التماسيح نبتت في نهر تائه .. العفاريت تراه ولا يراها .. الحساد كثيرون .. طيور البُوم تعاني من تخمة الوليمة إياها .. والشاهد حلم عنيد جرَّه القدر القاسي في دروب الفناء!!! تمضي السنوات، تأتي أخرى، تتغير الأرقام، تتلاحق الهزائم والغصات ونفس المصير المقهور، يموت الإنسان، تبكيه الإنسانية .. يموت الطاغية ، ترتاح البشرية من حماقاته وتبكيه الرعية . وما باليد حيلة ، فقَدَ نَبْضُ الطفل الحي رعشة البراءة ، تاه يبحث عن ترياق ينقده من سم الخيانات ، قديما ، قبل لحظة الانتقال إلى الشقاء الجاهز ، قالوا له .. ستعيش زمنا يحكمه لصوص في هيئة الأرانب وتستأسد فيه ضفادع مستنقع يخفي وجهه تحت زهر مخادع . والقلب صورة بلاغية فاتنة بعيداً عن زحمة الأقنعة المشبوهة والجوْقات الرخيصة .. فيما الكلمات في عُرْف العشيرة مجرد قفازات ملاكمة خشنة تجهل معنى التحليق فوق بساط حسن النية و حتميات التأويل . أخذ نفَسا عميقة ، طرق باب الحياة طرقات مضطربة ، صمْتٌ ثقيل يملأ زوايا المكان،، على سبيل النسيان ، استحضر موت الدواخل ، لم يتسرع في الاحتماء باحتمالاته المكلومة، أعاد الإعلان عن حضوره، دقائق ثقيلة بعُمْر الانتظار المجاني الطويل، نفس الحياد والصمت و الموت ، أحنى رأسه، غادر يقينه دون أن يلتفت ليقرأ شاهدة القبر وحروفها الغريبة . قدموا له هدية من بياض الكفن و القلم والمنفى ، طلبوا منه الكتابة عن موت الورقة وأقنعة الخواء ، تركوه فريسة للذهول ولعنة الاستفسارات، ورحلوا. وزهرة الياسمين قبَّلتْ ريح العشي، اعترفت لفراشات الأندلس البعيدة ، قالت: "لكامل جسدي "الحساس" وقته الخاص، أتركه يتصالح مع هويته ، أمنح حبيبي فرحته المفترضة و لا أساوم !!! " وأوراق الشجرة التي لا اسم لها شهد بموتها الأعداء قبل العشاق ! دونما تفسير كتب إليها : "أعيدي لي همسي وقبلاتي وحروفي ورسائلي وكل أنفاسي الحارقة التي لا تكذب .. في كل البقاع ، لادفء يصل بيننا، لا حذاء يقاوم قساوة الطين وجهالة الوحل ، ما عاد في الوقت ما يستحق لعنة البوح و الفضح ، في حضرة الأقنعة وهذا الموت الأشمل ! ّ" قالت : جرحك قديم وفخاخ صمتي معطلة قال : كل نعجة تذبح من كراعها بالطريقة التي شاءت . قالت: في صحتك كوابيس الهروب الجبان وضريبة النسيان . قال: دخلتُ المعزل الخطأ، قررت وقد لا أصمد. أتعبته قراءة اللحظة ، قرر الخروج من اللعبة .. لم يساير الظلام في جهله التاريخي الموروث ، ساعات قليلة مع ارتعاشات الحب و دفء البوح الفاتن تكفيه لشحن بطارية القلب ومقاومة عهر الوقت السائد ، خاطب نفسه محفزا : " لا مشكلة ، ما زلت قادرا على الحلم والضحك " . في طريق الموتى ، على يسار القلب ، اختار إنهاء حيرة المهزوم اليائس ، وحيدا تحرك صعودا إلى الجبل ، بدا يسار الطريق مهجورا وطيور الظهيرة تيحث عن ظلال رحيمة ، وعلى اليمين .. طوفان بشري مسعور ينزل المنحدر، و سمفونية لغط ونهيق ونباح و نعيق وأقنعة زحام رجيم . لم يدر سبب النزول الغريب ، موكب سيارات رعناء ، سرب شاحنات مسعورة ، زعيق منبهات حمقاء ، و أمامه ، نحو ثلج القمة ، لا أحد شاركه نفس المسار سوى سلسلة انحرافات قاتلة و هاوية خطيرة في تنتظر ضحاياها المحتملين . لم يستسلم لقوة الطوفان ، جازف باختيار الاتجاه المعاكس ، خطا نحو الأعلى ، تذكر نواح السيدة " هجرتك "، وراح يغنيها للنوارس الجائعة المتوجهة نحو المرسى المفتوحة على بحر الظلمات. دون توقع ولا تغيير مصير ، جرف السيل الأحمق و معه هياكل الحيوانات والأشجار الميتة ما علق في زوايا جمجمته المظلمة من ترسبات الخيبات المشاع ، اقتلع الزلزال القادم بعنف جذور يأسه المدنس و ترك تحت الشقوق فزاعة بلحية شيخ سمسار . استغرب سيادة نظرات الشرود والفزع على وجوه من يعاكسونه المسير ، لم يجد قريبا يسأله عن أسباب النزول الجماعي، كبر صمته، صار سيفا صدئا يقطع أحشاء الحكاية، تسللت الغيوم بين رؤوس الجبال الموحشة، ورسمت لوحة سوريالية كئيبة . أصَرَّ على صعود الجبل مُحَمَّلا بالكثير من الشقاء الغامض ، بداخل جمجمته فراغ مظلم و أحلام طفولة بعيدة استحالت الآن لكوابيس تمنعه من التفكير الهادئ، وطوفان النازلين لا يتوقف ، أقدام تركض دون هدف محدد، وقطيع غارق في غيبوبة فاضحة . بِدُرْبَة بحَّار لا ينكسر ولا ينهزم ، طاوع الريح العمياء ليخرج من الدوامة بريشة طائر أسطوري يُهْديه فتنة الرقص ضد تيارات الغدر البليد !!! Haut du formulaire صحيح .. كان يحتاج إلى الكثير من جرعات الجرأة اللازمة لمعاكسة التيار الجارف ومواصلة الصعود حتى قمة الجبل، ربما يعثر على أجوبة تريحه و تكشف له سر هذا الانحدار الجماعي الهستيري للأسفل . دون إرادة منه ، منذ كان طفلا في بداية وعيه بأسباب الصراخ و الاحتجاجات الشائعة في الدروب و الحواري ، تسللت أيام العمر من بين أصابعه رملا لا قيمة له، تكرر صعوده للجبل و منحه المناعة اللازمة كي يدرك حجم الجرح و يستغني عن الانصياع لمشيئة الرعاة والسماسرة وغربان الشؤم المنتشرين في كل الجهات . تذكرَ هوية جرحه الموشومة.. وذاك الاستنطاق اليومي الرتيب لحلم نًسْرٍ رابض فوق ربوة مطاردات مجانية لا تتوقف ، لم يتعبه التفكير في تبعات معاكسة رعب دفين يدفع القطيع لمطاوعة الانحدار الغامض ، لكنه الآن يطلب راحة البال ، تستسلم ذاكرته لبياض الحياد والموت و يصعد الجبل دون وَهْمِ أن يصير فارس غزوات لا مبرر لها سوى مبايعة شيخ زاوية اختلى بتهيؤاته في خلوة خواء و عَماءٍ و بلادة . وكما يحدث في حلم جائع خائف ، التفت للوراء ، لم ير نهاية للصف المعاكس ، و على بعد عشرات الأمتار ، في اليسار ، رآها ، حسناء مثيرة تسر الناظرين ، استغرب لحضورها المفاجئ ، تقدمت نحوه واثقة من اختيارها وعلى وجهها ابتسامة ملغومة . قمة الجبل كوجه شيخ عابس أخفى ملامحه تحت ثوب أبيض مسروق من كفن الوقت البائد . في مزاد القلوب الصخرية ، شقائق النعمان تقبل غباء الصقيع ، يكبر الوهم ، تشتد طعنات الحنين ، تنبت أجنحة الموت فوق ظهر النمل المتعب ، تطير نحو المجهول ، تهجر سربها، تستسلم لجاذبية الخواء و تمضي مرددة دون ندم : " بالسلامة يا سلامة ! "