يشيد الشاعر عوالم مفارقة لعالمنا المألوف؛ لا يمكن أن نسكنها إلا إذا استعرنا لغة المجاز، لأن لغة الحقيقة؛ التي هي إقامة في عالم الواقع المألوف؛ تميت جوهر الوجود؛ الذي هو في صيرورة وإبدالاته يخيب أي مسعى يراهن على إقرار معقول لحقيقة ثابتة وأبدية، ويبدد كل وهم متفائل بواقع مستقر، سرعان ما يتلاشى على إيقاع زمن متحول يكشف زيف الحقيقة ويبطل مسلماتها. إن الشعر هو الذي يعيدنا إلى الإقامة فوق هذه الأرض، على حد تعبير هيدغر، بما يمنحه للغة من قدرة على تجاوز حدود التواصل الفجة والابتذال اليومي، وذلك بالكشف عن هذا الوجود الدائم الاحتجاب والانكشاف والتخفي والانفتاح، لأن هذا الوجود لا يكون موجودا إلا إذا استعار لغة الشعر، التي تضمن إمكانية أن يوجد الإنسان في هذا العالم «هناك حيث توجد اللغة يوجد العالم»1. لا يمكن بذلك للشاعر أن يسكن هذه الأرض إلا إذا سكن اللغة، فباللغة ننطق الأشياء فتنطقنا2 ولا يتحقق ذلك إلا بطريقتين«تخليص الجسد من معارفه أولا، وعدم إبداء أية مقاومة ثانيا لاختراقات هذا الوجود الذي يسكن الجسد في اللغة»3 هكذا، فإن كان الشاعر المغربي عمر العسري في ديوانه (عندما يتخطاك الضوء) يعيش مأزقا وجوديا حينما يحاول الإمساك بواقع منفلت وزائل، أو احتضان أخروي غائم، فإنه بالرغم من ذلك لا يريد أن يركن إلى تلك المعارف/الحقائق التي تميت الحياة في جسده، وتجعل من وجوده مجرد هيكل تحتفي بها الذاكرة، بل يقحم جسده في لعبة مكاشفة صريحة وقلقة مع هذا العالم الذي لا يفتأ يلغي كل احتواء عقلي للوجود، ساحبا ذات الشاعر نحو ملاحقة تشكلاته اللامتناهية. يقول الشاعر: كلُ شَيء يُومِض خلْف الرّوائح كلُ شَيء مُستحِيل أنْ يبقَى كَما هُو كلُ شَيء خَارِج عَن أبعَاد ( ملاك أسود، ص. 59) قبل قراءة قصائد الديوان يحذرنا الشاعر مرتين، مرة بشكل صريح، من الانسياق وراء «حقائق نسينا أنها مجرد أوهام وأخيلة، ومجازات فقدت صلابتها من فرط استعمالها»4 اختلقناها كي نطمئن إلى هذا الوجود ونسكنه بتفاؤل كاذب. يقول الشاعر: «حذار وأنت تمشي بأحذية الخيال فوق أرض القصيدة أن تزل أحلامك وتسقط في حفرة بياض» (ص.5) ومرة بشكل ضمني حين يستعير كلاما للشاعر الألماني هولدرلين يذكر بالصحبة الغريبة لهذا العالم المنسحب إلى العدم والمنبثق من فراغ، المنفلت دائما من الرؤية والتصور بحيث يبدو الإنسان غريبا عن نفسه وعالمه. عِنْدَما نفسُك تَتخَطّى زمنَك غَريبًا تمكُثً حِينئذٍ على الرّصِيفِ بَاردًا مع أهلِك وأنتَ لا تَعْرِفُهم (ص.7) فحين تطأ قدما القارئ عالم القصيدة، لا يكتشف وجودا جديدا ثم تحويله من عالم الألفة إلى الغرابة؛ كما دأبت على ذلك جل الكتابات الشعرية؛ وهي تعيد بناء مسلمات الصورة البلاغية القديمة وفق منطق الانسجام والتشابه جانحة بذلك إلى إعادة الأشياء إلى صِدْقِيتها، وإنما هو هدم وبناء مستمر لهذا العالم شكلا وصورة ومنطقا ومحتوى، وخلق لعوالم يستحيل تحققها لأنها عوالم تخوض في المجهول وتتشرب من شعاب الغيب واللامعلوم، حتى وإن بدت محسوسة في ظاهرها فهي مجرد أطياف وظلال وهمية تتبدد كي تترك العمى يحل محل البصيرة، وهدم للعبارة وللجملة وللمعنى، هدم للتلقي المعقود على تشكيل أفكار ثابتة. إننا نكون بإزاء شعر يحطم مقامات التواصل الاعتيادية لينحو جهة الغموض الفعلي للوجود باعتباره هو اللاوجود في ذاته. هكذا تركب الجمل والتعابير عكسيا وفق منطق نحوي جديد، وتخلق المعاني تصورا مفارقا لا يمكن إدراكه إلا حدسيا: »ينام من صحوه/العيون أمس/عيني عماء/القمة نبلغها في المنحدر/القمر البري/بيتك أرجوحة بلاستيكية/ثوب نلبسه فوق العظام تحت الجلد/أيدي مقابر لا صوت فيها« وبذلك يبدو العالم الذي ينشئه الشاعر فاقدا لقياسات العقل الرصينة في ترتيب وتصنيف الموجودات، حيث تتخذ الأشياء مسميات جديدة وتقيم علاقات متنافرة لا يجمع بينها إلا وجود وجد لتوه في الشعر لحظة انبثاقه وزواله في نفس الوقت. وبهذا المعنى فإن الشعر انتهاك لقدسيات ثم الاعتقاد