هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في مجموعة «جزيرة زرقاء» لسعيد منتسب جدل الكتابة والمحو
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 14 - 01 - 2011

تحفل المجموعة القصصية «جزيرة زرقاء» بعدة تقنيات سردية يتصدرها الحكي المبتور والمكتفي بالتلميح غالبا.رهان يعتمد استراتيجية المحو التي تتوسل تقنية جبل الجليد الذي لا يظهر منه إلا عشره والباقي مغمور في المياه..فضلا عن تقنية التعجيب السردي والتي تقدم الأحداث خارج نطاق المنطق والعقل..عدة حكائية استثمرت لعرض تيمات في غاية الحساسية وعلى قمتها المحظور الجنسي والسياسي وما شابه من خلال وضعيات درامية تحتمل أكثر من معنى تاركة المتلقي منذورا لملء الفجوات والبياض، دافعة به للحفر المضني عن الدلالة في كل الاتجاهات قصد تلمس وعي الأبطال وتجلية نمط إدراك الشخوص للذات وللعالم. يقول بيير ماشيري في هذا السياق:»إن العمل الأدبي لا يرتبط بالإيديولوجية عن طريق ما يقول،بل عبر ما لا يقوله،فنحن عندما لا نشعر بوجود الإيديولوجية نبحث من خلال جوانبها الصامتة الدالة التي نشعر بها في فجوات النص وأبعاده الغائية، هذه الجوانب الصامتة هي التي يجب أن يتوقف عندها الناقد ليجعلها تتكلم» (1).
إن المحو باعتباره إسقاطا للتفاصيل وتكثيفا للخطاب في قصص سعيد منتسب لا يمكن اختزاله إلى وظيفة جمالية صرفية بقدر ما يضمر بعدا أطروحيا يؤشر على المقموع والمغيب عنوة. فالخطاب الممحو يقتضي ماح متسلط يقبع في خلف الصورة وسياق قمعي أنتج فعل المحو.قمع يخفي بالجوار سلط متربصة ولا حصر لها..والكشف عن هذه الأحواز قمين بتجلية حجم الكبت والإحباط وسعة القمع..علما أن مجمل أبطال هذه الأضمومة قدموا مشلولي الإرادة بل ومخدرين أحيانا إما بفعل قمع خارجي وموضوعي أو بفعل داخلي استأسد بفعل التنشئة الاجتماعية والتي تربي الفرد أحيانا على طأطأة الرأس وكبح للرغبة الأمر الذي يجعله فريسة المعاناة والخيبة والشقاء..
1-عتبات المجموعة: أ-عتبة العنوان: جزيرة زرقاء: الجزيرة كفضاء تؤشر عادة على ذاك الحيز المشمول بالهدوء والوداعة، مكان للفطرة والوعي الأولي للإنسان..ونستحضر في هذا المقام»حي بن يقضان»لابن طفيل..الجزيرة كذلك فضاء لتحقيق الأحلام والرغبات المنفلتة باستمرار ،ونحيل هنا على الأمواج التي حملت»أشيل»إلى الجزيرة البيضاء حيث ارتبط ب»هلين»وعاش حياة رغدة بعيدا عن تطاحن وصراع المدينين.بل إن الجزيرة في مجمل الثقافات البشرية تحمل دلالات ايجابية إلا في ما ندر. ففي الثقافة اليونانية ينتسب «زيوس» اله الآلهة إلى جزيرة مقدسة تحسب على الأماكن الخارقة كما تمثل شبه الجزيرة الايبرية فردوسا مفقودا للبعض بل ووجهة الشباب الإفريقي الحالم بالمجد والثراء..جاء في معجم الرموز»الجزرة هي المكان الذي لا نصله إلا بالطيران أو العوم.هي رمز لمركز روحي وبشكل أدق مركز روحي أزلي.»(2) أما اللون الأزرق المسند للجزيرة فهو أعمق الألوان، بالنظر إليه تتعمق الرؤية ونضيع في اللامتناهي..لون شفاف وكأنه فراغ مجمع. الأزرق كذلك هو أبرد الألوان وأكثرها صفاء خارج الفراغ المطلق للأبيض المحايد. الأزرق من زاوية ثالثة ينزع البعد المادي عن كل الأشياء الحاملة للونه فحائط أزرق مثلا يتوقف عن كونه حائطا. أقصد أن الأشكال تضيع في الزرقة وتغرق ويغمى عليها كعصفور أزرق في السماء. الدخول في الأزرق هو تقريبا الذهاب والإقامة في الجانب الآخر من المرآة. الأزرق هو طريق الحلم ، معه التفكير الواعي يترك مكانه شيئا فشيئا للاوعي..وبخلاف كل هذا يأخذ اللون الأزرق في الثقافة الشعبية صفة سالبة.فالوجه الأزرق هو كناية على كائن يتوجه نحو الموت..وبين الدلالة الأولى والثانية توزعت دلالة قصص هذه الأضمومة.
