تحول تراب الجهة في عهد الحماية وفي العقود الأولى من الاستقلال إلى مجال أخضر بمنتوجاته الفلاحية المتنوعة حيث امتدت ضيعات الحوامض والنباتات السكرية وأشجار الفواكه ومزارع الخصر على مساحات شاسعة. كما عرفت كل المدن بالجهة، باختلاف أحجامها، إقلاعا صناعيا حيث تعددت الوحدات الإنتاجية التحويلية في كل من القنيطرة، وسيدي سليمان، وسيدي قاسم، ومشرع بلقصيري، وسيدي يحيى، وسيدي علال التازي، إلخ (تلفيف الحوامض والخضر والفواكه، صناعة السكر، وصناعة العلف والأسمدة، ووحدات لانتقاء وبيع البذور، وصناعة الورق،....). ونتيجة لهذه الدينامية الفلاحية، ازدهرت الحرف والمهن الصغيرة في المدن والمراكز القروية (مقاولات صغيرة ومحلات للتلحيم والرسم الصناعي وإصلاح الجرارات والشاحنات والآلات الفلاحية، والمطاعم على جنبات الطرق،...). كما عرف القطاع التجاري نشاطا كبيرا حيث تعددت المحلات التجارية بالمدن والمراكز الحضرية وأصبحت الأسواق الأسبوعية بالجهة ذات شهرة كبيرة (سوق جرف الملحة، سوق دار الكداري، سوق أولاد جلول، سوق سيدي سليمان، وسوق سيدي يحيى، وسوق سيدي قاسم،...). إلا أن هذا الازدهار الذي استمر لعقود سيعرف نكبة كبيرة نتيجة سوء التدبير حيث أفلست كل الشركات الفلاحية (صوديا، صوجيطا،...)، وأغلقت أغلب الوحدات الإنتاجية، وتدهور وضع تجهيزات السقي الفلاحية، وتفاقمت حدة فقر طبقة الفلاحين الصغار الذين تحولوا في أغلب الحالات إلى طبقة عاملة. فبعدما كان الجزء الكبير من المنتوج الفلاحي موجها للتصنيع محليا وللتصدير (الحوامض، الخضر والفواكه، والنباتات السكرية) ويساهم في الدخل الوطني وفي القيمة المضافة للاقتصاد الوطني بمعدلات كبيرة، انكمشت الأنشطة الفلاحية إلى درجة أصبح التعاطي لزراعة الحبوب في السنين الأخيرة الانشغال الأساسي للفلاحين حيث تغطي حقوله أكثر من 54 بالمائة من المساحة المزروعة بمجموع تراب الجهة. وبالرغم من شساعة الأراضي المخصصة للحبوب، فإن المنتوج لا يساهم إلا ب 30 بالمائة في القيمة المضافة و 19 بالمائة في المساهمة في أيام العمل (خلف فرص الشغل). وبالرغم من تراجع المساحة المخصصة لزراعة الخضر إلى 10 بالمائة من المساحة المزروعة، بقي هذا النوع من المزروعات يساهم ب 47 بالمائة في المبيعات (chiffre d?affaire)، و 38 بالمائة في القيمة المضافة، و 31 بالمائة في أيام العمل. وبصفة عامة نقول أن نوع المزروعات بالجهة قد تحول من المزروعات ذات القيمة المضافة العالية والمساهمة الكبيرة في الدخل الوطني إلى مزروعات ضعيفة المردودية والدخل. إن القيمة المضافة للهكتار الواحد من الحبوب لا تتجاوز 4350 درهما بينما كانت تصل هذه القيمة بالنسبة للحوامض إلى 24600 ردهما، وبالنسبة للخضر والفواكه ما بين 79000 و 140000 درهما. وخلاصة لواقع الفلاحة في جهة الغرب الشراردة بني احسن، نقول أنه بالإضافة إلى التأثيرات السلبية للإفلاس الذي أصاب