يجب القطع مع المقاربات التي كانت شائعة في الستينات حول أهمية الأمن الغذائي والدور السيادي الذي يلعبه بالنسبة للدول، واليوم قد تغيرت المفاهيم والتصورات بشكل كبير، ومع دخولنا في اقتصاد العولمة وتحرير الأسواق ، انقلبت رأسا على عقب جميع النظريات السائدة ، وهو ما حتم إعادة ترتيب الأولويات بالتوجه إلى القطاعات المربحة و ذات القيمة المضافة العالية.. وعليه، فإن الفلاحة ليست بالضرورة وسيلة لتحقيق جميع حاجيات الأمن الغذائي ، بالنسبة لنا في المغرب تمكنا من تغطية حاجياتنا الاستهلاكية أو على الأقل الجزء الأكبر منها في مجموعة من المجالات : اللحوم الحمراء ولحوم الدواجن والحليب ومشتقاته - وإن ظل استهلاكها الوطني دون المعدلات الموصى بها دوليا سبع سنوات مرت على انطلاق مخطط المغرب الأخضر الذي وضع من بين أولوياته النهوض بأوضاع المعيشة في العالم القروي.. إلا أن المقاربة الشمولية والمندمجة التي تمزج بين التنمية الفلاحية والتنمية القروية، مازالت متعثرة في الوصول الى الحياة اليومية لساكنة البوادي.. هل ترون أن هناك حاجة ماسة إلى مراجعة النموذج التنموي للسياسات العمومية في هذا المجال؟ أتفق معك، لقد وصل مخطط المغرب الأخضر إلى منتصف الطريق، وأعتقد أن البادية مازالت في حاجة إلى مخطط تنموي شامل، صحيح أن هذا المخطط الفلاحي قد أعطى نفسا جديدا للاقتصاد، وساهم في تحسين مجموعة من السلاسل الإنتاجية، كما ساهم إلى حد ما في الرفع من دخل العديد من الفلاحين.. غير أننا نؤمن بأنه لا تنمية قروية بدون تنمية فلاحية، كما أنه لاتنمية فلاحية بدون تنمية قروية، وجميع السياسات العمومية التي وجهت لهذا القطاع، منذ الاستقلال الى اليوم، تمحورت حول أربعة أهداف رئيسية، أولها تلبية حاجيات البلاد من المواد الغذائية الأساسية، وثانيها جعل الفلاحة رافعة لجلب العملة الصعبة عبر التصدير، وثالثها رفع دخل الفلاح وتحسين قدرته الشرائية لحفظ كرامته، و أخيرا عصرنة البادية وتحديث بنياتها. إلا أننا في هذه النقطة الأخيرة بالذات، مازلنا متأخرين.. وقد كانت حكومة التناوب قد انتبهت إلى هذا التأخر و إلى ضرورة الربط العضوي بين السياسات العمومية الموجهة للفلاحة من جهة، وتلك الموجهة للنهوض بالعالم القروي من جهة أخرى، وهو ما جعلها تباشر هذا الملف بمقاربة شمولية عبر خلق وزارة "الفلاحة والتنمية القروية"، غير أنه مع مرور الوقت وتعاقب الحكومات حصل نوع من الفتور في تطبيق هذه المقاربة المندمجة.. وبغض النظر عن الفلاحة، نجد أن العالم القروي مازال يشكو من خصاص كبير على مجموعة من المستويات ، ففي العديد من البوادي ما زال هناك تأخر ملحوظ في فك العزلة عن الساكنة ، وما زال ثمة نقص كبير في العديد من البنيات التحتية والمرافق الأساسية.. ونلاحظ اليوم كيف أن السياسة الحكومية الحالية متجهة بشكل أقوى نحو تنمية الحواضر و المدن التي تبتلع القدر الأكبر من الاستثمارات العمومية، حتى أن هذه الحكومة فكرت في تخصيص وزارة تعنى بسياسة المدينة في حين أنها أغفلت إحداث وزارة تعنى بسياسة القرى : السكن الاجتماعي حكر على المدن، كما لو أن سكان القرى في غنى عن هذا النوع من السكن، وقس على ذلك في قطاعات التمدرس والصحة وغيرها..