من زمانٍ لا عِلم لنا بأيامه و ناسه ، ماتت الغابة ، هجرتها الكائنات الحية ، طاف اليمام المرعوب يفضح قساوة السلالات المزهوة بلغوها المعدي و عقلها المشلول ، رحلت غربان الولائم الكريهة في أسراب ناعقة سَوَّدَتْ محيط الرؤية ، تركت المكان للبومة الوحيدة المنشغلة بإتمام مقامات النواح غير المفيد و إنهاء سمفونية العبث و الظلمة .. و الآن ، بعد الذي عمو شاع ، ها الدور حلّ على الشجرة التي أخفت غابة الأوهام و الكوابيس المتوارثة ، تعرّت جذور العناد و اكتملت شروط الزوال . فوق الرأس المنحنية ، عند آخر غصن ميت يطل على زرقة الجرح والوهم ، حطت بومة النحيب الموحش ، مسحت لحيتها الشقراء بمخلب يميني مغموس في حناء مزيفة مستوردة من أرض العشائر البائدة ، عيناها المشؤومتان ضاعت فياللاشئو صهد الفناء ، و بياض ريشها عباءة شيخ معتوه مأجور يحتفي بخواء المصائر و صقيع القلوب ، و دون إعداد أو توطئة تحترم موت الدقائق ، شرعت في الصراخ و الخطابة و النواح. « بعد البسملة و الحوقلة و العنعنة ، و عما رأيت و ما سمعت و ما بكيت ، ها كلامي المكرور صار واقعا ، و خرائب الأضرحة المسكونة بكرامات القوادة و الانبطاح تزايدت ، و ها شلل الأطراف يوجعني ، و موتى الغابة يعشقون مرثيات الآتي و ما سبق من نواحي ، و سلالات المسخ الملتحي و الهم المتناسل مضت تحت يافطات الخرافة أسرابا دائخة تناست الجرح الدفين ، احتضنت العهر المشاع ، و الخطيئة موزعة بالتساوي على الجميع . « غادر القط الأسود قارعة الخلاء ، استرجعت ذاكرته الموشومة آثار السوط الدموي ، استحضرت لذة الهروب من خاصرة الوقت الملسوع ، مضى العمر تحت سماوات عاقر تحتفي بغيوم و جفاف و رماد ، و ما تبقى من تراب الحفريات المهملة احتلته برودة الحصى ، غمره حياد الاستعجال المقدس ، و لا حياة عند قُسَاة القلوب في لعبة الدخول و الخروج و الهبوط و الصعود غير أحلام السرير الصدئة و همسات دقائق صقيعية التشكيل في لوحة تطغى عليها هوية الرحيل و حروف من صباغة العدم على إيقاع المناحة الكبرى، طافت عيني الشاردة تتأمل الشجرة المنهكة بنظرة حزينة ، صعودا من الأسفل نحوالأعلى ، عند الجذور بقايا دم مغدور من آثار المعارك الخاسرة و طلاء حناء و استجداء ، الأغصان الميتة معقودة على أوهام أبدية و خرافات بدائية و أحلام موؤودة ، ظلال سوداء تتقاطع مع جرب أغصان تناسلت في ظلمات الأوقات السائبة ،و زرقة السماء خلفية مفضوحة لخطوط جرح أزلي رمادي الهوية فاقع التشكيل ، لا أحد انتبه لموت الرؤوس و الجذور ، لا أحد في البدء و الختم همّّه الأمر . سلطن جفاف الدواخل على أعواد الفروع البارزة ، أحكمت إقفال الباب في وجه ريح السموم .. لكن وساوس الماضي الميت لم تنته ، انشغلت بدقات كائنات وهمية تعتقد أن وجودها هو محور الكون ، ظلت تدق.. و تدق .. و بعد التعب ، اتكأتعند الجذر الأيمن المقطوع قرب شاهدةالقبرالمظلم ،توهمت دوام الموسم الكريه و رعونة الحصار ، و أفصحت عن عشقها الثابت لنعيق الظلمة وغربان الغدر الموروث.. وحضر بياض العين الخرافية يدعوني للغوص في مجاهل الأعماق الغامضة ،عجزْتُ عن الاقتراب من عسل الحرقة الحر ، استسلمت لشرودي،و اكتفيتُ . . صرت غيمة كاذبة استجابت لزيف الدعاء ،و في حضرة عشيرة ردت على علامات العطش بالاستفهام و البكاء ، نزلت دمعة الحنين ، زحف صقيع الحياد نحو نهر الادعاء .. و بيضاء القلب تغرق في ضباب كثيف يمنع العين عن السفر نحو أمواج الحنين و الاشتهاء البرئ،و كان الذي كان ، ركب العميان صهوة الكوابيس الموروثة، احتلوا عقل الحكاية ، قدموا تفاصيل عن غزوات خاضوها ، و سيوف صدئة استعملوها في رقصة الناقة الجرباء ، و بطولات سريرية في أرض جرداء.. ولا سحب ماطرة يا ويحي فوق غيمة الغدر والجفاء . و هي لم تقرأ لهفة المجازالمأزوم تزامنا مع عبور جنازة الشرق المهزوم و توالي مناحات الموت و الفناء وسوء الإصغاء ،لم يعدالأزرق السماوي يليق بها، و