عتبة لوحة الغلاف:
ب- يمتد لون زرقة الجزيرة للوحة الغلاف حيث يحضر اللون الأزرق في شكل عريضة قائمة تتقاطع أفقيا وعريضة رمادية.في الثلثين السفليين من غلاف الواجهة تحظر لوحة عبد الكريم الوزاني.لوحة تعطي الانطباع وكأنها حائط متشقق به تصدعات عدة..حائط نبتت بوسطه ورقة صبار حمراء شائكة تنبئ المتلقي بفعل وخز محتمل.وهو بالفعل ما يقع عندما ننتهي من قراءة جملة من قصص هذه المجموعة المختومة إما بالانتحار أو الجنون،الانتقام أو الخيانة وما شابه من التيمات الدرامية..
2- شعرية المحو أو قانون الندرة والتلميح:يقوم السرد المسهب والتفصيلي أحيانا بفعل خنق الحكي لأنه يحد من فعالية خيال القارئ جراء استبداد السارد بالكلمة..سارد يريد أن يقول كل شيء..وبخلاف هذا فالحكي المشبع بالحذف والمحو،سرد صحي لأنه مناقض للاسترخاء والطمأنينة..فهو يحفز القارئ على ملاحقة امتدادات الخطاب ويتطلب يقظة قصوى من لذن السارد ومن خلفه القاص في قول ما يجب قوله فقط..وسرد مماثل هو بالذات ما يجعلنا نعيد النظر في قيمة الفراغ الجمالي للكتابة وقانون الندرة ومناطق الهمس والصمت.فالقص الذي يراهن على الحذف والمحو والبياض يستطيع من جهة تحرير المعنى من سجن المكتوب ومن جهة ثانية تشتيته على المحذوف والمغيب وتخليصه من سلطة تطابق النص المكتوب مع المرجع.علما أن هذا التطابق مبتغى مستحيل التحقق.إن محو التفاصيل وإسقاط الكثير من الأحداث أصبحا إحدى آليات اتساع النص وبات الحديث عن سمك الخطاب بدل طوله. ففي قصة «موعد»مثلا (ص7) كانت نصف ورقة من الحجم المتوسط كافية للسارد كي يفتح لنا شرفة على سيرة الفقدان التي تتلبس حياة الإنسان المعاصر. جمل سردية على قلتها فتحت جراح الألم جراء إخلاف البطل موعد التصالح مع نفسه.فباتت حياته مليئة بالثقوب والغياب حيث حاول استعادت زمنه الجميل دون جدوى..الأمر الذي جعله أسير التذكر والاستيهام عله يعوض ذاك الغياب الفادح لشخوص تسكن قرارة وجدانه. فسارد قصة»موعد» يسترجع عشرين سنة من خلال فعل التذكر في أقل من سبع جمل..علما أن فعل التذكر فعل تراجيدي لأنه ينعي الأنا المتذكرة والتي توفت في زمن مضى وانقضى محاولا إحياؤها دون الاهتداء إلى ذلك.إذ يجد السارد نفسه في نهاية القصة مرتهنا للفراغ والغياب.يقول السارد في ص7:»لمحتها واقفة في محطة الحافلة.فرفر قلبي واهتز كياني وهاجمتني الذكريات(...)دخلنا الجامعة بأحلام تهز الجبال.خرجنا منها بهموم واسعة وأثقال(...)كانت تنتظر الحافلة»هل أكلمها؟»»هل تذكرني؟»(...)أكملت طريقي،كأني أعوم في بحيرات من القطن.تجاوزتها بمأتي متر دون أن ألتفت.فجأة قررت أن أحدثها.استدرت.قطعت المسافة ركضا.كانت المحطة فارغة.وحدها الشمس كانت تزغرد.وحدي كنت ألملم نفسي » هل لمحتها فعلا ؟ »
