أخنوش: فقدنا 161 ألف منصب شغل في الفلاحة وإذا جاءت الأمطار سيعود الناس لشغلهم    طنجة.. توقيف شخص بحي بنكيران وبحوزته كمية من الأقراص المهلوسة والكوكايين والشيرا    عمره 15 ألف سنة :اكتشاف أقدم استعمال "طبي" للأعشاب في العالم بمغارة الحمام بتافوغالت(المغرب الشرقي)    "المعلم" تتخطى مليار مشاهدة.. وسعد لمجرد يحتفل        الإسبان يتألقون في سباق "أوروبا – إفريقيا ترايل" بكابونيغرو والمغاربة ينافسون بقوة    انعقاد مجلس الحكومة يوم الخميس المقبل    أخنوش: حجم الواردات مستقر نسبيا بقيمة 554 مليار درهم    الجديدة.. ضبط شاحنة محملة بالحشيش وزورق مطاطي وإيقاف 10 مشتبه بهم    استطلاع رأي: ترامب يقلص الفارق مع هاريس    هلال يدعو دي ميستورا لالتزام الحزم ويذكره بصلاحياته التي ليس من بينها تقييم دور الأمم المتحدة    النجم المغربي الشاب آدم أزنو يسطع في سماء البوندسليغا مع بايرن ميونيخ    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا الخميس والجمعة المقبلين    حصيلة القتلى في لبنان تتجاوز ثلاثة آلاف    سعر صرف الدرهم ينخفض مقابل الأورو    البحرية الملكية تحرر طاقم سفينة شحن من "حراكة"    استنفار أمني بعد اكتشاف أوراق مالية مزورة داخل بنك المغرب    الجفاف يواصل رفع معدلات البطالة ويجهز على 124 ألف منصب شغل بالمغرب    المعارضة تطالب ب "برنامج حكومي تعديلي" وتنتقد اتفاقيات التبادل الحر    «بابو» المبروك للكاتب فيصل عبد الحسن    تعليق حركة السكك الحديدية في برشلونة بسبب الأمطار    في ظل بوادر انفراج الأزمة.. آباء طلبة الطب يدعون أبناءهم لقبول عرض الوزارة الجديد    إعصار "دانا" يضرب برشلونة.. والسلطات الإسبانية تُفعِّل الرمز الأحمر    الجولة التاسعة من الدوري الاحترافي الأول : الجيش الملكي ينفرد بالوصافة والوداد يصحح أوضاعه    رحيل أسطورة الموسيقى كوينسي جونز عن 91 عاماً    مريم كرودي تنشر تجربتها في تأطير الأطفال شعراً    في مديح الرحيل وذمه أسمهان عمور تكتب «نكاية في الألم»    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    مصرع سيدة وإصابة آخرين في انفجار قنينة غاز بتطوان    عادل باقيلي يستقيل من منصبه كمسؤول عن الفريق الأول للرجاء    الذكرى 49 للمسيرة الخضراء.. تجسيد لأروع صور التلاحم بين العرش العلوي والشعب المغربي لاستكمال الاستقلال الوطني وتحقيق الوحدة الترابية    أمرابط يمنح هدف الفوز لفنربخشة    الجيش المغربي يشارك في تمرين بحري متعدد الجنسيات بالساحل التونسي        متوسط آجال الأداء لدى المؤسسات والمقاولات العمومية بلغ 36,9 يوما    "العشرية السوداء" تتوج داود في فرنسا    إبراهيم دياز.. الحفاوة التي استقبلت بها في وجدة تركت في نفسي أثرا عميقا    بالصور.. مغاربة يتضامنون مع ضحايا فيضانات فالينسيا الإسبانية    أطباء العيون مغاربة يبتكرون تقنية جراحية جديدة    مدرب غلطة سراي يسقط زياش من قائمة الفريق ويبعده عن جميع المباريات    عبد الله البقالي يكتب حديث اليوم    تقرير: سوق الشغل بالمغرب يسجل تراجعاً في معدل البطالة    "فينوم: الرقصة الأخيرة" يواصل تصدر شباك التذاكر        فوضى ‬عارمة ‬بسوق ‬المحروقات ‬في ‬المغرب..    ارتفاع أسعار النفط بعد تأجيل "أوبك بلس" زيادة الإنتاج    استعدادات أمنية غير مسبوقة للانتخابات الأمريكية.. بين الحماية والمخاوف    الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي: للفلسطينيين الحق في النضال على حقوقهم وحريتهم.. وأي نضال أعدل من نضالهم ضد الاحتلال؟    عبد الرحيم التوراني يكتب من بيروت: لا تعترف بالحريق الذي في داخلك.. ابتسم وقل إنها حفلة شواء    الجينات سبب رئيسي لمرض النقرس (دراسة)        خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في مجموعة «جزيرة زرقاء» لسعيد منتسب جدل الكتابة والمحو
