يشكل الإعلام اليوم أحد أهم دعامات الثورة التكنولوجية الحديثة في الاتصالات، حيث أحدث الإعلام انقلاباً شبه جذري في كل مجالات الحياة المعاصرة وسلوكيات أفراد المجتمع؛ وطالت التغيرات الأعراف والقواعد والقيم الاجتماعية. وقد نجحت السياسة بكل مقوماتها وأساليبها في توجيه دفة الإعلام نحو أهدافها الخاصة بحيث تحول جزء مهم من السياسات الإعلامية إلى دعاية سياسية، كآلية إعلامية للتأثير على الرأي العام. من خلال التلاعب بالعواطف والمشاعر للوصول إلى خلق حالة من الشحن العاطفي الجماعي -فهل الخطاب السياسي هو فعل تواصلي أم نشاط دعائي .. ؟ -كيف ساهمت التكنولوجيا الوسائطية في شخصنة السلطة/الشعبية الرئاسوية وشخصانية السلطة/ الشرعية الكارزمية ثم كيف تم توظيف التكنولوجيا الوسائطية في تسويق القرارات والسياسات العامة إما بفعل إكراهات العقلنة التي أصبح يطرحها اتخاذ القرار نفسه بالنسبة للأنساق السياسية الغربية، أو بفعل طبيعة الرهانات التي ارتبطت ببناء الدولة وتحقيق «رسالة التنمية» الاجتماعية والاقتصادية بالنسبة لأنظمة الدول حديثة الاستقلال. السياسة والإعلام من التواصل إلى الدعاية أصبحت التكنولوجية الوسائطية، تسمح، ولأول مرة، للجموع، بالتواصل المباشر مع الرئيس، بدون عناء يذكر، خصوصا وأن المواطن لم يعد له الوقت الكافي للتفكير في مضمون، وقيمة الحجج التي تتضمنها خطابات السياسي. لقد أصبحت إذن السمات الشخصية لرجال السياسة المعاصرين، ووجوهم، وهيئاتهم، وأساليبهم البلاغية والخطابية، تتفوق في الضمير الجماعي للمحكومين، على الأفكار والبرامج ، مما جعل R.G. Schwartzenberg يصف هذا التحول الذي أحدثته وسائل الإعلام واستعمالاتها السياسية، قائلا: »كانت السياسية في السابق عبارة عن أفكار، بينما أصبحت اليوم أشخاص، أو بالأحرى، شخصيات (personnage)، لأن كل قائد يؤدي دورا، كما هو الحال في الفرجة (Spectacle) «؛ لقد أصبحت الدولة الحديثة مقاولة فرجوية، يحاول من خلالها، رئيس الدولة، أن يظهر، في حالة استعراضية، كنجم (Star) يشخصن السلطة ويجسد كل القرارات السياسية الكبرى. فأهمية التطور الهائل لوسائل الاتصال، وخطورتها المرتبطة بالاستعمالات المكثفة لهذه الوسائل من طرف رجل السياسة، تمثلت بالخصوص في تحول السلطة من طابعها التجريدي أي المؤسساتي وسائل الإعلام كقناة للشعبية السياسية فالاستعمال السياسي للتكنولوجيا الوسائطية، لم يكن بالتأكيد، دائما فعلا أو نشاطا تواصليا محايدا. ففي كل مكان تحولت تكنولوجيا الوسائطية إلى أداة للتعبئة (mobilisation)، أكثر منها قناة للمشاركة (participation) من خلال ما أسماه k. Deutech »الرفع من كثافة التواصل بين الحاكمين والمحكومين«، بهدف الحفاظ على ذلك الاتصال المباشر (contact direct) وتفعيل وسائل الإعلام، كآليات للتأطير (encadrement)، والإقناع (persuasion)، تسعى سياسيا إلى جعل رجل السياسة، يحتل كل الفضاء السوسيو سياسي والذهني، من خلال جعل صورة الرئيس تصبح جزءا من اليومي المعيش. فخطاب رئيس الدولة كمرسل (émetteur)، أصبح مشبعا بشخصيته، واسمه ووظيفته، فقوة الخطاب السياسي، لم تعد تكتفي فقط بمركزة السلطة القرارية في رئيس الدولة، بل إنها تدفع بشخصنة السلطة إلى أقصى الحدود (pouvoir hyper-personnalisé). فأهمية التكنولوجية في مجال الشعبية السياسية، ومسرحة (théâtralisation) النشاط السياسي، هي نقل الاهتمام من مضمون الخطاب/الرسالة لفائدة المصدر/المرسل، من خلال ثنائية: الصورة (l›image) والكلمات (les mots)، فالصورة