على امتداد خمسة أيام كاملة من 1 إلى 5 دجنبر الجاري انعقدت بالعاصمة البرازيلية فعاليات المؤتمر الدولي الأول حول تطوير الأنظمة الشاملة للضمان الاجتماعي، وقد جاء انعقاد المؤتمر تجسيدا وتنفيذا لإحدى المقررات الأساسية التي كان قد اتخذها المنتدى الاجتماعي الثاني حول الصحة الذي انعقد بالعاصمة الكينية نيروبي سنة 2007. المؤتمر الذي حضره ممثلون عن أزيد من 80 دولة من القارات الخمس، مع حضور وازن لبلدان أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا تميز بتركيبة للمندوبين جمعت بشكل متساو بين ممثلي الحكومات من القطاعات العاملة في حقل الحماية الاجتماعية والضمان الاجتماعي بمختلف أصنافها وممثلي هيآت المجتمع المدني النشطة والمهتمة بتطوير آليات الحماية الاجتماعية. الهيئة المنظمة والمشرفة على سير الأشغال تكونت من اربع قطاعات حكومية تعتبر أنشطتها ومبادراتها ذات صلة مباشرة بمختلف القضايا والانشغالات التي ناقشها المؤتمر سواء على مستوى الجلسات العامة أو على مستوى اللجان الموضوعاتية أو اللقاءات الجهوية القارية: يتعلق الأمر بوزارة الصحة ووزارة التنمية الاجتماعية ومحاربة الجوع، ووزارة الرعاية الاجتماعية ووزارة العمل والتشغيل. وقد اختارت الهيئة المنظمة مركز أوليس كيمارايس، أكبر مركز مؤتمرات ببرازيليا لاحتضان أشغال المؤتمر، معبأة كل الوسائل والإمكانيات المادية والبشرية والوجستيكية لإبراز الرمزية السياسية والاجتماعية لموضوع تطوير نظم الحماية ضمن اختيارات البلد وتوجهاته الإستراتيجية، حيث وجه الرئيس لولا رسالة مكتوبة تحية إلى المؤتمرين جاء في بعض فقراتها» الآن بعد أن مارسنا صراعا مريرا من اجل حقوقنا الديموقراطية، نستطيع التأكيد أن الحصول على الخدمات الصحية الأساسية، والمساعدة الاجتماعية والضمان الاجتماعي يجب أن تصبح حقوقا عالمية تضمنها الدولة» مضيفا «لا يمكننا أن نترك الأزمة المالية تعصف بهذه الحقوق، على العكس من ذلك، اليوم أكثر من أي وقت مضى علينا أن نستمر في النضال من اجل تعميق تلك الحقوق وتعميمها». خلال الجلسة الافتتاحية تناوب على منصة الخطابة وزراء الصحة والضمان الاجتماعي والتنمية الاجتماعية والشغل، الذين أبرزوا، كل من موقعه ومجال تدخله الرهانات الاستراتيجية التي تكتنف موضوع تطوير نظم الحماية الاجتماعية في عالم اليوم حيث أكدوا ان هذا اللقاء يهدف الى تحقيق ثلاث غايات مركزية: أولا: الدفع نحو الإقرار بأهمية الحماية الاجتماعية كبعد سياسي ومكون رئيسي ضمن منظومة حقوق الإنسان وحقوق المواطنة. ثانيا: توسيع مفهوم الحماية الاجتماعية، عبر إقرار نموذج يدمج في تركيب موحد الحماية المدنية( نمط الحقوق التقليدية) والحماية الاجتماعية المرتبطة بسياسات إعادة التوزيع والحماية الاقتصادية التي لا يمكن أن تتحقق إلا بسياسات الإدماج الاقتصادي. ثالثا: تبادل التجارب والخبرات بين ممثلي مختلف البلدان المشاركة، والبحث فيما يمكن عمله سواء على المستويات الحكومية او على مستويات المؤسسات السياسية والنقابية والجمعوية لتطوير أنظمة الحماية الاجتماعية، وخاصة على مستوى الأشكال الأساسي المتمثل في نوعية ومضامين التوازنات المطلوبة فيما يخص التمويل بين نظم المساهمة والنظم العامة، ضمانا لاقصى درجات التماسك الاجتماعي. بصمات الاختيارات السياسية والاجتماعية للرئيس لولا وصدى