء يذكر اسما من الأسماء ، في تلك البقعة التي نحن فيها ، حتى يحضر الشخص المعني في الحين. و ها هو حماد الراوية يجيء قبل أن يرتد إلى أي منا طرفه، فيجد الجدال على أشده بين عمر بن أبي ربيعة و ابن القارح ، و قد تمسك كل منهما برأيه و أطال في الكلام ، مع أننا لم نعد نملك الوقت الكافي، ما دام سيتم ( إشخاصنا ) - كما في علمك سي أحمد - إلى جنة المعاصرين ، بعد أقل من ساعة ، علما أن الساعة هناك تعادل ألوف السنين من زمن العاجلة . و ها هو حماد الراوية ينتصر لأبي الخطاب ،مباشرة بعد وصوله، و يتوجه إلى ابن القارح بقوله: - ويحك يا ابن القارح، كيف تهزأ من أخينا المخزومي ؟ ! فو الله ما سبقه أحد إلى ذلك النهج الذي انتهجه في الشعر ، و إني لأرى أن شعره هو الفستق المقشر. هذه عبارة قلتُها عنه في الدار الأولى ، و هاأنذا أقولها الآن بحضرة الشهود ، في دار الخلود. و يغضب ابن القارح و يستشيط ، و يقول لحماد الراوية بصوت مرتعش: - و من تكون يا حُمَيميد الراوية ؟ إنما كنتَ تتكسب برواية الشعر، تَصْدق في القليل مما ترويه ، و تكذب و تفتري و تنتحل في أكثره... فيجيبه حماد: - أمَا و الله يابن القارح ، لقد كنتَ ذليلا متزلفا في الدار الفانية ، و صرت متشدقا متعجرفا في دار البقاء. فاعلم - لا رعاك الله و لا حفظ سرك- أني لم أكذب قط فيما رويتُه من أشعار.و لولا الجهد الذي بذلتُه و العبء الذي حملته ، لما وصلتكم أشعار الأقدمين. أنسيتَ ، أيها الجاحد ، أني أنا من جمع المعلقات؟ ويُلْهَم ابنُ القارح الحديث بالدارجة المغربية، نظرا لوجودنا إلى جانبه، فيقول لحماد:(اجْمَعْتي النّْبَگْ ماشي المعلقات) ، فلا يبدو على الراوية أنه فهم شيئا، و لكنه يقول لخصمه : - ثم دعني أسألك ، أيها الجاهل. أتعرف ما هو التقسيم في الشعر؟ إنه استقصاء الشاعر جميع أقسام ما ابتدأ به . و قد اعترف القدماء بأن أحسن ما قيل في هذا الباب هو بيت عمَر بن أبي ربيعة: و هَبْها كشيء لم يكنْ أو كنازحٍ = به الدارُ أو منْ غَيَّبَتْهُ المقابرُ ويصمت ابن القارح قليلا ثم يقول : - أما أنا فأجد شاعرك هذا كثيرَ الادعاء ، شديد الاعتداد بنفسه. و لطالما زعمَ في شعره أنه شجاع مقدام، مع أنه جبان لا يغشى أماكن الزحام . فمن ذلك قوله : فقلتُ أباديهم فإما أفوتهم = و إما ينال السيف ثأرا فيثأر و يطول السجال بين الرجلين يا صديقي ، فنضجر بعض الضجر، و ننهض واقفين بعد أن طال جلوسنا في ظل تلك الدوحة الظليل ، و نمضي على بركة الخالق إلى جنة المعاصرين ، و هي على أية حال غير بعيدة عن جنة القدماء.و ندرك بالحدس الذي صرنا نتمتع به في تلك البقاع ، أن هناك جنة صغيرة ،شبيهة بجنة الرجز، قد أفردت لشعراء قصيدة النثر، و أنها تَشهد لقاءات متواصلة بين الأقدمين ، الذين انتقلوا للدار الآجلة منذ عشرات القرون ، و بين معاصرينا الذين التحقوا بهم تباعا ، في زمننا هذا. و إنا لنشعر بالسعادة و نحن نتخيل كيف يكون اللقاء ، مثلا ، بين حماد الراوية و محمد الماغوط، أو بين عمرو بن قميئة و سركون بولص.. من أحمد بوزفور إلى عبدالقادر وساط فكرة رائعة سي عبد القادر: جنة المعاصرين، وعلى الخصوص إذا ضمت داخلها جنينة شعراء قصيدة النثر. وأقترح أن يُحرم هؤلاء الأخيرون من كل خيرات الجنة، إلا الموسيقى، فيغاديهم الموسيقيون ويراوحونهم صباح مساء ، حتى يقتنع الشاعر منهم بالموسيقى. ويلجّ المتشاعرون آنئذ فيزدادوا نثرية ، فيُضاعف لهم الدواء ضعفين. و أما عن ابن القارح، فسوف نتغاضى عما يقوم به ، لأجل حلب التي ... والتي .... واللتيّا. حلب الحبيبة إلى قلوب كل عشاق الشعر والموسيقى. بل إننا سنداعبه قليلا، ونقول له : - أخبرنا أيها الشيخ عن هذا القارح الذي تنتسب إليه، هل هو أبوك (مِنْ قرحَ الفرس وصار قارحا ، إذا شق نابُه وطلع، فأصبح جديرا بمهام الفرس). أم أن القارح أمك (منْ قرحت الناقة، إذا استبان حملُها فهي قارح )؟ أم هو من ( القُرحة ) اسم يُطلقه المغاربة على أحد أدواء المعدة. وما دمت ، يابن القارح ، قد أصبحتَ بإلهام من الله خبيرا في لغتنا الدارجة ، فخبرنا عن ولع المغاربة بحسية اللغة، حتى في التعبير عن معان تجريدية. فهم يعبرون عن النفي بكلمة ( النبك )، ويعبرون عن الإنكار بعبارة ( طلوع الجبل )، ويعبرون عن الجنون بعبارة ( طيران الفرخ ).....الخ. فهل يعني ذلك أن المغاربة ما زالوا في فجر اللغة الحسي،» حين كانت الأشياء تنطق وحين كانت الحجارة رطبة» ، كما يقول الجاحظ ؟ من عبدالقادر وساط إلى أحمد بوزفور لله طيبتك ياسي أحمد، ها أنت تداعب ابن القارح ، مع عدم رضاك عنه.و لست أدري كيف سيكون جوابه عن أسئلتك اللغوية، بعدما تركناه في جنة اللغويين المتنفجين و شددنا الرحال إلى جنة المعاصرين ، و معنا حماد الراوية ،الذي يرافقنا في هذه الرحلة العجيبة. و ها نحن الآن قد دخلنا جنة المعاصرين ، يا صديقي العزيز، و ها هو المكان الذي خُلّدَ فيه « شعراء التفعيلة «،غير بعيد عن جنة شعراء النثر. و ها أنت تردد قول صديقك النابغة الذبياني: ألمحة من سنا برق رأى بصري = أم وجْهُ نعْمٍ بدا لي أمْ سَنَا نار؟ و إنما تمثلتَ بهذا البيت - يا سي أحمد - لما رأيتَ الضوء الذي يكاد يعمي الأبصار و الذي ينبعث من قصر قريب. و إننا لنتقدم ببطء شديد، إلى أن تظهر لنا بوضوح تلك العبارة المتوهجة بأعلى ذلك القصر المنيف :» هذا قصر بدر شاكر السياب.» و نتقدم قليلا بين أشجارٍ قطوفها دانية،لا تشبه أشجارَ الدار الفانية.و نحس عندئذ بسعادة قصوى لهذه العناية الإلهية التي شملت السياب ، و نتذكر قوله في الدنيا: ها أنا الآن عُرْيان في قبريَ المظلمِ كنتُ بالأمس ألتفّ كالظنّ، كالبرعمِ و حتى حماد الراوية يلهمه الخالق، في تلك اللحظة، معرفة عميقة بهذا الشاعر و شعره...و يعْلم السياب بوصولنا - بذلك الحدس الذي ينعم به أهل الجنة - فيخرج لملاقاتنا عند الباب ، متهلل الأسارير ، و قد برئَ من كل علة و زايله الهزال، و صارت ملامحه أكثر تناسقا مما كانت عليه في الدار الأولى ، و تُبادره ، يا صديقي، بالسؤال الذي لا مفر منه: - بمَ غُفرَ لك يا بدر ؟ فيجيبك بصوته الخفيض: - لقد غفرَ لي الخالق سبحانه في هذه الدارالآجلة ، لأنه ابتلاني بكل أنواع المحن في العاجلة ، فوجدني صابرا على حكمه، راضيا بقضائه، و قد قلت في ذلك: لكَ الحمد، مهما استطال البلاءْ و مهما استمر الألمْ لك الحمد إن الرزايا عطاءْ وإن المصيبات بعض الكرمْ و يتفرس حماد الراوية طويلا في صاحب « المعبد الغريق» ثم يقول له : - الحمد لله على حسن العاقبة يا أخي، و إني أراك جمعتَ مصيبة على مصيبات ، و هذا جمع نادر و لكنه جائز. ثم يأتي دوري في الحديث إليه ، فأتقدم و أقول : - يا أبا غيلان، ها أنت تمرح في ربوع الجنان ، بنعمة الخالق المنان . و إنك بهذا لَجَدير. فقد تركتَ لأهل الدار العاجلة أشعارا ما تركَ مثلها أحدٌ من قبلك و لا من بعدك. و إن كثيرا من الناس ليحفظون « أنشودة المطر» و» قصيدة السندباد» و « المعبد الغريق» و « شناشيل ابنة الجلبي « ...و لكنك يا صديقي أثبتَّ في ديوانك أيضا قصائد دون هذه في الجودة ، و كان الأولى بك أن تحذفها دون تردد، لأن فيها شعرا لا ينبغي أن يجري على لسانك... و ينظر إليّ بدر قليلاً ، ثم يقول: - لقد أنساني الخالقُ، جلت قدرتُه ، الكثيرَ من أشعاري ، فلم أعد أذكر منها سوى « المومس العمياء» و « أنشودة المطر» و بضع قصائد أخَر.و يسمع حماد الراوية هذا الكلام ، فيطلب من السياب أن ينشدنا واحدة من تلك الروائع . و يستجيب الشاعر لطلبه ويشرع في إلقاء» أنشودة المطر» بصوته الشجيّ الرخيم ، فنطرب لذلك أشدّ الطرب ، و أحسّ أنا مثلما تحس أنت - يا صديقي- بشيء من الأسى، لأننا عابران في هذه الجنان ، و لا بد أن نعود إلى دنيانا الفانية، بمشيئة الرحمان.