رغم أهميتها، تبقى بدون معنى في غياب الخطاب، كما أن هذا الأخير يبقى عرضة للنسيان الجماعي ما لم يكن مرئيا (visualisé). إن الخطاب السياسي لرئيس الدولة المعاصر، لا يكتفي هنا بإبلاغ المتلقين بأن الرئيس وحده من يحكم الدولة، بل أن الرئيس هو الدولة نفسها، وذلك بإلغاء المسافة «المصطنعة» بين طرفي علاقة السلطة السياسية، وجعل التعبئة وراء شخص الرئيس وسياساته وقراراته «طقسا يوميا». فلكي يضمن رجل السياسة الشعبية اللازمة لشرعنة احتكاره للقرارات الهامة، لم يعد بإمكانه الاكتفاء بتعبئة الموارد الاقتصادية للسلطة، بل كذلك ? وهذا هو الأهم ? الموارد الرمزية والتخيلية (l›imaginaire)، لذلك فوسائل الإعلام، أصبحت تلعب هنا دورا محوريا في إيجاد تمفصلات وتمثلات كثيفة للنشاط السياسي من خلال حشد المجموع الرمزي والتخيلي الجماعي. كما أن قوة وفعالية التكنولوجيا الوسائطية في لعب دورا محوريا في مجال الشعبية والتعبئة السياسية، ترجع إلى تزامنها مع انتشار نمط الاقتراع العام، والاعتراف للمرأة بحق التصويت، مما هيأ الأرضية المناسبة لإجراء عمليات تسويق واسعة النطاق، لرجال السياسة، من خلال توجه هؤلاء، مباشرة لرجل الشارع وللفرد داخل المجموعة، وداخل وسطه العائلي.. مما أدى إلى ما أسمته M. Charlot إحداث تركيب وتداخل بين نفسية المجموع والتأثير الشخصي للقادة السياسيين، من أجل هدف مشترك هو الإقناع والاقتناع، من خلال الاستفادة من التراكم المعرفي في مجال الإشهار السلعي لسنوات الثلاثينيات خاصة في الولاياتالمتحدة، من جهة والإنجازات العلمية والتجريبية المرتبطة بعلم النفس وعلم النفس الاجتماعي؛ فوسائل الاتصال الحديثة، خاصة الراديو والتلفزة، ستسهل هنا على المستوى السياسي، نوعا من الأسطورة الديماغوجية خدمة ل «نجوم السياسة»، ولكن كذلك لفائدة السياسات والبرامج والقرارات، من خلال بناء علاقة عمودية ومباشرة بين الحاكمين والمحكومين تقوم على أساس الإغراء وسائل الإعلام كقناة لتسويق القرار العام يلح Roberto Michels، في تحديده لرجل السياسة الحديث، على قوة الإرادة والقدرة على الإقناع، وإعطاء الانطباع بسعة المعارف، لذلك فقد برهنت وسائل الاتصال في المجال السياسي عن قدرة هائلة على صناعة ناخب أو حتى رئيس، بكل ما تحمله كلمة صناعة من معنى. فمع الثورة الوسائطية، أصبحت السياسة عبارة عن مراسيم كبرى متلفزة أو مذاعة، مما جعل شخصنة السلطة تعم كل مظاهر النشاط السياسي داخليا وخارجيا بهدف استمالة أكبر عدد ممكن من الجمهور السياسي. ففي الولاياتالمتحدةالأمريكية، باعتبارها المنطلق الفعلي لهذه الثورة الوسائطية في مجال شخصنة السلطة وتسويق السياسات العامة، استطاع F. Roosevelt، بفعل الاستخدام السياسي المكثف لوسائل الإعلام، من خلق تيار شعبي معاد لقوى «المحور» في الحرب العالمية II، بهدف إقحام الولاياتالمتحدة في الحرب، ضدا على إرادة الكونغرس. فالرئيس هنا يصبح بمثابة الموجهة الأسمى، الذي يتخذ المبادرات الهامة والمصيرية، اعتمادا على التماهي مع الرغبة الشعبية، من أجل التحايل والتملص، عند الضرورة من إكراهات وتعقيدات «الديمقراطية المؤسساتية». وكوسيلة فعالة لمواجهة الانتقادات اللاذعة التي كانت تواجه بها سياسة New Deal في الصحافة المكتوبة؛ من خلال العديد من البرامج الإذاعية التي كانت توجه للجمهور، وتدافع عن السياسات العامة المتبعة، وهو نفس التوجه الذي هيمن على المستوى التلفزي، ذلك أن العديد من البرامج الوثائقية، أنتجت وبثت، خاصة في المدارس والأماكن العامة