صحيح أن هناك مجهودا استثماريا كبيرا يبذل منذ سنوات في هذا الاتجاه، إلا أن الاستثمار في البوادي مازال دون مستوى طموحات وانتظارات سكان المناطق القروية والجبلية، الذين يستشعرون حجم الخصاص، فهناك فرق شاسع في المعيشة ما بين المدينة والبادية، بل وحتى بين البادية والبادية، مازالت هناك تفاوتات مجالية هائلة.. نحن في حاجة ماسة إلى الاجتهاد و إلى تطوير سياسات مبتكرة ..لماذا مثلا لا تتم تنمية السياحة الخضراء الموجهة نحو الجبال و القرى التي تحفل بثروات سياحية هائلة مازالت للأسف مهمشة..؟ ومع ذلك أملنا كبير في إنجاح مشروع الجهوية المتقدمة.. لقد حان الموعد للدخول في سياسة هادفة لجر القرى والمناطق النائية للالتحاق بركب الحداثة والعصرنة، وبالتالي يجب أن تكون هذه هي أولوية الأولويات خلال العشر سنوات القادمة، حتى نقلص من حجم التفاوتات والتناقضات الصارخة بين مناطق المملكة. ونحن اليوم على مقربة زمنية من الاستحقاقات الانتخابية ، حذار من أن نسقط مرة أخرى في المزايدات السياسوية التي تترك جانبا المشاكل الحقيقية للعالم القروي، وتغرق في الصراعات الضيقة ، وتمطرنا بالوعود الجوفاء، بدل تقديم برامج وحلول مبتكرة لمشاكل البادية عبر نهج سياسة القرب وبأهداف مرقمة و بجدولة زمنية واضحة.. "التجميع" من بين الأهداف الكبرى التي كان يراهن عليها مخطط المغرب الأخضر، لخلق نواة فلاحة تضامية يستفيد منها الفلاحون الصغار والكبار على حد سواء، غير أنه بعد هذه السنوات السبع ، يبدو أن هناك صعوبة حقيقية في تنزيل هذا التصور الى أرض الواقع.. كيف يمكن تجاوز هذا الإشكال؟ أولا يجب أن نذكر بأن "التجميع" ليس ظاهرة جديدة أو دخيلة على النشاط الفلاحي في بلادنا، ربما يكون المصطلح حديثا، ولكن الممارسة في حد ذاتها ترجع إلى عقود خلت، الفلاحة التضامنية كانت دائما حاضرة منذ زمن في حياة المزارعين ، وأجدادنا في الماضي كانوا يمارسون فلاحة جماعية بأساليب وأشكال مختلفة مرة على شكل "التويزة" وأحيانا أخرى عبر جني الغلة وحصاد المحاصيل جماعيا ، كجني الزيتون، كما كان الحرث للصغير عادة قديمة .. وتبقى مقاربة التجميع التي تبناها المخطط الأخضر وحدد لها إطارا قانونيا وتحفيزيا ، فكرة جيدة على العموم، فقد عرفت نجاحا كبيرا في مجموعة من المجالات التي توفرت فيها الشروط الموضوعية لنجاحها، كما هو الشأن بالنسبة لقطاعات السكر و الحليب والفواكه والخضروات .. ويكفي هنا أن نذكر بأن عملية التجميع نجحت منذ بداية المخطط في تأطير 80 ألف فلاح لا يملكون سوى مساحات صغيرة جدا من استغلاليات الشمندر.. و نفس النجاح عرفته تعاونيات الحليب التي يلتئم حولها فلاحون صغار يملكون في الغالب أقل من 5 أبقار و كذا تعاونيات الفواكه و الخضر. إن المشكل الحقيقي الذي مازال يعترض التجميع يكمن أساسا في زراعة الحبوب، وعندما نقول التجميع، يجب أن نستحضر ضرورة توفر ثلاثة شروط أساسية : أولها التمويل وثانيها التأطير و ثالثها شراء الغلة أو المنتوج بأكملها و بثمن محدد و معقول.. هذه العناصر الثلاثة إذا ما توفرت تكون عملية التجميع الفلاحي ناجحة بكل المقاييس، وهي العناصر نفسها التي تتوفر في قطاعات السكر والحليب والخضروات والفواكه.. غير أنها للأسف لا تتوفر في قطاع الحبوب ، على الرغم من أن هذا الأخير يحتل وحده 75 إلى 80 في المائة من المساحات الصالحة للزراعة، فهذا القطاع بالذات مازال هشا و خاضعا بشكل كبير للتقلبات المناخية ، كما أنه و بسبب عدم انتظامية الإنتاج، لا يحظى بالتمويل الكافي، سواء من طرف الأبناك التي تظل متخوفة من هذه التقلبات ، و الدولة نفسها ،تجد صعوبة في توجيه الدعم لهذه