لا يمكن لأحد أن يجادل الدور الحيوي الذي يمكن أن يلعبه قطاع التكوين المهني زمن العولمة وحرية تنقل رؤوس الأموال والسلع والخدمات بين الأوطان. إنه زمن النظام العالمي الجديد بمنظماته المعروفة، وعلى رأسها المنظمة الدولية للتجارة، والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، الذي ينتهج مقاربات إيديولوجية جديدة تفرض الانفتاح الاقتصادي والمنافسة. وأمام هذا الإكراه العالمي الجديد، ازدادت حدة الإلحاح على الجودة في تكوين اليد العاملة حيث أصبحت شرطا لتحرك رؤوس الأموال الخارجية من جهة، وضرورة لتقوية مكانة المقاولات والشركات في الأسواق المحلية من جهة أخرى. إنه سياق اقتصادي وسياسي دولي تجاوز دور المصادر الكلاسيكية في جلب العملة الصعبة بالنسبة للدول النامية والتي كان على رأسها الوفرة في اليد العاملة الرخيصة، وفي المواد الأولية الخامة. لقد أصبحت الجودة في التكوين وفي الإنتاج المحرك الأساسي للاقتصاديات العالمية. وفي إطار هذا المنطق العالمي الوحيد، كنظام انبثق عن الجدلية التاريخية بين الرأسمال والعمل، سجلنا كمتتبعين، منذ بداية التسعينات، نوعا من وعي قطاع التكوين المهني بالتحديات المستقبلية حيث تم التعبير عن هذا الوعي من خلال برامجه وآليات تفعيلها. لكن، ما يؤسف له، كون كل المكتسبات التي تراكمت بفضل المجهودات المبذولة في التسعينات تبددت بفعل الاجتهادات الملغومة للمدير العام الحالي بلعربي. لقد لجأ هذا الأخير إلى مقاربات تدبيرية مبتدعة وخادعة عبرت عن منطق عمومي غريب لا يعلم مقاصده إلا هو. العنوان البارز لهذا المنطق كان هو تغليب منطق «الكم» على منطق الكيف مع هدم كل المكتسبات التي حققها المكتب في مجال الإسهام في دعم تأهيل القطاعات المنتجة (المقاولات والشركات). وما لا يعلمه السيد بلعربي كون في مثل هذه القضايا، غالبا ما يتوهم الفاعل الأساسي أنه أذكى من الآخرين بما في ذلك رجال الإدارة والإعلام والمتتبعين وأنه قادر على إخفاء بعض الأمور التي يعتقد أنه لا يعلمها إلا هو. فتقديم الحصيلة على شكل أرقام لا يعبر إطلاقا على جودة الفعل في التكوين، لأن هناك مؤشرات أدق في هذا المجال وعلى رأسها معدلات النجاح وإدماج المتخرجين في التشغيل وطبيعة مناصب التعيين، وظروف العمل وامتيازاته وتحفيزاته. تصوروا معي، بعدما كان المكتب الوطني للتكوين المهني وإنعاش الشغل يقوم بجلب الخبرات والأساتذة الأكفاء (خريجي المعاهد والمدارس العليا)، ويشترط لكي يتحملوا مسؤولية التدريس أن يتوفروا على الأقل على ثلاث سنوات من التجربة في القطاع العام أو الخاص، التجأ المدير العام الحالي، في إطار مقاربته الكمية دائما والمصحوبة بهاجس التقشف («الشطارة») في المصاريف والربح في المداخيل، إلى التعاقد مع المجازين واستغلالهم أشد استغلال حيث يشتغلون أكثر من 30 ساعة في الأسبوع وبدون آليات تحفيزية ولا وعود بتوفير شروط الأمن الوظيفي. لقد حول هذا المسؤول الأستاذ المكون من إطار يتوفر على تكوين عال وتجربة ميدانية كبيرة، إلى أستاذ مجاز بدون تجربة يدرس طلبة أغلبهم مجازين