الشركات الفلاحية وما وازاه من إغلاق للوحدات الإنتاجية، يعرف القطاع الاقتصادي الأول بالجهة مشاكلا أخرى تتعلق بتعقيد البنية العقارية للأراضي الفلاحية حيث لا زالت أراضي الجموع والاستغلاليات الصغيرة تشكل الجزء الكبير من المساحات المخصصة للزراعات المعيشية المورد الأساسي لعيش أغلبية ساكنة المنطقة، وبطبيعة التربة التي تتطلب استراتيجية محكمة ودائمة للتطهير وصرف المياه لتعويض ضعف إمكانيات امتصاص التربة للمياه في فترات الأمطار الغزيرة وتحويلها إلى الفرشات المائية الباطنية، وبعدم عصرنة أنماط السقي حيث لا زالت الطريقة التقليدية هي الأكثر استعمالا (gravitaire) حيث لا تستعمل تقنيات السقي العصرية (goute à goute) إلا في بعض الضيعات الكبيرة، وبإضعاف المقاربات التشاركية وتراجع العادات الثقافية المبنية أساسا على قيم التضامن والتعاون، وبتراجع مكانة الحوامض والخضر والفواكه، وبضعف تنظيم القنوات التسويقية مما فتح المجال للمضاربة وسيطرة الوسطاء على حساب مصلحة الفلاحين والمنتجين. وأمام هذا الوضع الذي يعبر بجلاء عن تراجعات خطيرة لمكانة الفلاحة بالجهة، جاء المخطط الأخضر بركائزه الثمانية كإستراتيجية لإعادة الروح للحياة الفلاحية في مختلف جهات المملكة. وعليه، ونظرا لأهمية هذه الالتفاتة في هذا الوقت بالذات (زمن التراجعات)، سنخصص ما تبقى من هذا المقال لعرض أهم ما جاء فيه ونقط قوته ونواقصه ومدى إمكانية إسهامه في تنمية جهة الغرب الشراردة بني احسن في المستقبل. اعتبارا لمحتوى المخطط وما وازاه من تصريحات رسمية بشأن أهدافه، تبين أن المخطط صيغ على شكل 8 تقسيمات مهمة يمكن أن تساهم في التنمية الفلاحية لمختلف جهات المملكة. وتتضمن هذه التقسيمات حسب أهمية المزروعات وطبيعة المنتوج الأشجار المثمرة (الحوامض والبواكر والزيتون)، والخضر والفواكه، والنباتات السكرية (الشمندر وقصب السكر)، والحبوب (انتاج البذور والأرز)، والحليب، وتربية المواشي والدواجن، وإنتاج اللحوم الحمراء والبيضاء، وتربية النحل وإنتاج العسل. كما يتضمن هذا المخطط على أهداف تتعلق بالرفع من مستويات المردودية، وتحسين دخل الفلاحين، وتحسين شروط وظروف التسويق والرفع من مستوى جودة المنتوج، وخلق مناصب الشغل، والرفع من نجاعة تجهيزات السقي وعصرنتها بشكل يحافظ على الثروة المائية، وتشجيع الفلاحين على التعاطي لمزروعات جديدة ذات مردودية كبيرة وتقتصد من مستوى استهلاك الماء. ومن أجل تحقيق كل هذه الأهداف من خلال المشاريع السالفة الذكر، تضمن المخطط 113 مشروعا موزعة بين ركيزتين أساسيتين تتعلق الأولى بتنمية الأنشطة الفلاحية ذات القيمة المضافة المرتفعة، والثانية بالفلاحة التضامنية ومحاربة الفقر في صفوف الفلاحين والتجار في المجال الفلاحي. وارتباطا بجهة الغرب الشراردة بني احسن وما تضمنه المخطط بشأنها من مشاريع واعتمادات مالية مصاحبة، يتبين أن المخطط أولى اهتماما كبيرا