المناضل الأخ عبد الرحمان الغندور من طينة المناضلين الذين فل نظيرهم، لم يسبق له التهافت على المراكز والمواقع الحزبية وصولا لتحقيق أهدافه الخاصة في الالتحاق بالمناصب الراقية أو الدواوين الحكومية، تعرفت عليه خلال الحملة الانتخابية البلدية التي خاضها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1976 حيث كان الاتحاديون وقتها قد أدوا أدوارا نضالية هامة في حياة المجلس الاستقلالي الذي كان يرأسه الدكتور بنسالم الكوهن إذ قادوا معارضة بناءة في سبيل مصلحة فاس وساكنتها توجت باعتصام شهير بمقر بلدية فاس، حيث فضحوا كثيرا من الممارسات السائدة آنذاك وانتقدوا المحسوبية والبناء العشوائي بالجنانات ودوار ريافة وصهريج كناوة والمنطقة الشمالية والذي مازالت تعاني منه فاس لحد الآن. وحتى يتعرف قراؤنا على آرائه وأفكاره أجرينا معه الحوار الآتي: { المرجو أن تحدثونا عن أزمة المشهد السياسي بالمغرب؟ يتميز المشهد السياسي المغربي اليوم بحالة غير صحية، أي إنه وضع غير سليم بكل المعاني. فعلى المستوى الفكري العام، نلاحظ ضعف الإنتاج وغياب الدراسات والتشخيصات والمقترحات، بل حتى الدراسات التي يقوم بها عدد من الأكاديميين والجامعيين والباحثين في ميدان الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة عموما، تظل حبيسة المكتبات والرفوف، لا يستفيد منها الفاعلون السياسيون وصناع القرار. وعلى المستوى العملي هناك شبه غياب للفاعل السياسي. إن المغرب اليوم يعرف « المنفعلين بالسياسة» وليس « الفاعلين للسياسة هكذا نجد أن النتيجة المترتبة عن هذا الوضع هي ما اصطلح على تسميته بالعزوف السياسي لدى أوسع الفئات والشرائح المجتمعية ونتائج انتخابات 2007 و 2009 تعكس ذلك بجلاء. إن الوضع بوجه عام يتسم بفراغ مهول فكريا وعمليا وتنظيميا. لقد عرف المجتمع المغربي في العقود الأخيرة تحولات واضحة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والمعرفي، لقد تحولت الحاجيات ووسائل تلبيتها، وتحولت عادات وثقافة الاستهلاك، تحولت بنيات مجتمعية وبرزت نخب جديدة كما تحولت نماذج العلاقات المجتمعية وأساليب التواصل وهذا غير من طبيعة القناعات والميولات وردود الأفعال للأفراد والجماعات، وتراوحت هذه التحولات بين المستوى الانتكاسي التراجعي والمستوى الإيجابي الذي يروم التوجه نحو المستقبل، إلا أنه رغم ذلك تظل عملية استيعاب التحولات والتعامل معها وإمكانية توجيهها نحو ما هو إيجابي عموما، عملية ضعيفة إن لم تكن غائبة. إن هذا الوضع بمستجداته أصبح يطرح على الجميع أسئلة جديدة تتطلب إجابات جديدة أيضا وهذا يتطلب على الأقل توقيف عملية إعادة إنتاج أسئلة الماضي وأجوبة الماضي، وتجاوز التحنيطات النظرية بكل تلاوينها. وهذا لا يعني القطع مع الماضي بقدر ما يتطلب فهمه واستيعابه دون تقديسه وبالتالي العمل على تجاوزه إيجابيا. إن إنتاج الأسئلة الجديدة وإجاباتها النظرية والعملية تتطلب ورشا سياسيا وفكريا هائلا فكرة الحوار المفتوح بدون قدسيات ولا طابوهات ولا هيمنة ولا استعلاء ودون إقصاء أو استخفاء أو استهجان. إن البداية في نظري تكمن في الفعل الثقافي السياسي المعرفي والعلمي والذي لا تعدمه المؤسسات الحزبية والنقابية والجمعوية والإنتاجية. لأن نخب اليوم ليست هي نخب الأمس كما أن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس ويظل السؤال المركزي لكل فعاليات الحوار هو: أي مغرب نريد وكيف ننجزه؟. { ماذا يعني لكم العودة للنضال في صفوف حزبكم الأول الاتحاد الاشتراكي؟ لابد من توضيح أساسي. فأنا لم أغادر الاتحاد الاشتراكي كي أعود إليه فأنا منتوج اتحادي منذ كنت، ولدت وتربيت فيه وساهمت على قدر المستطاع في بنائه وفي لحظة ما أصبح الإحساس بما تسير فيه الأمور، فكريا وتنظيميا يشعرني بالذهول. فتوقفت عن العمل داخل «التنظيمات الاتحادية» وحملت فكري الاتحادي وأدبياته وتاريخه ورموزه ابحث لها عن التجدد والتصريف في فضاءات أخرى داخل نفس «القبيلة اليسارية». لقد آمنت دوما أن العائلة الاتحادية هي الإطار القادر على توحيد القبيلة اليسارية من خلال المشروع السياسي الهائل القائم على أساس الانخراط الكبير لكل القوى في المسلسل الديمقراطي، فالعائلة الاتحادية امتلكت منذ البداية مشروعا نظريا وعمليا انعكس على مستوى الممارسة التي خلقت امتدادا جماهيريا واسعا لدى مختلف الفئات العمرية والشرائح المجتمعية والنخب الفاعلة في الفكر والاقتصاد والثقافة عموما. إلا أن تحول المسلسل الديمقراطي كمشروع مجتمعي إلى مسلسل انتخابي موسمي، وعدم استيعاب التحولات التي يصنعها هذا التحول، أحدث مجموعة من المفارقات الرهيبة التي أوصلت الجميع إلى الوضع الحالي داخل حزب القوات الشعبية.. إن المسلسل الديمقراطي الذي انطلق مع الانتخابات الجماعية لسنة 1976 جعلنا في غفلة منا ننخرط في آليات « الاستئناس «بمنظومة كان علينا تطويرها وتعديلها. إنها منظومة المخزن وهي منظومة منسجمة مع ذاتها من حيث فكرها وممارساتها وقيمها وسيتحول هذا «الاستئناس» إلى « استبطان» لهذه المنظومة، أي أنها ستصبح مكونا من مكونات وعي «المناضل الاتحادي» الشيء الذي سينتج عنه «إعادة إنتاج» نفس المنظومة فكريا وداخل تنظيماتنا الحزبية. فالكائن المناضل سيتحول إلى الكائن الانتخابي، وهذا سيفرز «الوحش الانتخابي» والمسؤوليات الحزبية ستتحول إلى قيادات وباشويات وعمالات وولايات. إن اللحظة الانتخابية تحولت إلى لحظة «غنائمية» وهنا أستعير فكر المرحوم الجابري، فمكونات العقل السياسي عنده هي العقيدة والقبيلة والغنيمة، وفي حزبنا منذ المؤتمر الاستثنائي سطرنا العقيدة (التقرير الإيديولوجي) وبنينا القبيلة ( الهياكل التنظيمية محليا ووطنيا وانفتحنا على الغنيمة ( الظاهرة الانتخابية) فانتهينا إلى إسكات العقيدة أو تعدد تأويلاتها وشتتنا القبيلة. لقد تألمت في الانتخابات الأخيرة وأنا أرى خمس مكونات من نفس العائلة يتنافسون على مقعد هزيل في مؤسسة هزيلة (الطليعة، الوفاء للديمقراطية، الحزب الاشتراكي، الحزب العمالي، المؤتمر الوطني الاتحادي) إنه عبث التاريخ أو تاريخ العبث. الآن وقد وصل المسلسل إلى نهايته، وأصبح الجميع يقر بضرورة إعادة بناء الوعي الاتحادي على أسس جديدة، والجميع يقر بما آلت إليه أوضاع حزبنا ومجتمعنا، ولا أحد ينكر أن مرحلة من تاريخ الحزب والوطن قد انتهت. الآن أصبح استئناف النشاط داخل حزب القوات الشعبية مشروعا بل وواجبا أخلاقيا على كل أبناء البيت الاتحادي. ويمكن أن أقول على سبيل المثال: إن الجميع في لحظة ما قد غادر البيت الاتحادي، فمنا من غادره فكريا، ومنا من غادره تنظيميا ومنا من غادره قيميا، ومنا من غادره بممارساته وأفعاله. وعلى الجميع أن يعود إلى بيته لتصحيح الفكر وإعادة بناء الأداة وتقويم القيم وفق ما يلي: 1- إعادة بناء الفكر الاتحادي على ضوء الأسئلة الجديدة المطروحة. 2- إعادة بناء الأداة الحزبية باستحضار التحولات العلائقية المطلوبة وتحديد الوظائف السياسية بدقة، الوظيفة التنظيمية، الوظيفة الفكرية، الوظيفة التمثيلية الوظيفة الحكومية... 