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 14 - 01 - 2011

تحفل المجموعة القصصية «جزيرة زرقاء» بعدة تقنيات سردية يتصدرها الحكي المبتور والمكتفي بالتلميح غالبا.رهان يعتمد استراتيجية المحو التي تتوسل تقنية جبل الجليد الذي لا يظهر منه إلا عشره والباقي مغمور في المياه..فضلا عن تقنية التعجيب السردي والتي تقدم الأحداث خارج نطاق المنطق والعقل..عدة حكائية استثمرت لعرض تيمات في غاية الحساسية وعلى قمتها المحظور الجنسي والسياسي وما شابه من خلال وضعيات درامية تحتمل أكثر من معنى تاركة المتلقي منذورا لملء الفجوات والبياض، دافعة به للحفر المضني عن الدلالة في كل الاتجاهات قصد تلمس وعي الأبطال وتجلية نمط إدراك الشخوص للذات وللعالم. يقول بيير ماشيري في هذا السياق:»إن العمل الأدبي لا يرتبط بالإيديولوجية عن طريق ما يقول،بل عبر ما لا يقوله،فنحن عندما لا نشعر بوجود الإيديولوجية نبحث من خلال جوانبها الصامتة الدالة التي نشعر بها في فجوات النص وأبعاده الغائية، هذه الجوانب الصامتة هي التي يجب أن يتوقف عندها الناقد ليجعلها تتكلم» (1).
إن المحو باعتباره إسقاطا للتفاصيل وتكثيفا للخطاب في قصص سعيد منتسب لا يمكن اختزاله إلى وظيفة جمالية صرفية بقدر ما يضمر بعدا أطروحيا يؤشر على المقموع والمغيب عنوة. فالخطاب الممحو يقتضي ماح متسلط يقبع في خلف الصورة وسياق قمعي أنتج فعل المحو.قمع يخفي بالجوار سلط متربصة ولا حصر لها..والكشف عن هذه الأحواز قمين بتجلية حجم الكبت والإحباط وسعة القمع..علما أن مجمل أبطال هذه الأضمومة قدموا مشلولي الإرادة بل ومخدرين أحيانا إما بفعل قمع خارجي وموضوعي أو بفعل داخلي استأسد بفعل التنشئة الاجتماعية والتي تربي الفرد أحيانا على طأطأة الرأس وكبح للرغبة الأمر الذي يجعله فريسة المعاناة والخيبة والشقاء..
1-عتبات المجموعة: أ-عتبة العنوان: جزيرة زرقاء: الجزيرة كفضاء تؤشر عادة على ذاك الحيز المشمول بالهدوء والوداعة، مكان للفطرة والوعي الأولي للإنسان..ونستحضر في هذا المقام»حي بن يقضان»لابن طفيل..الجزيرة كذلك فضاء لتحقيق الأحلام والرغبات المنفلتة باستمرار ،ونحيل هنا على الأمواج التي حملت»أشيل»إلى الجزيرة البيضاء حيث ارتبط ب»هلين»وعاش حياة رغدة بعيدا عن تطاحن وصراع المدينين.بل إن الجزيرة في مجمل الثقافات البشرية تحمل دلالات ايجابية إلا في ما ندر. ففي الثقافة اليونانية ينتسب «زيوس» اله الآلهة إلى جزيرة مقدسة تحسب على الأماكن الخارقة كما تمثل شبه الجزيرة الايبرية فردوسا مفقودا للبعض بل ووجهة الشباب الإفريقي الحالم بالمجد والثراء..جاء في معجم الرموز»الجزرة هي المكان الذي لا نصله إلا بالطيران أو العوم.هي رمز لمركز روحي وبشكل أدق مركز روحي أزلي.»(2) أما اللون الأزرق المسند للجزيرة فهو أعمق الألوان، بالنظر إليه تتعمق الرؤية ونضيع في اللامتناهي..لون شفاف وكأنه فراغ مجمع. الأزرق كذلك هو أبرد الألوان وأكثرها صفاء خارج الفراغ المطلق للأبيض المحايد. الأزرق من زاوية ثالثة ينزع البعد المادي عن كل الأشياء الحاملة للونه فحائط أزرق مثلا يتوقف عن كونه حائطا. أقصد أن الأشكال تضيع في الزرقة وتغرق ويغمى عليها كعصفور أزرق في السماء. الدخول في الأزرق هو تقريبا الذهاب والإقامة في الجانب الآخر من المرآة. الأزرق هو طريق الحلم ، معه التفكير الواعي يترك مكانه شيئا فشيئا للاوعي..وبخلاف كل هذا يأخذ اللون الأزرق في الثقافة الشعبية صفة سالبة.فالوجه الأزرق هو كناية على كائن يتوجه نحو الموت..وبين الدلالة الأولى والثانية توزعت دلالة قصص هذه الأضمومة.