إن قصص بهذا التكثيف تضعنا أمام مفارقة حقيقية وهي قصر الحجم الكمي مع القدرة على احتواء قضايا كبرى وأسئلة مركبة من قبيلة سؤال المصير والمآل والهوية و الوجدان..قصص تعري الأحشاء وتفتح الجراح والندوب ومن ثم تعمق إحساسنا بماهية الحياة.قصص توحي أكثر مما تحيل وترمز أكثر مما تصرح وبسبب ذلك توفقت في استغوار مناطق معتمة في قاع الوجدان..إن اعتماد المحو على إسقاط التفاصيل والأحداث الثانوية يولد خطابا مكثفا بالغ السمك الأمر الذي يجعل المدلول أكثر امتدادا من الدال.فضلا عن كون تقنية المحو تسرع من إيقاع السرد وتشرك المتلقي في ملأ الفراغات والفجوات الدلالية.كما تكسب الخطاب نكهة شعرية.لنتأمل قصة «العاشقان» التي تختزل تعارض مسار الرجل عن المرأة جراء اختلاف وجهة نظر كل واحد منهما حيال العلاقة العاطفية في جمل غاية في الكثافة.يقول السارد في ص63:»بسمة فوق الخد،اليد ترتاح على اليد،فنجان القهوة يراقص عصير الليمون،يعانقه يتهامسان.قال لها:أحبك./قالت له:متى نتزوج؟/ قال: أحب عطرك،عطرك جذاب./قالت متى نتزوج؟/نظر مليا في عينيها،ذابت البسمة وارتخت اليد.فنجان القهوة بارد.عصير الليمون ساخن.هبت الأقدام..وانتشرت الظلال..»إن اكتفاء القاص بهذه اللقطة السريعة والمنتزعة من صيرورة حياة الإنسان حتمت عليه محو الكثير من الجزئيات والتفاصيل إلى حد أن المفردة الواحدة أضحت تلخص موقف المرأة من الرجل وتفصح عن للاوعيها الراغب أشد ما تكون الرغبة في شرعنة الارتباط به ..بخلاف الرجل الذي نشبت بمفردة الحب في مجمل أجوبته وكأني به يؤمن»بأن الحب قل ما ينشأ بين متزوجين بخلاف حب العاشقين اللذين يهبان بعضهما كل شيء طوعا واختيارا بعيدا عن تأثير كل ضرورة أو قسر، أما الزوجان فهما ملزمان بحكم الواجب أن ينزلا نزولا عند رغبات بعضهما وألا يضن أحدهما بشيء على الآخر.»(3)
نخلص من هذه القصة الممحوة التفاصيل إلى تقابل دال جدا بين مفردة حب وزواج.تقابل يفقد الحب عنفه وزخمه إلى حد يمكننا الخلوص إلى أن الحب المتوج بالسعادة لا يلهم بخلاف الحب المختوم بالنهايات التعيسة..وهذا النمط من الحب وحد القادر على إدخال أصحابه لصفحة التاريخ ولعل علاقة كيلوباترا بمارك أنطوني تصلح مثالا لهذا التعالق فضلا عن عشق آنا كارنينا لفرونسكي في رائعة تولستوي.