بصوابها، كي يكشف لنا الوجود أسراره اللامتناهية5، ومن ثمة ينقذنا من رتابة الحياة العبثية. فإذا حاولنا دخول عالم الشاعر يمكن أن نميز بين ثلاث لحظات متداخلة لا يمكن الفصل بينها، لأن تجربة الشاعر تُضمر تلك اللحظات المتناسلة، فكل قصيدة يمكن أن تحتضن اللحظات الثلاثة، أو تكتفي بتوقع لحظة واحدة أو تسترجع اللحظتين الأخيرتين بشكل ضمني. اللحظة الأولى: نور الولادة وظلام الوجود إذا كانت الولادة خروج من العتمة نحو الضياء، وانبثاق الوجود من العدم، فإن الوليد الذي يفتتن باكتشافه جمال الوجود المشع بأنواره وألوانه وأطيافه سرعان ما يكتشف هوة العدم السحيقة؛ الذي يمتص ظلامها كل موجود. يقول الشاعر: لَمّا قطعُوا حبْل السُرّة نَزلتُ بِلا رجعةٍ بكيتُ بكيةً حرّى لأوّل مرة أخذتُ الضوء بيْني وبينه غِشاء أصفر فكانَ الحلمُ الضيق على مَلمسٍ من يدي (أرض حرى، ص. 11) فإذا كان هذا الضياء هو الذي يشكل زمانية هذا الوجود وقوة استمراره، فإنه يكون في نفس الوقت إيذانا بزواله واضمحلاله، وإن عاند الشاعر في ملاحقة هذا الضوء والرغبة في استدامة إشعاعه فإن «ليل صاعد» يدثر الرؤية بغلالة العمى. يقول الشاعر: أمسِك عَيني بِكمّاشَة لئِلا تَنصرِف إلى غير ذلك القمَرِ البريّ أُصغِي إلى الضَّوء منْ حَولِي وفَوقي من التِيهِ إلى التِيهِ أتذكَّر يومَ ضيعني ...صغيرا يوم علَّمني السّوادَ وأسرارَه ( قمر بري، ص. 40) هكذا يقف الشاعر مشدوها أمام العدم الدائم الذي يعاود إغراق الضياء في العتمة، مثل وقوف النبي إبراهيم الخليل على الكواكب المضيئة وهي تنسحب خجلى دون مقاومة لسلطان الظلام القاهر. وبذلك تفقد الحواس صلتها بهذا العالم رغم إدراكها المسبق لظاهريته البادية للعيان، ويتعمق لدى الشاعر إحساس بالشك في صحة الأشياء، لأنه لا يستطيع أن يلاحق وثيرة زمانها المتسارعة وكأنه يلاحق سرابا يزداد بُعدا كلما ظن أنه قادر على الظفر به. يقول الشاعر: أَعظّ الزمن من العقرب وأسحبُ اللّومَ من ساعتِك اليابانية [...] قالتْ: لا تسرْ خطوة، لا تقترب لا شك أن خطوك موت حالما ستبصرني سيتخطاكَ الضوء ( عندما يتخطاك الضوء، ص. 35-37) وأمام هذا العجز تلتبس الرؤيا في الوعي وتتحطم صروح العقل المتينة، فتجتمع الأشياء بنقائضها وتتشعب، فلم يعد للشيء هوية يحتفظ بها ولا حدود يصونها، فالإبصار عمى، والعمى إبصار، والقمة منحدر، والنوم صحو. يقول الشاعر: يذكرُ ممشاي في الليل ووجهي على حافة اللقاء ونور عيني لنور المرآة عماء ( بقايا مكان، ص . 26) هكذا يبدو العالم فاقدا لمعناه وضرورته، وفيه الإنسان، حسب باسكال، مترددا بين كل شيء ولا شيء، بين اللانهائي والعدم، أو كما يلخص ذلك كليمون روسي بإعجاب: » أن تكون شيئا وفي نفس الوقت لا شيء«6 ، وهذا ما يفقد القدرة على العمل لأن أي فعل يبدو سخيفا في المجرى اللامتناهي للوجود، ومن ثمة لا ينظر الشاعر إلى فعل ولادته باعتباره خلقا مباركا يُسر لقدومه، ولكن فعلا خاليا من الضرورة ومجرد صدفة عشوائية وحدث مثير للسخرية، لذلك فهو يقول كما قال إميل سيوران: «إننا لا نسرع باتجاه الموت، ولكننا نفر من فاجعة الولادة»7 والسماءُ ترسُم صورةَ طِفل مَفْتون بثَدي خَالته يلعنُ لحظةَ الامتصَاصِ لأنّ في أعطَافِه وعلى جَبِينه حُرمتْ عليهِ تلكَ النُّورَانية ويمدُ كفّه إِليها...والرضاعةُ تُخزيه مهْما يَعزّ المَطْلَب ( النوم صحو والعيون أمس، ص. 16) فكيف يمكن للشاعر أن يتصور وجوده في العالم وهو يعيش ألم الولادة؟ وهل يستطيع أن يستعيد دهشة الاكتشاف الأولى وبريق الضوء الساحر؟ وهل يمكنّه الشعر من استرجاع فتنة الولادة واستطابة الحياة؟ اللحظة الثانية: عدمية الحياة وعبثية البعث بما أن الشاعر فقد القدرة على استيعاب هذا العالم، وامتلاك إرادة ترسم له السبيل نحو يقين يخلصه من فراغ العالم ولا معناه، وهو يرى حقيقته في اللاحقيقة، ويرى نفسه في هذا الكون دون سبب وبلا أية غاية، فإن الوجود أضحى بالنسبة إليه هو العدم، والحياة أصبحت فجيعة؛ زاد من