عتبة لوحة الغلاف:
ب- يمتد لون زرقة الجزيرة للوحة الغلاف حيث يحضر اللون الأزرق في شكل عريضة قائمة تتقاطع أفقيا وعريضة رمادية.في الثلثين السفليين من غلاف الواجهة تحظر لوحة عبد الكريم الوزاني.لوحة تعطي الانطباع وكأنها حائط متشقق به تصدعات عدة..حائط نبتت بوسطه ورقة صبار حمراء شائكة تنبئ المتلقي بفعل وخز محتمل.وهو بالفعل ما يقع عندما ننتهي من قراءة جملة من قصص هذه المجموعة المختومة إما بالانتحار أو الجنون،الانتقام أو الخيانة وما شابه من التيمات الدرامية..
2- شعرية المحو أو قانون الندرة والتلميح:يقوم السرد المسهب والتفصيلي أحيانا بفعل خنق الحكي لأنه يحد من فعالية خيال القارئ جراء استبداد السارد بالكلمة..سارد يريد أن يقول كل شيء..وبخلاف هذا فالحكي المشبع بالحذف والمحو،سرد صحي لأنه مناقض للاسترخاء والطمأنينة..فهو يحفز القارئ على ملاحقة امتدادات الخطاب ويتطلب يقظة قصوى من لذن السارد ومن خلفه القاص في قول ما يجب قوله فقط..وسرد مماثل هو بالذات ما يجعلنا نعيد النظر في قيمة الفراغ الجمالي للكتابة وقانون الندرة ومناطق الهمس والصمت.فالقص الذي يراهن على الحذف والمحو والبياض يستطيع من جهة تحرير المعنى من سجن المكتوب ومن جهة ثانية تشتيته على المحذوف والمغيب وتخليصه من سلطة تطابق النص المكتوب مع المرجع.علما أن هذا التطابق مبتغى مستحيل التحقق.إن محو التفاصيل وإسقاط الكثير من الأحداث أصبحا إحدى آليات اتساع النص وبات الحديث عن سمك الخطاب بدل طوله. ففي قصة «موعد»مثلا (ص7) كانت نصف ورقة من الحجم المتوسط كافية للسارد كي يفتح لنا شرفة على سيرة الفقدان التي تتلبس حياة الإنسان المعاصر. جمل سردية على قلتها فتحت جراح الألم جراء إخلاف البطل موعد التصالح مع نفسه.فباتت حياته مليئة بالثقوب والغياب حيث حاول استعادت زمنه الجميل دون جدوى..الأمر الذي جعله أسير التذكر والاستيهام عله يعوض ذاك الغياب الفادح لشخوص تسكن قرارة وجدانه. فسارد قصة»موعد» يسترجع عشرين سنة من خلال فعل التذكر في أقل من سبع جمل..علما أن فعل التذكر فعل تراجيدي لأنه ينعي الأنا المتذكرة والتي توفت في زمن مضى وانقضى محاولا إحياؤها دون الاهتداء إلى ذلك.إذ يجد السارد نفسه في نهاية القصة مرتهنا للفراغ والغياب.يقول السارد في ص7:»لمحتها واقفة في محطة الحافلة.فرفر قلبي واهتز كياني وهاجمتني الذكريات(...)دخلنا الجامعة بأحلام تهز الجبال.خرجنا منها بهموم واسعة وأثقال(...)كانت تنتظر الحافلة»هل أكلمها؟»»هل تذكرني؟»(...)أكملت طريقي،كأني أعوم في بحيرات من القطن.تجاوزتها بمأتي متر دون أن ألتفت.فجأة قررت أن أحدثها.استدرت.قطعت المسافة ركضا.كانت المحطة فارغة.وحدها الشمس كانت تزغرد.وحدي كنت ألملم نفسي » هل لمحتها فعلا ؟ »