بل كان بعضهم من أصدقائه والبعض الآخر من الطلبة المجتهدين في الكلية (مستواهم قد يفوق مستوى الأستاذ في بعض الحالات). إضافة إلى هذا الاستغلال الواضح والمقصود للمجازين وما وازاه من ضعف في القدرة التكوينية ومن حرج في العلاقة مع الطلبة، قام سيادته بالقضاء النهائي على العلاقات المهنية والتكوينية التي كانت تربطها معاهد التكوين مع القطاعات المنتجة في محيطها حيث كانت هذه الأخيرة تستفيد من خدماتها في مجال التكوين المستمر والإرشاد المعرفي والتدبيري، ويلجأ إليها بالمقابل الطلبة في فترة تداريبهم الميدانية وفي بحثهم على الشغل. وبكلمة واحدة، لقد ضاع معيار الجودة والدينامية التكوينية والاقتصادية التي ساهمت في تنشيطها معاهد التكوين وحل محلها ضعف مستوى التكوين، وتذمر الأساتذة والمتعاقدين، و»عطالة» أو شبه «عطالة» الخرجين. فبعدما كانت هاته المعاهد تكون تقنيين وتقنيين مختصين بمستويات علمية وتقنية تستجيب لانتظارات المشغلين، وتساهم في إدماجهم في مناصب المسؤولية داخل القطاعات المنتجة المختلفة، أصبحت الأجيال المتخرجة زمن بلعربي عرضة للبطالة أو للتشغيل الهش (Emplois précaires) . أما بخصوص مراجع التكوين، فقد لجأ هذا المسؤول، دائما في إطار منطقه التقشفي، إلى استغلال الأساتذة المتدربين حيث فرض عليهم إعداد كراسة حسب الاختصاص. وبعد إنهاء المتدرب من إعداد كراسته يسلمها لمكتب التكوين المهني حيث يتم اعتمادها كمرجع للدروس يتم تحميله عبر الانترنيت من طرف الأساتذة والطلبة والاكتفاء بمحتواه في مختلف الشعب. إلا أن هذه التجربة أبانت على هفواتها ومحدوديتها حيث تفاجئ الطلبة مرارا بطرح أسئلة في الامتحانات الخاصة بالمرور إلى السنة الثانية أو التخرج لا علاقة لها بالدروس الملقنة انطلاقا من مختلف الكراسات المحملة. ومن خلال استجوابنا لمجموعة من الفاعلين العاملين في مختلف معاهد التكوين المهني، لم تصادف آذاننا إلا الشكاوي من سياسة بلعربي وما تعرفه مختلف المصالح الإدارية من علاقات زبونية التي لا يستفيد منها إلا المنبطح الصامت والمقربين. لقد أكدوا لنا أن سياسة «الشطارة» التي ينتهجها المدير العام لا ترتبط إلا بأنشطة معينة وكأنه يريد أن «يغطي الشمس بالغربال». فما يقدمه من أرقام بشأن حصيلته ما هي إلا وسيلة لإخفاء أمور أخرى. إن الاعتبارات التي تحكم منطق تصرفاته بعيدة كل البعد على انشغالات الدولة في مجال تكوين أبناء هذا الوطن وتحويلهم إلى ثروة تعوض الندرة التي تعاني منها البلاد في مجال مصادر الطاقة (البترول، الغاز،...) والتكنولوجيات الحديثة والبحث العلمي. وفي الأخير نقول أن العبرة ليس في سياسة «العام زين» وخداع الإشهار بالأرقام الفارغة التي انتهجها بلعربي لغاية في نفس يعقوب، بل العبرة كل العبرة في كلام اللاعب الدولي الظولمي عبد المجيد الذي كان جوابه عن سؤال لماذا يرفض تقديم التصاريح الشفاهية للصحافة؟ : « ليس هناك وسيلة صادقة للتعبير عن الوطنية في اللعب سوى جهد اللاعب وحماسه وجودة لعبه في الملعب أمام الجمهور، أي المردودية في ميادين كرة القدم».