3- كثافة القصة الومضة من كثافة الحلم: يتصف الحلم عادة بلغته اللعوبة والمتلفعة ورموزه الزئبقية..عدة سردية مركبة تقول شيئا وتعني شيئا آخر، لأن الحلم في الأصل خطاب مكثف ورمزي وشذري-يشبه تماما القصة الومضة-الأمر الذي يجعل معناه منفلتا وهاربا باستمرار وهذا ما يستدعي تأويله..إن كثافة الحلم ترجع لضيق زمنه قياسا وكثرة الرغبات الواقعية المعلقة.فضلا عن كون الحالم يلعب دور الممثل والكاتب والجمهور والناقد في ذات الآن .فقط هذا لا يعني أن الحالم يتحكم في حلمه،بل العكس هو الذي يقع..علما أن ثمة تعالق بين المحفزات الواقعية أو البقايا النهارية وما يتم استدعاه ابان أحلام النوم.وكأني بالحالم يود تصفية حسابه بما ظل عالقا في حالة اليقظة.يقول السارد في قصة»جريمة»ص11:»ينتظرهافي المقهى.ساعة .ساعتان.لم تأت.ينتظرها في البيت.ساعة.ساعتان.ليلتان.لم تأت.نام وجدها في حلمه جثة هامدة.أفاق السكين في يده.وبقايا عتاب ودم.» توحي نهاية هذه القصة أن الحرمان يقف خلف الحلم كما الكتابة.علما أن اشتغال الحلم على الرموز يعود بنا لطفولة البشرية حيث كانت لغة الكلمات في طور التشكل وكان التواصل بالرموز هو السائد ...إن امتشاق البطل للسكين في حلمه- وهو رمز الاختراق والقوة- يحيل على الرغبة في استرداد فحولة مهيضة ومحبطة جراء غياب اللقاء وبقاء البطل في حالة انتظار مؤذ ومذل.لكن هل يمنكننا هنا اعتبار هذا الإشباع الهلوسي للرغبة نوعا من البحث عن التصالح مع الذات كيف ما اتفق ؟ أم أن هذا الحلم يمثل إحدى تجليات الأنانية المطلقة؟علما أن الحلم في نهاية الأمر ما هو إلا أحد مرودي الرغبة المتمنعة وصنمية الواقع.غايته الكبرى هي الانفلات من صرامة الالتزام و المسؤولية بغاية إبرام صك صلح مع رغباتنا المجهضة.يقول فردريك كوسان:»يعتبر الحلم رمز المغامرة الفردية الضاربة بعمق في حميمية الوعي الذي يهرب عن صانعه بنفسه.فالحلم يبدو كما لو أنه التعبير الأكثر سرية والأكثر خصوصية لأنفسنا»(4) إن احتفال شخوص هذه المجموعة بالحلم ناتج على خلفية وعيهم بصنمية الواقع لأنه يمثل زمن تحقق الرغبة ويمنح صاحبه فسحة النيل من الواقع الجارح.إذ أن التوجه للحلم وان كان لا إراديا فهو دليل قاطع على وجود جرح خلفه وسبب هذا الجرح هو الواقع بالذات.وبالتالي يمكن اعتباره لحالم كائنا جريحا لا يلبت يتهرب من تقرحاتها التي لا تبرأ أبدا.الأمر الذي يجعل الحلم مرآة كبرى تعكس الرغبات من جهة أولى ومن جهة ثانية تعكس الكدمات و الأعطاب التي تفوح منها رائحة نضج الرغبة على نار اللاشعور.يقول سارد قصة»أحضان»ص39:»الدمية الجميلة تضحك،لا تسدل العيون/كانت تحلم في حضن الصبية.ضحكت الصبية الصغيرة،كانت تحلم في حضن أمها.ضحكت، المرأة،كانت تحلم في حضن زوجها ضحك الرجل،باتت في خياله امرأة لا تشبه زوجته.»نستشف من هذه القصة المكثفة أن سائر شخوصها يعيشون في حلم يقظة مسترسلة. والقول بأن الفرد يعيش حالة حلم يقضه أو نوم يفيد أن ثمة قمع وكبت في الجوار جراء وجود رقيب معين.مع وجوب الإشارة إلى أن حلم الرجل كان معبأ بشحنة عاطفية متوترة بدا كما لو أنه نزيف قواه موضوع الرغبة المبعد.وهذا ما يعطي للحلم هذه القوة السحرية في اختزال الأزمنة والأمكنة واستدعاء البعيد و يتوفق عادة في خلق توازن بين الكائن والمأمول .الأمر الذي يجعلنا نعتبر الحلم هو أسطورة الفرد بينما الأسطورة هي حلم الجماعة.يقول فرويد:»في الغالب يشمل محتوى الأحلام شخصية أو قيمة غائبة وهذا الغياب هو ما يستدعي التأويل والربط بين عناصر الحلم المتناثرة.»