إن قصص بهذا التكثيف تضعنا أمام مفارقة حقيقية وهي قصر الحجم الكمي مع القدرة على احتواء قضايا كبرى وأسئلة مركبة من قبيلة سؤال المصير والمآل والهوية و الوجدان..قصص تعري الأحشاء وتفتح الجراح والندوب ومن ثم تعمق إحساسنا بماهية الحياة.قصص توحي أكثر مما تحيل وترمز أكثر مما تصرح وبسبب ذلك توفقت في استغوار مناطق معتمة في قاع الوجدان..إن اعتماد المحو على إسقاط التفاصيل والأحداث الثانوية يولد خطابا مكثفا بالغ السمك الأمر الذي يجعل المدلول أكثر امتدادا من الدال.فضلا عن كون تقنية المحو تسرع من إيقاع السرد وتشرك المتلقي في ملأ الفراغات والفجوات الدلالية.كما تكسب الخطاب نكهة شعرية.لنتأمل قصة «العاشقان» التي تختزل تعارض مسار الرجل عن المرأة جراء اختلاف وجهة نظر كل واحد منهما حيال العلاقة العاطفية في جمل غاية في الكثافة.يقول السارد في ص63:»بسمة فوق الخد،اليد ترتاح على اليد،فنجان القهوة يراقص عصير الليمون،يعانقه يتهامسان.قال لها:أحبك./قالت له:متى نتزوج؟/ قال: أحب عطرك،عطرك جذاب./قالت متى نتزوج؟/نظر مليا في عينيها،ذابت البسمة وارتخت اليد.فنجان القهوة بارد.عصير الليمون ساخن.هبت الأقدام..وانتشرت الظلال..»إن اكتفاء القاص بهذه اللقطة السريعة والمنتزعة من صيرورة حياة الإنسان حتمت عليه محو الكثير من الجزئيات والتفاصيل إلى حد أن المفردة الواحدة أضحت تلخص موقف المرأة من الرجل وتفصح عن للاوعيها الراغب أشد ما تكون الرغبة في شرعنة الارتباط به ..بخلاف الرجل الذي نشبت بمفردة الحب في مجمل أجوبته وكأني به يؤمن»بأن الحب قل ما ينشأ بين متزوجين بخلاف حب العاشقين اللذين يهبان بعضهما كل شيء طوعا واختيارا بعيدا عن تأثير كل ضرورة أو قسر، أما الزوجان فهما ملزمان بحكم الواجب أن ينزلا نزولا عند رغبات بعضهما وألا يضن أحدهما بشيء على الآخر.»(3)
نخلص من هذه القصة الممحوة التفاصيل إلى تقابل دال جدا بين مفردة حب وزواج.تقابل يفقد الحب عنفه وزخمه إلى حد يمكننا الخلوص إلى أن الحب المتوج بالسعادة لا يلهم بخلاف الحب المختوم بالنهايات التعيسة..وهذا النمط من الحب وحد القادر على إدخال أصحابه لصفحة التاريخ ولعل علاقة كيلوباترا بمارك أنطوني تصلح مثالا لهذا التعالق فضلا عن عشق آنا كارنينا لفرونسكي في رائعة تولستوي.