لمساندة نشاط «وكالات النيوديل». لقد ظل الرئيس في الولاياتالمتحدة، يبحث عن الاستثمار الفعال لوسائل الإعلام المتاحة من أجل تبرير سياساته والدفاع عن قراراته، فقد فهم F. Roosvelt جيدا أهمية المقابلات الصحفية والتلفزية كلحظات سياسية حميمة، تساعد على تهيئ الرأي العام لتفهم القرارات الكبرى؛ كما أنه ظل دائم الرغبة في التوجه المباشر إلى الشعب للحد من مفعول كل معارضة يبديها الكونغرس في مجال السياسات العامة. كذلك حرص Truman بشدة على الظهور التلفزي من خلال البث المباشر، لأنه بذلك يضع صورته وصوته في خدمة سياساته وقراراته. أما في فرنسا فقد فهم الجنرال De Gaulle، وبسرعة أهمية الرهان التلفزي لذلك اتجهت سياسته الإعلامية، إلى مراقبة صارمة لكل استعمال سياسي للوسائط الإعلامية، بغية استغلالها كأداة للتعبير السياسي في يد الدولة، وإبعادها في المقابل عن المعارضة. لذلك، ومنذ 1958، راهنت السياسة الديكولوجية على عدم ترك أي شيء للصدفة في المجال الإعلامي. فبفضل هذه الشعبية الإعلامية التي أصبح يحظى بها De Gaulle، استطاع هذا الأخير، ليس فقط، أن يصبح الشخصية السياسية الأولى، بامتياز في فرنسا طيلة عدة عقود، بل استطاع، بفضل التلفزة على وجه الخصوص، أن يتوجه بشكل مباشر وواسع إلى الفرنسيين، خارج الأحزاب السياسية والجمعية الوطنية، فخطابات الرئيس أصبحت متوقعة، مسموعة، ومفهومة على نطاق واسع جدا.. والحجج التي كانت تتضمنها أصبحت تناقش والقرارات التي تعلن عبرها صارت تشكل النواة المركزية للتفكير السياسي للناس العاديين. لقد برز هنا شكل غريب من النقاش العمومي، يهيمن عليه صوت واحد هو ترديد العبارات المفضلة لدى De Gaulle: «البناء» و»التشييد». لقد أدت كثافة الظهور العمومي للقادة السياسيين خاصة عبر البث التلفزي، إلى تضخم سلطاتهم الشخصية، وتبرير اتساع وتزايد القرارات، التي تكون المضامين العيانية لهذه السلطة، وحشد القبول العام حولها، فالجنرال De Gaulle، مثلا، وبفضل الظهور التلفزي الكثيف، لم يعد فقط، في نظر الفرنسيين حائزا على سلطة عمومية، بل أصبح شخصية مشهورة، مما خوله بسهولة كبيرة تحييد كل القوى السياسية؛ فبالرغم من الصعوبات السياسية التي عرفتها فرنسا داخليا وخارجيا، خلال المرحلة الأولى من حكم De Gaulle، والتي امتدت إلى حدود سنة 1965؛ فإن «زعيم فرنسا الحرة» استطاع تقلد كل القرارات الهامة والصعبة؛ لأن كل الشعب يعرفه ويثقف في شخصه، وفي نجاعة ونجاح قراراته، ولا أحد يستطيع منازعة مكانته بشكل جدي، لقد أصبح من الصعب على المرء أن يتموقع ضد، أو مع سلطة الجنرال من خلال التزام واضح وصريح. وبالمقابل فقد أدت الشعبية الشخصية والهيمنة القرارية ل De Gaulle، إلى تراجع شبه تام لمكانة وشعبية باقي المؤسسات السياسية؛ فقد اقتنع أغلب الفرنسيين، بأخطاء الحكومات السابقة التي أدت إلى توريط الجمهورية في حروب استعمارية لا طائل من ورائها، خاصة في «الفيتنام» و»الجزائر». ففي مقابل فشل الأحزاب السياسية بمختلف خطاباتها الإيديولوجية، بدا للرأي العام الفرنسي، بل حتى الدولي أن «الجنرال» هو وحده القادر على خلق معجزة لحل كل الأزمات. فالأحزاب أصبحت سيئة السمعة، والبرلمان صار بدون قيمة سياسية أو قرارية تذكر، مما خلق شعورا جماعيا بضرورة تجميع مختلف «القوى الحية»وراء «رمز الأمة الفرنسية». فمهما تكن مكانة البناء المؤسساتي للنظام السياسي، فإن الشعبية التي أحرزها رئيس الدولة بفضل الاستثمار المكثف لوسائل الإعلام في المجال السياسي، وتسويق القرارات