في روايته الجديدة «لا سلّم يتيح الصعود إلى الطابق فوق السفلي» يعيد الأستاذ عبد الله العكوشي طرح إشكال الترقي الاجتماعي عبر التحصيل العلمي، باعتباره مجرد وهم تدحضه قوة الوقائع، فكما أنه شخّص في روايته الأولى «شغب الذاكرة» معضلة جدوى معارف يكد المغاربة العمرَ في تعلمها والحال أنهم قد لا يحتاجونها لا في الحياة العامة ولا في الوظيفة، في حال الحصول عليها. لا لأن معارفهم، غير نافعة ولا وظيفية وحسب، بل لأنه ليست أمامهم مجالات للاستفادة منها. وهاهو يحفر في السؤال أكثر متسائلا عن دور المنظومة التعليمية والمنظومة الاجتماعية في التغيير، بحيث يبدو اشتغالها كما لو كان مقصورا على إعادة إنتاج القيم التقليدية ذاتها من تحجر وفرز فئوي وطبقي في منأى عن أي نزوع للتغيير أو الإصلاح. إذ سيان أن يتعلم أبناء الفئات الكادحة أويظلوا على أميتهم، أن يشتغلوا بشهاداتهم الجامعية أو أن يعانقوا عطالتهم، ماداموا لن يرتقوا في سلاليم الوظيفة ولن تستفيد منهم الإدارة ولا المجتمع. يتم الاستدلال عن ذلك بحكاية شخصية نكرة(عبدو) تنحدر من منطقة «أحد العونات»(ككناية على المغرب العميق، بل وغير النافع) تسافر، بعد حصولها على شهادة البكالوريا في ثمانينيات القرن الماضي، إلى العاصمة (الرباط) قصد متابعة دراستها، بعد مباراة وطنية، في «المدرسة العليا للتكوين الإداري»، ورغم أنها تحدث كل العوائق المادية والنفسية والاجتماعية لتحصل، في الأخير، على شهادة محترمة وعلى عمل قار إلا أنها لم «تنجح» في «الصعود» إلى طبقة غير طبقتها، أو احتلال مركز قرار من شأنه تحديث الإدارة وأساليب اشتغالها، لأن معايير «الصعود» لا تدخل ضمنها الكفاءة، بل الترضيات والولاءات والعلائق الملتبسة. لا يتعلق الأمر بحكاية معزولة وإنما هي حكايات في حكاية،كلها تنتهي بإحباط وخيبة. منها حكاية «العوني»( وهو أحد زملاء الشخصية الرئيسية في الدراسة) الذي «لم يحالفه الحظ في الحصول على شغل رغم حصوله على الإجازة» فانتهى به الأمر إلى أن «ينشط في جمعية للمعطلين» ويخوض اعتصاما مفتوحا، بعدما أعيته الوعود العرقوبية والتسويفات من قبل «أهل الوقت». لقد كان، مرة، يعمل مياوما، و»مرة يبيع نسخ الكلمات المتقاطعة في المقاهي، ومرة يملأ الإقرارات الضريبية أمام المصالح الضريبة مقابل بعض الدراهم، وأحيانا يكتب مقالات الشكاوي للراغبين في التقاضي أمام المحكمة»(ص.98). وأكثر من ذلك فقد قادته الأوهام والأكاذيب إلى المشاركة في حملة انتخابية لأحد «المفسدين» الذي وعده بمنصب شغل وحين نجح تملص من وعوده له ولكل الذين صوتوا عليه، كما أن طوافه على المؤسسات والشركات كان، دوما، يقوده إلى احتقار «دبلومه» وكرامته الإنسانية. والأدهى أن «العوني» قر قراره، بعد كل هذا، على أن يلتمس من صديقة القديم(عبدو) مساعدته على إيجاد عمل، ظنا منه أن هذا الصديق بيده قرار «الحل والعقد» مادام يعمل في الرباط. والحال أنه مجرد «مأمور» يتهدده التوقيف والطرد في كل وقت وحين. وإذا كانت وضعية الهشاشة قد تشمل المتعلمين وأصحاب الشهادات والموظفين، في مغرب اليوم، فإنها، لامحالة، قد تسحق الفئات المحرومة من التعليم والإمكانيات بشكل أكبر، سيما وأنها غير مسلحة بما يكفي من الوعي والحصانة العلمية. كحالة السائق»مبارك السكَع» الذي أقل بطل الرواية، ومجموعة من أهل العونات، إلى الرباط، وعلى امتداد الطريق المزروع بالحواجز والمراقبين الأمنيين المرتشين، ظل يحكي لهم سيرته الأليمة في البحث عن سبل عيش كريمة، بدءا بمغادرته مسقط رأسه والالتحاق بالرباط، ظنا منه أنه يكفيه الوصول إلى العاصمة كي تعلو أسهمه في البلدة وفي الحياة، خاصة وأن مجرد ذكر اسم الرباط كان يفلق الصخر، أليست مدينة ل»المحزن» و»موالي الوقت»؟ وباسمه تساس أمور البسطاء في الأرياف البعيدة، فكلما ضاع حق أو مورس شطط تعلل مدبرو شؤون العباد بكونهم لا يقومون سوى بتنفيذ «تعليمات الرباط». حتى أن الشيخة صارت تتغنى بالرباط «اللي مشى لو حبيبو يمشي للرباط ويجيبو»(ص.12) وتتعدد الحكايات وتتشعب، كحكاية عبد النبي، خياط الأفرشة التقليدية،والجيلالي وعلال وقدور والميلودي وسواهم من «أولاد البلدة»، الذين يلتقون بالمقهى أيام الآحاد. كلهم نزحوا إلى الرباط تحت ضغط الفاقة والجفاف «مودعين قحط البلدة وهيفها، بكثير من الأمل في الحياة وبقليل من الزاد في الجيب»(ص.55) لينتهي بهم المطاف إلى الإناخة «في أحياء هامشية» ب»براريك مصنوعة من صفائح قصدير قديمة مملوءة ثقوبا...لا تحمي ساكنها لا من الحرارة في الصيف ولا من البرودة والماء في الشتاء». وكما تنعدم فيها الشروط الدنيا للعيش الكريم فإنها لا تصون حميمية ولا «حرمة بين الآباء والأبناء» ولا بين الأولاد والبنات ولا بين الجيران حتى. إنها الرباط ياصديقي..لا ترحم الضعفاء أبناء الضعفاء، ومهما بدت محايدة فإنها لا تني ترسم الأدوار وتضع الحواجز بين «ناس التحت» و «ناس الفوق»، بين «عائلات تملك كثيرا وفوق ما تتصور. عائلات النخبة. وهي تتكون من موظفي المخزن من رجال العسكر، والدين والعلم، وكبار التجار...»(ص.37) وعائلات من سلالات دنيا، سلالات كلاب وأولاد كلاب..ومساخيط الوالدين(ص.32). ولعل المدرسة، كما قال كريستيان بودلو وروجيه إسطابليت وألتوسير، هي إحدى المؤسسات الإيديولوجية للدولة التي تحرص على تكريس الميز في المجتمعات، الرأسمالية بالخصوص، لأن ما تمنحه من فرص، وما يمنحه المجتمع، لأبناء النخبة، ليس في متناول الفئات العريضة من أبناء الفئات المغلوب على أمرها. وهذا «الانتخاب والإقصاء» ليس استنتاجا وإنما كثير ما يتم الإفصاح عنه دون مواربة. ألم يقل المسيو هاردي(المراقب المدني الفرنسي) في اجتماع رسمي ضم جماعة من المراقبين بمكناس سنة 1920: «...وهكذا. فنحن ملزمون بالفصل بين تعليم خاص بالنخبة الاجتماعية، وتعليم لعموم الشعب. الأول يفتح في وجه ارستقراطية، مثقفة في الجملة، متحضرة ومهذبة...إن التعليم الذي سيقدم لهذه النخبة الاجتماعية، تعليم تطبيقي يهدف إلى تكوينها تكوينا منظما في ميادين الإدارة والتجارة...أما النوع الثاني وهو التعليم الشعبي الخاص بجماهير السكان الفقيرة والجاهلة جهلا عميقا...في المدن فيوجه نحو المهن اليدوية وإلى الحرف الخاصة بالفن الأهلي...أما في البادية، فسيوجه التعليم نحو الفلاحة...» (ص.38). ولعل الخدعة الكبرى تكمن في اعتقاد البعض أن نجاحه في الولوج، عن طريق المباريات، إلى معاهد عليا مرموقة لتلقي تكوين متين، جنبا إلى جنب، مع أبناء الطبقات السائدة، قد يمنيه ب»الصعود» إلى أعلى، مادام «التساوي في التكوين لا يعني التساوي في المسار...» (ص.39). ورواية «لاسلّم يتيح الصعود إلى الطابق السفلي»،ليست رواية أطروحة، بحصر المعنى، ولكنها لا تخلو من دلالات جريئة وأطروحات صريحة أو مضمرة. يحاول من خلالها الدكتور عبد العكوشي تشريح الأعطاب التي تحول دون حصول تحديث حقيقي في البنيات والذهنيات، كما تلامس الثغرات في المشاريع السياسية والثقافية، في غياب إرادة فعلية للتغيير. والرواية وإن كانت تتسم بقدر من «القسوة» و»الأسى» على «الفرص الضائعة» على مجتمعات جراء اختيارات خاطئة وانتهازية فئات لا يعنيها شأن هذا الوطن، فإنها، في المقابل، تحذر من عقابيل العودة المستمرة إلى مربع البدايات، لما لذلك من مخاطر تتهدد «السلم الاجتماعي» وترهن مستقبل البلاد لفراغ من شأن التطرف والجريمة