الزراعة التي تبقى مع ذلك ، شئنا أم أبينا ، هي العمود الفقري للفلاحة الوطنية، حيث ما زلنا نقيس نجاح الموسم الفلاحي من عدمه بكمية محاصيل الحبوب.. صحيح أن هناك بعض التجارب الخجولة التي تم إطلاقها في منطقة الشاوية، إلا أننا على العموم مازلنا أبعد ما نكون عن إنجاح التجميع في هذا القطاع. وهذا الإشكال هو ما دفع إلى بلورة مشروع مخطط جديد خاص لإعادة هيكلة سلسلة الحبوب ككل، وهذا المشروع جاهز حاليا ويوجد على مستوى رئاسة الحكومة، ويتضمن المخطط محورين بارزين ، ويقضي المحور الأول بأن تلعب المطاحن الدور الأساسي كمحرك في عمليات التجميع بما يقتضي الانخراط في إعطاء الأولوية لشراء المحصول المغربي من طرف المطاحن. بينما يعتمد المحور الثاني على إعادة هيكلة تعاونيات الحبوب المكلفة بالتسويق، والتي يوجد عدد كبير منها على مشارف الإفلاس ، حيث إن أكثرها مدين للبنوك بمبالغ هائلة ، على الرغم من التسهيلات والدعم المالي الهام الذي تحظى به من طرف القرض الفلاحي. وأنا شخصيا أعتقد أن إعادة النظر في سلسلة الحبوب أمر في غاية الأهمية ، ويكتسي صبغة استعجالية، وإذا لم يهيكل هذا القطاع فإنه من المرجح أن يكون له انعكاس سلبي للغاية على النتائج النهائية لمخطط المغرب الأخضر ككل ، علما بأن هذا القطاع هو الذي يضم أكبر عدد من الفلاحين بالمغرب ، أي حوالي 80 في المائة منهم. أما بالنسبة للمنتوجات المحلية فإنها مرشحة لنجاح أكبر إذا ما حظيت برعاية دائمة من الدولة ، لأن هذه الزراعات المحلية يجب ربطها بالاقتصاد الاجتماعي الذي يساهم في تحسين دخل المنتجين الصغار ، لاسيما وأن الطلب مافتئ يزداد يوما بعد يوم على هذه المنتوجات كالأركان و الورد و الزعفران و عسل النحل والنباتات العطرية والطبية.. كلها منتوجات ذات قيمة مضافة عالية ستساهم مستقبلا في إغناء الفلاحة الوطنية التي هي في واقع الأمر ليست فلاحة واحدة، بقدر ما هي فلاحات متعددة يجب تنميتها بشكل مندمج وتحفيز منتجيها وتأطيرهم وحمايتهم من القرصنة.. من يطلع على سلة الواردات الوطنية ، يكتشف دونما عناء أن المغرب مازال أبعد ما يكون عن تحقيق أمنه الغذائي على الرغم من كونه بلدا فلاحيا، كما أن الناتج الخام الفلاحي مازال دون المستوى الذي يؤهله لخلق الفارق في وتيرة النمو الاقتصادي للبلاد..كيف تفسرون الأمر؟ أولا يجب القطع مع المقاربات التي كانت شائعة في الستينات حول أهمية الأمن الغذائي والدور السيادي الذي يلعبه بالنسبة للدول، واليوم قد تغيرت المفاهيم والتصورات بشكل كبير، ومع دخولنا في اقتصاد العولمة وتحرير الأسواق، انقلبت رأسا على عقب جميع النظريات السائدة، وهو ما حتم إعادة ترتيب الأولويات بالتوجه إلى القطاعات المربحة و ذات القيمة المضافة العالية.. وعليه، فإن الفلاحة ليست بالضرورة وسيلة لتحقيق جميع حاجيات الأمن الغذائي، بالنسبة لنا في المغرب تمكنا من تغطية حاجياتنا الاستهلاكية أو على الأقل الجزء الأكبر منها في مجموعة من المجالات : اللحوم الحمراء ولحوم الدواجن والحليب ومشتقاته - و إن ظل استهلاكها الوطني دون المعدلات الموصى بها دوليا - والكثير من الخضر والفواكه ..وهذا أمر جيد ، ولكنه لا يجبرنا بالضرورة على تحقيق نفس الانجازات في جميع الزراعات ، كما هو الشأن بالنسبة لزراعة الحبوب وزيوت المائدة مثلا والتي لا يمكن أن يكون لدينا اكتفاء ذاتي منها مهما بلغت مردودية المساحات المزروعة ..