السياسية، قد جعل السلطة السياسية نفسها لا تستمد من الوظيفة ولكن من الشعبية الفردية، فبفضل وسائل الإعلام أصبح بمقدور القادة السياسيين أن يمنحوا وجها للسلطة السياسية، وتقديمها في شكل مرئي. ويجسدوا القرارات السياسية في مختلف قطاعات السياسات العامة للدولة الحديثة. الإعلام كقناة للسياسات والقرارات المشخصنة .. أما بالنسبة المجتمعات حديثة الاستقلال فقد أدت هشاشة الثقافة السياسية التي سادت، والتي تعكس افتقارها إلى لغة حداثية، إلى جعلها عرضة لنوع من الإعلام الدعائي، الذي تميز في جل هذه التجارب السياسية، من خلال: احتكار الدولة لوسائل الاتصال. فالإذاعة والتلفزة، شكلت مجالا احتكاريا للدولة بامتياز، وكونت إحدى أهم مرتكزات البث التبسيطي للإيديولوجية الدولتية، كمرجعية أسمى للتنمية والتنشئة السياسية, وهو ما سهل كثير توسيع وتبرير سلطات الزعيم، وتغلغلها داخل البنيات الاجتماعية والذهنية؛ خاصة، وأن هذه العقيدة الإيديولوجية، تصادفت من جهة مع تفشي ظاهرة الأمية، وارتكازها على خطاب تنموي تعبوي من جهة ثانية . هيمنة «التواصل» السياسي التبسيطي، الذي ساد الدول الجديدة مباشرة بعد الاستقلال؛ تمحور بالخصوص حول إبرار مكانة الزعيم والإشادة به، كفاعل مركزي ووحيد في النظام السياسي القائم بل وفي التاريخ؛ من خلال تصوير مراحل الكفاح الوطني من أجل الاستقلال، ككفاح أشخاص أو عشائر وليس مجتمعات وتنظيمات. فبالنسبة للمجتمعات التقليدية عالية الأمية وضعيفة القدرات التجريدية؛ كان استيعاب السلطة الشفوية، أيسر وأهم بكثير من فهم البرامج السياسية؛ مما يسمح للزعيم بتضخيم شخصيته وسلطاته السياسية، عبر الظهور المكثف والبث المتكرر لخطاباته وأقواله؛ وفي المقابل إلى إفراغ بعض المظاهر المؤسساتية من مضامينها؛ لذلك تحولت التعددية الحزبية إلى تعدد في الأحزاب؛ والمراقبة إلى إزعاج لقرارات القائد وخططه التنموية؛ والمنافسة إلى حرب سياسية. هيمنة «التواصل» السياسي الشعبوي فالزعيم ظل هنا، دائم الحرص على «التواصل» المباشر من خلال وسائل الإعلام، كأشكال شعبوية للتعبير، فتصبح بذلك أقواله ساحرة وتلقائية ما دامت تعبر بالنسبة للجماهير عن رؤية مشتركة للحياة العامة؛ لذلك فحرص الدولة على احتكار وسائل الأعلام هنا، لم يرتبط فقط بتكريس علاقة مباشرة بين الزعيم والجماهير، تعفي النظام السياسي من تعقيدات المأسسة وتكاليف تقاسم السلطة، بل ارتبط في العمق، برهان تحويل العقليات ، انطلاقا من الفلسفة العامة لأقوال / إيديولوجية الرئيس؛ لذلك فتشخصانية السلطة أصبحت تتغذى، بشكل أساسي، من خلال وسائل الاعلام الدولتية؛ عبر خلق المشاعر الخاطئة أو المزيفة المفروضة أو المصطنعة. فوراء كل القرارات وعلى رأس كل الأجهزة، يوجد »وجه الرئيس«، »رجل العبقرية«، »الشخص المحبوب«، »الذي يخشاه الجميع«، لذلك أصبح رئيس الدولة الجديد، لا يختلف في شيء عن الملوك القدامى، إلا في الاستخدام المكثف لوسائل الإعلام الحديثة، فهو »أب الأمة الساهر على رخائها« و »المربي النزيه والأمين« و »البيداغوجي الصادق« و »المثقف الأسمى«. فالوسائط الإعلامية لم تكتف هنا فقط بحشد وتنشيط القنوات الاجتماعية التقليدية، بل خلقت قنوات إضافية وأحيانا كثيرا بديلة عنها؛ ذلك أن المراسيم السياسية الكبرى المتلفزة، ظلت تسعى إلى الحفاظ على السكون فالقيم المحمولة هنا وإن كانت تتضمن التغيير و»الروح الثورية» فإنها ظلت تحرس على استحضار الجو الاحتفالي العائلي لعلاقة السلطة السياسية. استاد باحث ( جامعة القاضي عياض-مراكش-)