3- كثافة القصة الومضة من كثافة الحلم: يتصف الحلم عادة بلغته اللعوبة والمتلفعة ورموزه الزئبقية..عدة سردية مركبة تقول شيئا وتعني شيئا آخر، لأن الحلم في الأصل خطاب مكثف ورمزي وشذري-يشبه تماما القصة الومضة-الأمر الذي يجعل معناه منفلتا وهاربا باستمرار وهذا ما يستدعي تأويله..إن كثافة الحلم ترجع لضيق زمنه قياسا وكثرة الرغبات الواقعية المعلقة.فضلا عن كون الحالم يلعب دور الممثل والكاتب والجمهور والناقد في ذات الآن .فقط هذا لا يعني أن الحالم يتحكم في حلمه،بل العكس هو الذي يقع..علما أن ثمة تعالق بين المحفزات الواقعية أو البقايا النهارية وما يتم استدعاه ابان أحلام النوم.وكأني بالحالم يود تصفية حسابه بما ظل عالقا في حالة اليقظة.يقول السارد في قصة»جريمة»ص11:»ينتظرهافي المقهى.ساعة .ساعتان.لم تأت.ينتظرها في البيت.ساعة.ساعتان.ليلتان.لم تأت.نام وجدها في حلمه جثة هامدة.أفاق السكين في يده.وبقايا عتاب ودم.» توحي نهاية هذه القصة أن الحرمان يقف خلف الحلم كما الكتابة.علما أن اشتغال الحلم على الرموز يعود بنا لطفولة البشرية حيث كانت لغة الكلمات في طور التشكل وكان التواصل بالرموز هو السائد ...إن امتشاق البطل للسكين في حلمه- وهو رمز الاختراق والقوة- يحيل على الرغبة في استرداد فحولة مهيضة ومحبطة جراء غياب اللقاء وبقاء البطل في حالة انتظار مؤذ ومذل.لكن هل يمنكننا هنا اعتبار هذا الإشباع الهلوسي للرغبة نوعا من البحث عن التصالح مع الذات كيف ما اتفق ؟ أم أن هذا الحلم يمثل إحدى تجليات الأنانية المطلقة؟علما أن الحلم في نهاية الأمر ما هو إلا أحد مرودي الرغبة المتمنعة وصنمية الواقع.غايته الكبرى هي الانفلات من صرامة الالتزام و المسؤولية بغاية إبرام صك صلح مع رغباتنا المجهضة.يقول فردريك كوسان:»يعتبر الحلم رمز المغامرة الفردية الضاربة بعمق في حميمية الوعي الذي يهرب عن صانعه بنفسه.فالحلم يبدو كما لو أنه التعبير الأكثر سرية والأكثر خصوصية لأنفسنا»(4) إن احتفال شخوص هذه المجموعة بالحلم ناتج على خلفية وعيهم بصنمية الواقع لأنه يمثل زمن تحقق الرغبة ويمنح صاحبه فسحة النيل من الواقع الجارح.إذ أن التوجه للحلم وان كان لا إراديا فهو دليل قاطع على وجود جرح خلفه وسبب هذا الجرح هو الواقع بالذات.وبالتالي يمكن اعتباره لحالم كائنا جريحا لا يلبت يتهرب من تقرحاتها التي لا تبرأ أبدا.الأمر الذي يجعل الحلم مرآة كبرى تعكس الرغبات من جهة أولى ومن جهة ثانية تعكس الكدمات و الأعطاب التي تفوح منها رائحة نضج الرغبة على نار اللاشعور.يقول سارد قصة»أحضان»ص39:»الدمية الجميلة تضحك،لا تسدل العيون/كانت تحلم في حضن الصبية.ضحكت الصبية الصغيرة،كانت تحلم في حضن أمها.ضحكت، المرأة،كانت تحلم في حضن زوجها ضحك الرجل،باتت في خياله امرأة لا تشبه زوجته.»نستشف من هذه القصة المكثفة أن سائر شخوصها يعيشون في حلم يقظة مسترسلة. والقول بأن الفرد يعيش حالة حلم يقضه أو نوم يفيد أن ثمة قمع وكبت في الجوار جراء وجود رقيب معين.مع وجوب الإشارة إلى أن حلم الرجل كان معبأ بشحنة عاطفية متوترة بدا كما لو أنه نزيف قواه موضوع الرغبة المبعد.وهذا ما يعطي للحلم هذه القوة السحرية في اختزال الأزمنة والأمكنة واستدعاء البعيد و يتوفق عادة في خلق توازن بين الكائن والمأمول .الأمر الذي يجعلنا نعتبر الحلم هو أسطورة الفرد بينما الأسطورة هي حلم الجماعة.يقول فرويد:»في الغالب يشمل محتوى الأحلام شخصية أو قيمة غائبة وهذا الغياب هو ما يستدعي التأويل والربط بين عناصر الحلم المتناثرة.»