3- مراجعة البنية القيمية بهدف التعامل مع القيم الجديدة بموضوعية وآليات من خلال تحديد مفهوم الطموح الشخصيو المجال التنافسي الموضوعي وبناء الطموح فكريا وتنظيميا وإشعاعيا... وهذا بالطبع سينعكس على الممارسات والأفعال. + يرى البعض في استئناف نشاطكم في الاتحاد الاشتراكي نوعا من البحث عن زعامة أو ما شابه ذلك؟ - أسمح لي أن أقول للجميع، إن زمن الزعامة والكاريزمية قد انتهى ولا يمكن أن يعود. والحزب لا يمكن أن يعود إلى منطق الزاوية التي تتطلب شيخا ومقدمين ومريدين. الحداثة السياسية تقتضي بروز المواطن عموما، الذي يعي حقوقه كاملة ويعمل على التمتع بها ويدرك واجباته كاملة ويلتزم بالقيام بها، وداخل الحزب، لا بد من بروز المواطن الحزبي الذي يتمتع بكل حقوقه ويلتزم بكل واجباته. إن بروز الذات من المتطلبات الآنية الملحة وليس بروز الأتباع. والذات الاتحادية الجديدة تقوم بما تمتلكه من كفاءات وقدرات وعطاءات، وبما تستطيع فعله فكريا وممارساتيا. والذات الملتزمة لا تنكر حقوقها الخاصة من طموح وقدرة على المنافسة القائمة على مبدأ الجودة الفكرية والعملية والأخلاقية. لهذه الاعتبارات أنا ذات اتحادية ككل الذوات الأخرى وأؤكد للجميع أن طموحاتي فكرية وعملية وأخلاقية. أما الطموح الانتخابي. فأنا أعلن منذ البداية أنه اهتمام مطرود طردا كليا من لائحة انشغالاتي. { كيف يمكن أن يخرج الحزب بفاس من نفق الوضع التنظيمي الحالي؟ إن الوضع الحزبي بفاس ليس إلا صورة للوضع الحزبي العام الذي تحدثت عنه. وبالتالي فهو يتسم بجمود الأجهزة، وابتعاد المناضلين والتعاطي مع الحزب بنزعة نقدية تشخيصية تصل إلى حدود القذف والشتم وطغيان الاهتمام المقهوي على الاهتمام التنظيمي، وباختصار إن الوضع الحالي بفاس كما عرفته وأعرفه شبيه بمريض في غرفة الإنعاش ، ليس أمامه إلا طريقان: إما المقبرة وإما التماثل للشفاء ومغادرة المصحة. وهذا سؤال مطروح على كل المناضلين، ماذا تريدون لحزبكم؟ وليست هناك إلا إجابتان: الموت أو الإحياء. ولا أعتقد أن مناضلا اتحاديا كيفما كان موقعه سيرضى بغير المساهمة في إعادة الحياة لحزب القوات الشعبية. فهذه الإمكانية متوفرة وشروطها قائمة إذا استطاع المناضلون فتح قنوات الحوار في ما بينهم، بعيدا عن التصنيفات والولاءات، واستحضار فضائل الحوار بما يتطلبه من قدرة فائقة على الاستماع للآخر. فالحقيقة ليست ملكا لأحد والوضعية تطال الجميع وتستدعي الجميع للانخراط في ورش إنساني حقيقي قائم على مبدأ العطاء والتواضع ونكران الذات. ألا ترى معي أن الانتخابات البرلمانية المقبلة ستكون محفوفة بالمخاطر في ظل شراء الأصوات والعزوف الانتخابي؟ وهل يمكن للحزب أن يعود بقوة للمشهد السياسي بفاس؟ - لا بد من الرهان هنا والآن على انتخابات 2015 مرورا بانتخابات 2012 .لابد من رفع شعار إعادة الاتحاد الاشتراكي بفاس ليصبح القوة السياسية الأولى بالمدينة والجهة. لأنه ليس في السياسة أوضاع نهائية ومطلقة. والوضع الحالي لا يقبل الدوام بل إن مجموعة من الآليات التي صنعته في طريقها إلى التفكك والزوال. لذلك فالمطلوب هو الانطلاق من الآن ودون انتظار لإعادة الحياة للحزب وإخراجه إلى الشارع، إلى المجتمع، إلى المواطنين والناخبين، بالانفتاح على الجميع واستقطاب نخب جديدة، إن نضال الاتحاد الاشتراكي عبر تاريخه هو الذي حقق المصالحات الكبرى التي عرفها المغرب رغم أن جزءا منها لايزال متعثرا، ولذلك ينبغي على مناضلي فاس أن يعلنوا منذ الآن المصالحة مع ذواتهم وحزبهم ليتمكنوا من تحقيق مصالحه قوية مع جماهيرهم. إن العملية ممكنة الآن، وصعبة غدا ومستحيلة ليلة الانتخابات.