البرنامج الاجتماعي المعلن عنه خلال الحملة الرئاسية لخلفه السيدة ديلما، كانت واضحة في خطب المسؤولين الحكوميين البرازيليين الاربعة الذين تناولوا على منصة الخطابة، حيث تم التركيز على أولوية الإدماج الاجتماعي في مسلسل التطوير الديموقراطي، ورفض اية قدرية عولمية نافية لامكانية ومتطلب التوفيق بين النجاعة والعدالة، بين صلابة النسيج الاقتصادي وقوة التماسك الاجتماعي. في كل كلمات المسؤولين الأربعة، بقاعة كيمارايس الكبرى، تقف على ذلك التركيب الفريد الذي يختص به الامريكولاتنيين أكثر من غيرهم حيث التطابق والتناغم قويا بين قوة الحجة وحماسة الإلقاء وشغف التبليغ، وحيث الكلمات تتوجه إلى العقول قدر مخاطبتها للقلوب والعواطف. كارلوس لوبي وزير العمل ، الذي كان خطابه يقاطع بصفيقات حادة أشار إلى «أن البرازيل كانت آخر دولة مستها الأزمة، وأول دولة تحرج منها ولم يكن ذلك ممكنا، بغير الاستثمار في المجال الاجتماعي» مصيفا «لايمكننا ان نترك المنظور الاقتصادي الصرف يسير العالم». السيدة مارسيا باسيت عن وزارة الصحة أشارت إلى التحول الكبير الذي حصل من خلال ادماج مقتضيات الحماية الاجتماعية في صلب النص الدستوري مشيرة الى ان75% من البرازليين حاليا يتمتعون بخدمات النظام الصحي الموحد(SUS). فيما أشارت مارسيا لوبيز عن وزارة التنمية الاجتماعية ومحاربة الجوع «أن العمل الذي نضطلع به هو واجب دستوري لتوفير المساعدة الاجتماعية للجميع». في كل خطب المسؤولين الحكوميين خلال الجلسة الافتتاحية كذلك كانت هنالك إحالة واضحة إلى مفهوم العمل اللائق decent work كما هو وارد في أدبيات منظمة الشغل الدولية، وإحالات متعددة إلى ضرورة إدماج العمل والأنشطة غير المهيكلة ضمن متخيل الأنشطة المنتجة،» فمجتمعاتنا تتطور ولا يجوز أن نهتم فقط بالعمل المهيكل، حسبما جاء في كلمة السيد ارمندو دينيغري فيلهو احد النشطاء البارزين في مجال تعميم التغطية الصحية في البرازيل، حيث جرى الحديث في هذا السياق عن «شمولية العمل» universalidad de empleo، وتداعيات ذلك على مستوى نظم التنمية الاجتماعية بمختلف أصنافها. كما كانت الإحالات قوية كذلك على الحاجة إلى تطوير نظم الحماية الشمولية العامة universal coverage، حيث عبر احد مؤطري ورشة النقاش الأولى عن إشكالية التفاوت في هذا المجال بدعابة اشار من خلالها الى كوننا قد نكون مدعوين مثلا الى حفل عشاء، لكن هناك من هو مدعو الى تناول أطعمة راقية يتقدمها الكافيار وهناك من ستقتصر وجبة عشائه على شربة عدس، حسبما اذا كان الشخص المستفيد في مجال التغطية الصحية مندرجا في نظام المساهمة او كان فقط مستفيدا من نظم الحماية العامة، وحسبما اذا كان مشتغلا أو عاطلا الخ،. توزعت اشغال المؤتمر بين جلسات عامة وجلسات لجان موضوعاتية وجلسات جهوية، حيث تمت مناقشة المحاور التالية: I - محور موضوعاتي عام هم القضايا التالية: أ- كيفية محاربة عدم التكافؤ في النظم الشمولية للحماية انطلاقا من المعطى الاثني والعرقي. ب- المراقبة الاجتماعية في مجال الضمان الاجتماعي(كان هذا المحور الفرعي مناسبة لاستعراض المساهمة القبلية للمجالس التي تضم ممثلين عن منظمات المجتمع المدني في اعداد مختلف البرامج ذات الطابع الاجتماعي في البرازيل). ج- بناء النظم الشاملة للضمان الاجتماعي: الرهانات الاستراتيجية للمجتمع المدني العالمي. II - المحور الموضوعاتي الثاني هم موضوع: أسباب وفرص وامكانات بناء نظم شاملة للحماية ومستنداتها الاخلاقية والديموقراطية. III - المحور الموضوعاتي الثالث ضم عددا من المحاور الفرعية كان من أهمها: أ- نظم الحماية واخلاقيات التنمية المتعددة الابعاد لصالح الشعوب. ب- مفهوم الضمان الاجتماعي كسياسة تروم تحقيق الأمن الاقتصادي والصحة والخدمات الاجتماعية. ج- دور الدولة والمجتمع المدني والشراكة بينهما في بلورة نظم فعالة للحماية الاجتماعية. د- العلاقة بين الاقتصاد والعدالة والتكافؤ والتنمية في خلق الانظمة الشاملة للحماية، والنماذج القائمة وإمكانيات بلورة النظم الشاملة للحماية. - IVالمحور الموضوعاتي الرابع هم موضوع: التحديات امام شمولية الضمان الاجتماعي والتغطية الاجتماعية، وقد تمت مناقشة عدد من المحاور الفرعية صمن هذا المحور كان من اهمها: أ- تفكيك وهم عدم امكانية الوفاء بالديمومة المالية لاقرار نظم حماية اجتماعية شاملة: العدالة الجبائية واعادة توجيه النفقات العمومية. ب- كيفية تجاوز الهشاشة في علاقات الشغل لضمان العمل اللائق وبناء نظم الضمان الاجتماعي والصحة للعمال المهاجرين، وادماج مقتضيات الضمان الاجتماعي في صلب اتفاقيات الاندماج الجهوي. ج- السيادة التكنولوجية، وتتمين المعارف والكفاءات المهنية ودورها في الإبقاء على العاملين في بلدانهم الاصلية مع ضمان مستويات متقدمة للحماية الاجتماعية والأجور والترقية المهنية بالنسبة لهم. د- بناء المنطق الذي يقضي بغلبة وتفوق المصلحة العامة كقيمة محددة للعلاقة بين المجال العام والمجال الخاص وأساس لتوزيع وإعادة توزيع الخيرات وخدمات الضمان الاجتماعي. V - المحور الموضوعاتي الخامس انصب على موضوع: الطرق والمداخل السياسية لبناء نظم الحماية الشاملة؛ تحديد الأجندة السياسية واستراتيجيات التعبئة، وقد عرفت المشاركة في مناقشة هذا المحور سواء على مستوى الجلسة العامة أو على مستوى الجلسات الفرعية مشاركة مكثفة وتقاطعا في زوايا ومستويات النظر اعتبارا أولا لكون أعضاء البانيل الذي اطر هذا المحور كان متعددا من حيث التجارب القطرية التي يستند إليها (البرازيل، سويسرا، الأرجنتين، زمبابوي، هنغاريا) ولكون هذا المحور كان مناسبة أساسية لاستعراض الممارسات الميدانية لمنظمات المجتمع المدني في مجال التعبئة حول السياسات الاجتماعية. من بين المحاور الفرعية التي عرفت نقاشا صاخبا، محور دور التعاون الدولي في تطوير نظم الحماية الاجتماعية، حيث اختلف التقييمات بشكل جذري بخصوص حجم ما تم انجازه على هذا الصعيد. محور هم موضوع نزع الطابع الجنائي عن الاحتجاجات الاجتماعية عرف هو الآخر نقاشا صاخبا ساهم فيه بشكل مكثف المناضلون المطالبون بعولمة بديلة، ثم كان هناك المحور الفرعي الذي تناول موضوع المشاركة الاجتماعية الفاعلة في مراقبة وتوجيه دور الدولة في إقرار وتنفيذ نظم الحماية الاجتماعية، الذي عرف هو الآخر نقاشا مستفيضا حول آليات وطرق المراقبة ومداها وفعاليتها. مؤطروا الحلقات النقاشية عكسوا في تركيبتهم الطابع الدولي المتعدد للمؤتمر، كما عكسوا الطابع الثنائي لتركيبة المؤتمرين (ممثلي قطاعات حكومية/ممثلي المجتمع المدني) مع حضور وازن لممثلي بلدان أمريكا اللاتينية، حيث برز من خلال الأشغال السبق الذي تحظى به هذه البلدان، على مستوى الحركات الاجتماعية في