(5) لكن ألا يمثل العنوان مفارقة مع نهاية القصة؟أقصد هل يمكننا الحديث عن حضن دافئ للرجل وهو يعيش في غربة عن من يحلم بها؟ وهل هذا يعني أن الحرمان بالضرورة منتج لبذرة الحلم؟أم أن الرجل يظل مسكونا بصورة الأم مدى الحياة ويقضي عمره في البحث عن شبيه لها دون جدوى ليمسي تاريخه الوجداني لعبة هروب كبرى من امرأة إلى أخرى إلى ما لا نهاية.لنتوقف عند هذه القرينة القصصية من قصة «فيض»( ص69):» قالت له «تعال تنام»أعطى وجهه للحائط اقتربت منه انكمش مثل القنفذ تلغم وجهها..»إن انكماش الرجل يذكرنا بوجهة نظر فرويد الذي يعتبر «النوم من وجهة النظر الجسمانية .استذكار للإقامة في جسم الأم وتحقيق لبعض شروطها الوضعية الساكنة،الدفء،والابتعاد عن التنبيهات،بل كثيرون هم الأشخاص الذين يتخذون أثناء رقادهم وضعية الجنين البدئية.وتتسم حالة النائمين النفسية الانسحاب شبه كامل من العالم المحيط وبإلغاء كل اهتمام به.:(6) لكن إذا كان التوجه للحلم هو في العمق خيار لمراوغة العجز الواقعي واستبدال الحرمان بالإشباع ولو بالقوة قصد ترميم نذوب الذات ورثق جروحها اللامتناهية..فانه بالموازاة لكل هذا مخرج سلبي ومخادع لطبيعة الصراع..بحيث لا يعدو كونه إشباع زائف لرغبة حقيقية وتحوير لصراع ينبغي أن يحسم على أرض الواقع..فالاكتفاء بتحقيق الإشباع على مستوى الحلم يجعل من الواقع يبقى على ما هو عليه..وبالتالي قبول الحالم بالاختلال والاستمرار في التنازل عن حقه في عيش سوي.يقول السارد في قصة «نسيان» ص71:»بالأمس كان يدخل غرفته التي لا تدخلها الشمس.يستلقي على الفوتي القديم.يقرأ القصص والروايات،يحلم بعروس جميلة ومرتب ضخم وبذلة رائعة.الآن،يدس يده في جيبه،يخرج المرتب الهزيل،يشتم فيه رائحة العرق(...)لم تعد له غرفة(...)يعمل مثل بغل(...)لم يعد يحلم.كان مشغولا جدا بعلب الحليب والقماطات والنسيان.» نخلص من هذه المقاربة إلى أن أهم سمات الكتابة الممحوة التفاصيل هي اعتمادها على المفردة كوحدة سردية بدل الجملة،الأمر الذي يجعلها تتقاطع وكثافة الشعر.إذ أن المفردة تصير ذات إيماءات متعددة حيث يهيمن البعد الاستعاري في الكتابة وهذا يمنح المتلقي فسحة أرحب للتأويل.كما أن الرهان الجمالي للمحو بالمعنى أعلاه ينتج لنا كتابة مرتهنة في الغالب للتأمل الفلسفي العميق.فأن يكتب القاص وهو يمحو الكثير من تفاصيل سروده معناه أولا تكثيف قصه وتضعيف دلالته وثانيا فتح عبارته على هوامش وبؤر عميقة من المعاني المسكوت عنها.كتابة تتأسس على خلفية اكتفاء السارد بالتلميح وفق ألاعيب السرد وتقنياته ومكر اللغة وتكتمها...
إحالات:
(*)جزيرة زرقاء »سعيد منتسب- قصص-منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب-2003.
1-نقلا عن مقالة»الإيديولوجية في الرواية »لعبد الجليل الأزدي- مجلة علامات.العدد 7/1997-مكناس المغرب.ص103/104.
2-Dictionnaire des symboles-Gean chevalier. Alain cheerbrant.edition1982.p519.
3-طوق الحمامة-ابن حزم.تحقيق الأستاذ حسن كامل الصيرفي.المكتبة التجارية القاهرة.1968-ص6
4-Dictionnaire des symboles..p519. -
5- le rêve et son interprétation .Sigmund Freud .traduit de l allemand par Helene Legros .Gallimard.1925-p47.
6-علم ماوراء النفس-سيغموند فرويد-ترجمة جورج طرابشي.دار الطليعة بيروت1979-ص95.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.