لذلك أعتبر أنه من الخطأ استمرار بعض المقولات المغلوطة التي تصور المغربي كمستهلك يعيش على الخبز والشاي فقط ، هناك حاجة إلى تنويع العادات الغذائية للمغاربة، وهي سائرة في التحول، وهذا أمر طبيعي .. حتى في الصين بدأت هيمنة الأرز تتراجع.. صحيح أنه يجب البحث عن رفع المردودية لتقليص وارداتنا من الحبوب وهذا المبتغى لا يمكن أن نصل إليه إلا عن طريق البحث العلمي ومؤهلاتنا في إنتاج الحبوب يمكن أن تتحسن أكثر ، والدليل هو أننا بفضل البحث والتقنيات تمكنا من الانتقال من إنتاج 500 ألف قنطار من البذور المختارة إلى 1.5 مليون قنطار، أي بمعدل يفوق 300 في المائة ومازال هامش التحسن متوفرا طالما تطورت التقنيات و تطورت معها البذور المختارة المستوردة يمكن أن نصل إلى إنتاج 120 مليون قنطار مليون قنطار من الحبوب الاستهلاكية، كما يمكننا التغلب على المواسم العجاف بتطوير واستعمال بذور مقاومة للجفاف..وقد لاحظنا كيف أن تطورت مردوية زراعة السكر منذ بداية مخطط المغرب الأخضر حيث كنا نستخرج 5 أطنان من الهكتار ، اليوم وبفضل تطور البذور و التقنيات العالية ، أصبحنا نستخرج 10 إلى 13 طنا من الهكتار الواحد ، لذلك أنا أدافع بشراسة عن ضرورة الخروج من الفلاحة التقليدية و التوجه نحو الفلاحة الحديثة بالاعتماد على التأطير والتكوين واستعمال التقنيات العصرية. مازال الهامش كبيرا للرفع من مردودية الحبوب وزيوت المائدة التي مازلنا نستورد منها 95 في المائة من حاجياتنا، وما زال هناك هامش أكبر لسد الخصاص الكبير الحاصل في زراعات البقوليات من عدس و حمص والجلبان والفول التي تراجعت مساحاتها المزروعة والنتيجة أننا اليوم أصبحنا نستورد معظم حاجياتنا منها من الأسواق الدولية ..بسبب هذه الفراغات يجب أن نجتهد خلال ما تبقى من المخطط الأخضر في تقويم الاعوجاج في هذه القطاعات.. إن الأمر لا يتعلق بتقديم وصفات جاهزة ولا بإنجاز المزيد من الدراسات، إذ يعتبر المغرب من أكثر الدول إنجازا للدراسات، وإنما يتعلق بالقيام بتحليل موضوعي لمواجهة الثغرات القانونية ونوفر، على غرار الدول التي سبقتنا في الميدان، إطارا قانونيا أو قانونا توجيهيا يحدد الأهداف والوسائل ومواعيد التقييم، فمهما يكن فإنه لا يمكن تقييم نتائج المخطط اعتمادا فقط على حجم الاستثمارات وعلى عدد مناصب الشغل التي وفرها وإنما اعتمادا على قيمة الأرباح التي حققها الفلاح الصغير وعلى مستوى تقلص حجم الواردات، ومن هنا فإن الصراحة تقتضي التأكيد على أن وزارة الفلاحة ليست مسؤولة بمفردها، فهي لا تحرث ولا تحصد، فلا يمكن أن نحاسبها على كون الأمطار لم تسقط بالمستويات المطلوبة في الأوقات المطلوبة، وإنما نحاسبها على طريقة التدبير، ومن هنا تبرز مكانة المقاربة التشاركية الجادة والحقيقية لكي نكون معا مسؤولين عن النجاحات وعن الإخفاقات، فما نسجله هو أن القوانين التي تهم الصغار هي التي تأخرت ولم تصدر بعد، علما بأنها هي التي يرتكز عليها التمويل والتأطير، وإن كنا نسجل بكل فخر واعتزاز الانجازات التي تحققت حتى الآن في إطار المغرب الأخضر ، فإننا نتوخى في المقابل أن تتجه الجهود والاهتمامات إلى إيلاء عناية أكبر بالمشاريع التي تهم صغار الفلاحين الذين يمثلون غالبية النسيج الفلاحي بالبلاد ونقصد بذلك: إيجاد حل لإشكالية التسويق وحماية الفلاح من المضاربات و دعم الفلاحين الصغار و الانكباب على إنجاح عمليات التجميع والنهوض بالتعاونيات الفلاحية والهيأت المهنية..