مجال الاهتمام بكل ما يرتبط بالعلاقة بين التطور الديموقراطي والتنمية الاجتماعية والضمان الاجتماعي. جلسات الجهات القارية الخمس( أمريكا الجنوبية والوسطى الشمالية-إفريقيا الشمالية-إفريقيا جنوب الصحراء-أوروبا-الشرق الأوسط- الخليج واسيا) استعادت على نطاقات قارية الكثير من محاور النقاش التي عرفتها الجلسات العامة وجلسات المحاور الفرعية، ولكنها كانت فرصة للمشاركين للتدقيق والمقارنة بين نظم التغطية الصحية والاجتماعية، والتداول في التدقيقات التقنية بخصوص هذه المواضيع، من خلال طرح التجارب القطرية، حيث تجدر الإشارة إلى آن الوفد المغربي، سواء منه الممثل لفعاليات المجتمع المدني كان حاضرا بشكل مكثف وساهم مساهمة أساسية في تأطير النقاش وتقديم المقترحات على صعيد لجنة شمال إفريقيا والعالم العربي. تجدر الإشارة إلى أن الوفد المغربي الذي ترأسه السيد جمال أغماني وزير التشغيل والتكوين المهني أجرى لقاءات مكثفة مع عدد كبير من الوفود الحاضرة، من أوروبا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وكذا وفود الهند وباكستان. وكان اللقاء الذي عقده بعض أعضاء وفد منظمات المجتمع المدني المغربي مع السيد ريناتو احد الوجوه البارزة في حزب العمال البرازيلي وأحد السياسيين المقربين من الرئيس لولا، كان هذا اللقاء مناسبة لنقاش واسع تناول القضايا التي تضمنتها أجندة المؤتمر وقضايا أخرى ترتبط بسبل تعزيز العلاقات بين البلدين، وحيث ابرز السيد ريناتو أن الإستراتيجية الجديدة للبرازيل تقوم على تعزيز العلاقات مع إفريقيا والعالم العربي، بما يطور فعالية القطب الأمريكي اللاتيني الذي تلعب فيه البرازيل اليوم كقوة مدنية civil power دورا رائدا، مؤكدا على أن تطوير العلاقات الدولية للقرن الواحد والعشرين بات يفترض بناء مثل هذه المحاور والكتل الدولية ذات الوظيفة التوازنية، مشيرا لن الهيمنة سواء جاءت من المشرق أو الغرب تبقى هيمنة ويتعين الوعي بمخاطرها. الجلسة الختامية للمؤتمر التي انعقدت زوال يوم الأحد 5 دجنبر والتي كان من المفروض أن تعرف تدخل الرئيس لولا الذي تغيب بسبب انشغالات استبقته في الأرجنتين، تميزت بنفس الحماس الذي انطلقت به الجلسة الافتتاحية وعرفت تدخلات عدد من الناشطين الدوليين في مجال الحقوق الاقتصادية والتغطية الاجتماعية حيث تم التصفيق بحرارة على تدخل ممثلة الهند التي أبرزت بعض أوجه الخلل الاجتماعي المقلقة التي تتخفى وراء ظواهر النمو الاقتصادي السريع في بلدها وفي مناطق أخرى في آسيا. وعموما فان المؤتمر الدولي الأول حول تطوير النظم الشاملة للحماية الاجتماعية شكل، وبعنفوان كبير، نوعا من إطالة الفكر الاجتماعي الجديد القادم اليوم من البرازيل، وهو البلد الذي يحتضن بغابات الأمازون رئة العالم ومتنفسه الكبير، وبمرح السامبا، التفاؤل والإقبال على الحياة، وبأحياء الفافيلات المختبرات الاجتماعية لدينامية المدن العملاقة، وبحجم الطبقات الوسطى( التي انتقلت من 40 إلى 95 مليون نسمة في بحر 10 سنوات) فكرا اجتماعيا جديدا يدل كل يوم بتجربة البرازيليين أنفسهم أن سياسة الحماية الاجتماعية وإعادة التوزيع بما هي ركن ركين ضمن الجيل الجديد لحقوق الإنسان وحقوق المواطنة، تبقى شعلة أمل بالنسبة لشعوب العالم. فكر اجتماعي جديد يرفض الانهزامية الاقتصادوية رفضه للقدرية العولمية الوحيدة الاتجاه.