عليه .. و من شبه اليقين المؤكد ، صهد الغد خانق .. حياد أقنعة الاستعارات واقع .. قسوةقلوبالحجرمؤكدة .. وشلل الأطراف محتوم . و أضيف .. قلت .. هناك من حيث لم أتوقع، ورقة خضراء صغيرة أطلت من غصن العناد .. تحَدَّتْ الجفاف المزمن القاتل لكل الأغصان المحيطة ، برزت نقطة خضراء أشاع حضورها الحالم فرحة غير مسبوقة ، هو اللمعان المحبب يأمر العيون المهووسة بمطاردة دلائل الوجود العدمي السائد قائلا: « ما زالت الحياة تستحق الحب و كل أسباب الأملالمفترض « . طيلة اليوم ، لم أعد أفكر سوى فيها ، استعدت قدرتي على الحلم من جديد ، و تخلصت من هواجس الموت الشامل .. ياه كم هي رائعة إشارات العودة من قبر الظلمة و المحو و النسيان ، صرت أتعمد المرور قربها ، اقترب من موقع العناد ، انحني عليها بأنفاس عاشق ، أسعد بتفاصيل اليقين ، أحضن بريق البدايات بنظرة تركيز افتقدتها من زمان ، ما زالت في القلب خفقة من حنين ، و مازالت في الجذور تلك القدرة العجيبة على مقاومة لعنة الجفاف والخواء . . ومازلت أستطيع الحلم في زمنالعدم ، فمرحبا بالحبيبة ، مرحبا بالورقة الخضراء دليل التحدي والوفاء . أسيرٌ أنا لذاك البرق الخاطف الذي تراقص أمام عيني ، رأيتها تهاجمني دون تردد و لا مقدمات ، تقول: « أنت عاشق»، أهادن التيار الكهربائي الصاعق ، أنساق مع أمواج الصمت و تسونامي الشرود و اللذة ، أترك للذاكرة حرية تخزين تفاصيل اللحظة ، و لحد ساعة اليقين الفاضح ، و رغم التأكد من سلامة العودة و نشوة البوحو الاعتراف و لذة عبور مفازات التيه و كوابيس القبيلة المهزومة و تجاوز محطات اللوم و العتاب ، ما زلت أذكرها عل الذكرى تنفع المحبين ، أقول لها جملة الهجوم الموشومة مبتسما و أضيف : « مرحبا بأميرة الثورة و العناد !!! « قبل أن تداهمك أيام الصهد الثقيل و تصير جمجمتك المظلمة عطلانة غريبة عن عشق سلالات الحرية و كرامة التواجد ، قبل أن تتساقط كل الأوراق فوق تربة ملعونة تحتفي بنشر خرافات اشتهاء اللذات المقموعة ، قبل أن تتفق أقلام القبر و الظلمة حول صيغة إعلان الموت النهائيلشجرة العشيرة البائدة و الغرق في تفاصيل إعداد الجنازة و محو آثار العبور المثير للشفقة ، قبل أن يغرقهم سواد المناحات المشاع ، كان مجنون الحياة بداخلي يردد : عليَّ و على أحبابي ، و ها أنا أتوق اشتهاء و أقول للمرة الألف « أحبك. « أنا المصدوم و زيادة ، رأيتها قرب جوقة التماسيح وعفاريت الرعب و أشباح الإقصاء تتناوب معهم على البكاء فوق منصات الانحناء و ربوع اللغط السائب ، أخرستني المفاجأة ، سمعتني أقول للظل : « يقينا ليس بمثل هذه الحركات الرخيصة ستفوز بنصيبك من وزيعة الموت» ، لذلك .. و بسبب زرقة أنانيتك المضحكة ، لن أحضنك بعد اليوم و أنت في السر تخاف شغبي ، جهلك الفاضح ، يدفعني للابتعاد عن أشواكك الكثيرة ، فمتى كانت وردة العناد و زهرة الصبار في حاجة إلى استجداء رحمة الغيوم الكاذبة؟ متى ؟!!! « كنت أدري ولعلكم كنتم تجهلون،أهمس لدواخلي المتعبة، قبل أن تتهاوى شجرة الحلم الغامض، انطلقت بوادرالسقوط المحتوم منذ تسللت دودة الفناء للجدرالأكبر، وذهب دعمي اللامشروط هباء ... و رغم ذلك ، رأيتني أموت حرقة ، أتلهف ملتاعا ، أحاول القبض على آخر دليل منها يمنحني الاقتناع بجدوى الاستمرار في انتظار عودة نحيب أوراق فروع هذه الشجرة الميتة . لكن يقيني اهتدى إليَّ ، صارحني و قال .. لا أمل في انتظار عودة الحياة لأعواد نخرتها ديدان الفناء .. ، نكاية في آلام اليأس ، طاوعته ، أتيت بشتلة مخبأة في شرق القلب ، رسمت في وجه الأرض رحما جديدا ، زرعت الحبيبة ، و سقيتها بدمع العناد و الإصرار و الإدانة . مؤكد ، بعد غذ ، بعيدا عن استسلامكم المقيت ، أرى الشتلة تندمج مع تربتها الجديدة ، تزهر الأغصان ، أقول لنفسي : لك مني وعد لا يخيب ، لي الحق في مواصلة الحلم و انتظار أوراق حانية تشهد دفء أعشاش ممكنة لطيور حرة لا تخدع و تركع .