أن يكتسحاه بسهولة. ذلك أن خيبة «عبدو» لا تقتصر على فرد أحبطت مساعيه وتوقف طموحه في وظيفة لا تتعدى ملء فيشات واستمارات بوسع أي شخص آخر أن يقوم بها، وإنما هو انكسار حلم أسرة، ما لم نقل قبيلة بكاملها. فأب العوني الذي نصح ابنه قائلا « عليك أن تعرف بأن لاهدف لك في غربتك غير الدراسة ثم الدراسة» كان يؤمل في دراسة ابنه سقفا عاليا، فيما الأم كانت تظن أن دراسة ابنها شتنتشل الأسرة من «القهرة» وترفع رأسها في القبيلة،وتتخيل ابنها في منصب «غليظ» مع المخزن. سيشتري سيارة ويجلسها بجانبه ووو. لكن المستقبل بعثر أحلامهما، وأحلام أهل العونات،رجالا ونساء، الذين حرُِموا لا من مساعدة أبنائهم لهم وإنما أيضا من رؤيتهم. والغارب على الجرار كما يقال، فحتى «المعطي» الذي ما فكر يوما في مغادرة البلدة صار بدوره يحلم أن يتركها إلى الرباط..الرباط مجرد كناية بينما الحقيقة هي تجمعات عشوائية بئيسة في الضواحي المجاورة للعاصمة. والخلاصة أن «الضياع» في الرواية ،مادام الحال هو الحال، بات خطرا محيقا بالجميع. فحين تتكسر الأماني ليس هناك بد من «انكسارات حادة وفي أعمق الأعماق»(ص.114). إن الأمر لايتعلق بحالة معزولة وإنما بوضع عام خلخل الهرم السكاني المغربي ودفع الأهالي إلى هجرة الأرياف نحو المدن، في غياب شروط للاستقرار بالقرى وفي انعدام بنيات استقبال بالمدن تضمن لهم آدمية وكرامة. لا تكتفي الرواية بتسريد الوقائع بشكل كرونولوجي وإنما تعمد بين الحين والحين إلى تبئير مشاهد ووضعيات تهم مختلف مظاهر الحياة في البوادي والمدن، فيحضر فيها لفيف من المشردين والضحايا والانتهازيين وأبناء الأعيان والسماسرة والسكارى وبنات الليل وهلم شخوصا ووقائع. وقد هيمن على الحكي ضمير الغائب ، ماعدا في فصل «رسالة العوني» التي جاءت بضمير المتكلم ، وهما في الواقع ضمير واحد حتى في الكتابات السيرية، أو على الأقل شبه متماهيين. كما تناوبت اللوحات والفصول، في تناسق مدروس، مع استباقات واستعادات كسّرت رتابة السرد وقوّت من شحنات اللحظات المفصلية. بلغة تنوعت مستوياتها حسب المقامات والمواقف، فهي تبدأ تقريرية بحيث تمثل الإبانة همها الأول،لتنتقل عبر الوظائف الجاكوبسونية- نسبة إلى جاكوبسون- حتى تصل إلى ذروة الشعرية(يمكن التدليل على ذلك بشكل أكثر بروزا من الصفحة 82 إلى الصفحة 97) مع توظيف محسوب لبعض المفردات الدارجة ذات الشحنة المخصوصة التي قد لا توفرها اللغة الفصحى. علما بأن «الشعرية» تتبدى من خلال عتبة العنوان وباقي المناصات التي تؤطر اللوحات والفصول(بداية الحكاية، ، ماخاب من امتثل وقال نعم، من العونات إلى العاصمة، أمل من سراب، حلم عبدو،بعيدا عن العائلة، وصايا بداية المسار، حضور أولاد البلدة،لا اجتهاد مع وجود نموذج، انتقام من الوقت، رسالة العوني). ورغم النبرة الحزينة التي طبعت عوالم الرواية فإنها انتهت بما يشبه العزاء، لأن التاريخ سيحاكم الجميع وأن الذين «يحسبون أن لاشيء يمكن أن يقيّد في سجلات التاريخ بدون إذنهم، إنهم على غلط. لقد انتهى تاريخ المقررات». ولئن كان الكاتب قد توسل تقنيات التراسل والتخييل الذاتي فإن ذلك لمجرد الإيهام بواقعية روائية ليس إلا.إذ علينا أن نحترس من وهم التطابق بين الواقعي والتخييلي والدليل هو العتبة التي افتتح بها روايته. وهي مستمدة من رواية «زريعة البلاد» للكاتب الحبيب الدائم ربي، والتي تقول» لم تجرِ الوقائع بهذا الشكل الفج تماما. لربما تكون قد جرت بصيغ أخرى أكثر فجاجة، ومع ذلك فالكلام يعيد خلق الوقائع في حالاتها القصوى والشادة. فالسلومي لم يأتِ إلى «البنورية» هاربا أو مطرودا. إنه جاء فقط(هكذا بغى! سوق شي قواد؟) بشبه إرادة».