للفلاحين الكبار وللقطاع المسقي على حساب الفلاحين الصغار والفلاحية البورية المعيشية. فمجال تدخل برامج الركيزة الأولى يمكن أن يكون لها وقعا جد إيجابي خصوصا على مستوى المؤشرات الماركرو-اقتصادية (المساهمة في الدخل الوطني وفي القيمة المضافة العامة). إن الإمكانيات الطبيعية والبشرية للجهة تعتبر ثروة ثمينة بإمكانها تجميع كل العوامل والظروف الملائمة للرفع من قيمة القطاعات الفلاحية ذات المردودية والدخل الكبيرين (الحوامض، الخضر والفواكه، النباتات السكرية، وقطاع الحليب واللحوم،...)، وبالتالي بإمكانها أن تساهم نسبيا في خفض نسبة البطالة. لكن برامج الركيزة الثانية، والتي تهدف إلى تنمية الفلاحة في الأراضي البورية والتلية والجبلية (الفلاحة المعيشية التي يمارسها أغلبية الفلاحين في المنطقة)، فقد خصصت لها اعتمادات ضعيفة جدا مقارنة مع برامج الركيزة الأولى. لقد تم تخصيص 95 بالمائة من الإعتمادات لبرامج الركيزة الأولى والتي لن سيستفيد منها إلا الفلاحين الكبار (17332 مليون درهم)، بينما تم تخصيص 831 مليون درهما فقط لبرامج الركيزة الثانية (البرامج المخصصة لأغلب الفلاحين). وكخلاصة لهذا المقال، يتضح جليا أن اختيارات السياسة الفلاحية التي أولت اهتماما كبيرا بالفلاحين الكبار على حساب الفلاحين الصغار منذ الاستقلال لم يكن لها وقع إيجابي على التنمية البشرية والاجتماعية بالجهة. إن مستوى الفقر قد ارتفع إلى حدود قياسية حيث تجاوز 20 في المائة حسب التقييمات الرسمية. إن الاهتمام بالاستغلاليات الكبيرة (الضيعات والحقول الشاسعة) وتجهيزها تسبب في هجرة رؤوس الأموال من تراب الجهة إلى المدن الكبرى. فما يجنيه الملاكون الكبار من مداخيل لا يعاد استثمارها ولا صرفها في تراب الجهة. إن النسبة الكبيرة التي يمثلها الفلاحون الصغار، الذين لاتتجاوز مساحة استغلالياتهم الفلاحية 5 هكتارات لكل فلاح، تحتاج إلى عناية خاصة لتصحيح تداعيات السياسات الفلاحية السابقة. فلسفة المخطط الأخضر يجب أن تكون خلق التوازن الاجتماعي، والإسهام في صنع الطبقة المتوسطة في قطاع الفلاحة، والرفع من مستوى المعيشة والحد من الفوارق الاجتماعية. فبقدر ما تحتاج الدولة إلى الرفع من نسبة الإنتاج والدخل الفلاحي في حدود 2020 بالنسبة للمنتوجات ذات الدخل المرتفع كالخضر والفواكه (450 بالمائة)، والحوامض (350 بالمائة)، بقدر ما تحتاج إلى إعطاء الأولوية كذلك لدعم العمل التضامني والتعاوني الفلاحي من خلال الاهتمام بالفلاحين الصغار ودعم الأنشطة الفلاحية المدرة للدخل، وحماية الساكنة والأراضي الفلاحية من الفيضانات وتأثيراتها أولا بإنجاز السدود الضرورية ما فوق سد القنصرة على واد بهت، وما فوق سد الوحدة على واد ورغة، وثانيا بخلق التجهيزات «الحمائية» الضرورية لتحويل مجاري المياه في المرتفعات بالمنطقة (bassins versants)، وثالثا صيانة قنوات صرف المياه والتطهير باستمرار.