(5) لكن ألا يمثل العنوان مفارقة مع نهاية القصة؟أقصد هل يمكننا الحديث عن حضن دافئ للرجل وهو يعيش في غربة عن من يحلم بها؟ وهل هذا يعني أن الحرمان بالضرورة منتج لبذرة الحلم؟أم أن الرجل يظل مسكونا بصورة الأم مدى الحياة ويقضي عمره في البحث عن شبيه لها دون جدوى ليمسي تاريخه الوجداني لعبة هروب كبرى من امرأة إلى أخرى إلى ما لا نهاية.لنتوقف عند هذه القرينة القصصية من قصة «فيض»( ص69):» قالت له «تعال تنام»أعطى وجهه للحائط اقتربت منه انكمش مثل القنفذ تلغم وجهها..»إن انكماش الرجل يذكرنا بوجهة نظر فرويد الذي يعتبر «النوم من وجهة النظر الجسمانية .استذكار للإقامة في جسم الأم وتحقيق لبعض شروطها الوضعية الساكنة،الدفء،والابتعاد عن التنبيهات،بل كثيرون هم الأشخاص الذين يتخذون أثناء رقادهم وضعية الجنين البدئية.وتتسم حالة النائمين النفسية الانسحاب شبه كامل من العالم المحيط وبإلغاء كل اهتمام به.:(6) لكن إذا كان التوجه للحلم هو في العمق خيار لمراوغة العجز الواقعي واستبدال الحرمان بالإشباع ولو بالقوة قصد ترميم نذوب الذات ورثق جروحها اللامتناهية..فانه بالموازاة لكل هذا مخرج سلبي ومخادع لطبيعة الصراع..بحيث لا يعدو كونه إشباع زائف لرغبة حقيقية وتحوير لصراع ينبغي أن يحسم على أرض الواقع..فالاكتفاء بتحقيق الإشباع على مستوى الحلم يجعل من الواقع يبقى على ما هو عليه..وبالتالي قبول الحالم بالاختلال والاستمرار في التنازل عن حقه في عيش سوي.يقول السارد في قصة «نسيان» ص71:»بالأمس كان يدخل غرفته التي لا تدخلها الشمس.يستلقي على الفوتي القديم.يقرأ القصص والروايات،يحلم بعروس جميلة ومرتب ضخم وبذلة رائعة.الآن،يدس يده في جيبه،يخرج المرتب الهزيل،يشتم فيه رائحة العرق(...)لم تعد له غرفة(...)يعمل مثل بغل(...)لم يعد يحلم.كان مشغولا جدا بعلب الحليب والقماطات والنسيان.» نخلص من هذه المقاربة إلى أن أهم سمات الكتابة الممحوة التفاصيل هي اعتمادها على المفردة كوحدة سردية بدل الجملة،الأمر الذي يجعلها تتقاطع وكثافة الشعر.إذ أن المفردة تصير ذات إيماءات متعددة حيث يهيمن البعد الاستعاري في الكتابة وهذا يمنح المتلقي فسحة أرحب للتأويل.كما أن الرهان الجمالي للمحو بالمعنى أعلاه ينتج لنا كتابة مرتهنة في الغالب للتأمل الفلسفي العميق.فأن يكتب القاص وهو يمحو الكثير من تفاصيل سروده معناه أولا تكثيف قصه وتضعيف دلالته وثانيا فتح عبارته على هوامش وبؤر عميقة من المعاني المسكوت عنها.كتابة تتأسس على خلفية اكتفاء السارد بالتلميح وفق ألاعيب السرد وتقنياته ومكر اللغة وتكتمها...
إحالات:
(*)جزيرة زرقاء »سعيد منتسب- قصص-منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب-2003.
1-نقلا عن مقالة»الإيديولوجية في الرواية »لعبد الجليل الأزدي- مجلة علامات.العدد 7/1997-مكناس المغرب.ص103/104.
2-Dictionnaire des symboles-Gean chevalier. Alain cheerbrant.edition1982.p519.
3-طوق الحمامة-ابن حزم.تحقيق الأستاذ حسن كامل الصيرفي.المكتبة التجارية القاهرة.1968-ص6
4-Dictionnaire des symboles..p519. -
5- le rêve et son interprétation .Sigmund Freud .traduit de l allemand par Helene Legros .Gallimard.1925-p47.
6-علم ماوراء النفس-سيغموند فرويد-ترجمة جورج طرابشي.دار الطليعة بيروت1979-ص95.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.