بدايةً(* ) شكراً للائتلاف المغربي للثقافة والفنون، الذي يبذُل كلَّ عام جهداً مشكوراً من أجل إرساء قيم الفن والإبداع من خلال عدة أنشطة خلال السنة، وخاصة في شهر رمضان الفضيل. أنشطة تكاد تُغطي كافة المجالات الإبداعية. شكراً لكلِّ جنود الخفاء الذين يعملون في صمت بلا تعبٍ ولا عناء لإنجاح هذه الرمضانيات الثقافية في مختلف فضاءات المدينة. شكراً أيضاً للائتلاف المغربي، لأنه التفت إلى رائد من رواد هذه المدينة في شتى الميادين: الأستاذ الشاعر والأديب سي أحمد صبري المتعدد المواهب والانشغالات، وما يهمنا منها في هذا المقام هو انتسابه للشعر، الذي طرق بابه منذ مطلع الستينيات. هذا التاريخ الذي يعتبر البداية الحقيقية للأدب المغربي الحداثي، ليس على مستوى الأشكال الفنية، والأجناس الأدبية فحسب، بل على مستوى الرؤية للعالم. وهي رؤية تقدمية ثورية تسعى إلى التغيير والانعتاق من التخلف وكل ما يكبل الإنسان من قيود وأغلال. في هذا التاريخ بالذات، والمغرب آنذاك يمر من عنق الزجاجة، طرق الشاعر باب القصيدة، وهو شاب يافع له من البطاقة ما يكفي لكي ينخرط في أكثر من مجال، ويفلح فيه، وذلك بإصراره وتحديه لكل الصعاب في زمن عصيب تتلاطم أمواجه يميناً ويساراً. اختار الشاعر من بين الطرق، الطريق الأجدر به: الطريق الصَّعب لأنه الوحيد الذي يفضي إلى غد أفضل. طريق النضال من أجل قيم الحرية والمساواة والعدل، وما يقتضي ذلك من مواجهة لرموز التخلف وأشكاله وأنماطه. انطلاقاً من هذا الانخراط المبكِّر في حياتِه تكونت لديه مرجعية صلبة ومنيعة حَصَّنتْهُ، وجعلتهُ يرسمُ أفقاً مشرِّفا لمساره كإنسان وكمبدع، وِفق منظور جمالي حداثي. لذلك بمجرد أن امتلك ناصية القول الشعري، انخرط في الالتزام بقضايا وطنه، لأنه المرحلة كانت تفرض أن تُجنَّد الكلمة بخوض معركة التغيير. كان شاباً ساعتها، لذلك جاءت باكورتُه الأولى: «أهداني خوخة فمات!» ثائرةً ومتمردةً على الأنماط الشعرية السائدة والمتمثلة أساسا في الشعر العمودي الذي لم يستطع الخروج من جُبّة التراث بمضامينه وأشكاله وصُوره، والشعر الرومانسي الحالم على نحو نماذجه المعروفة في الشعر مع جماعة أبُّولو وغيرهم. كانت المرحلةُ تستوجب وجودَ وسيلة أخرى لمقاربة الواقع وملامسة أوجاعه خارج المكرور من كلام الأولين، وسيلة أخرى لقوْلِ شعرٍ مختلفِ يُدين ويحتجُّ ويحلم بغد أفضل. لذلك كان من الطبيعي أن تحدث المواجهة والصدام بيْن من يكرس التقليد والجمود والمحافظة وبين من يدعو الى الحداثة والتحديث. من هنا نفهم ذلك الصراع الذي أثاره الديوان سنة صدوره 1967 بين مهاجِم ومُدافع.. وهو صراع بقدر ما هو صراع حول مفهوم الشعر وما يتعلق به من جماليات، فهو في الواقع صراع بين يمين يسعى إلى تكريس الماضي، ويسارٍ يسعى إلى بناء مغرب جديد. ذلك الذي حرَّرته دماء الشهداء وفي مُقدمتهم الشهيد محمد بن حمو لفاخري ذات أربعاء حزين، وهو يُهدي قبل أيام قليلة فقط خوخةً للشاعر،خوخَةً التقطتها نَباهةُ الشاعر، إذ أدرك بعد الحدث الفاجع، أن تلك الفاكهة إنما هي رسالة مُشَفَّرة، أو وَصية توصي بالبذرة التي ترمز للاستمرارية والتجدد. ألم يقل أحدهم: السِّرُّ في البذرة.. أما الفاكهةُ فنكْهةٌ عابرة. إذا هذا هو أصل تسمية الديوان: أهداني خوخة فمات! حسنا فعل الشاعر حين أرفق ديوانه بملحقٍ خاص بالنقد والنقد المضاد. هذا الملحق أعادنا، نحن الأجيالَ اللاحقةَ، إلى مرحلة لا نعرف عنها الشيء الكثير، ومن ذلك الصراع أو الجدال الذي أثاره الديوان بعد صدوره سنة 1967. هذا الملحق وقَّعته عدة أسماء هي الأستاذة الشاعرة مليكة العاصمي التي كتبت في مقال بعنوان: «محاولة نقد» تهاجم المجموعة الشعرية مستهجنة لها في كثير من الأحيان مركزة خاصة على الإيقاع العروضي وبعض مفردات المعجم وبعض المعاني، لتخلص الى موقف جد سلبي.هذا المقال للأستاذة العاصمي أثار حَفيظة كثير من المثقفين والمبدعين الذين سارعوا للرد. وفي مقدمة هؤلاء، المرحوم محمد الحبيب الفرقاني الذي استعرض مزايا الديوان معتبراً إياه ديوانا فريداً من نوعه وصاحبه «يُعد شاعراً وطنياً بحق، لأنه استطاع أن ينفرد من بين كل الشعراء الشباب في بلادنا ليعطينا شعراً غنياً ذا عطاء ناضج يستحق الحياة والخلود، لا شعراً يذبل ويموتُ بمرور وقته» ص 206 في نفس الاتجاه، كتب المرحوم عبد القادر الصحراوي مقالا تحت عنوان: «من أجل نقد مسؤول» اعتبر فيه حكم العاصمي على ديوان أحمد صبري حكما مُتعسفا. وقد ربط هجومها باليمين الثقافي الذي يحارب الكتابات المتنورة المعطاء. لا أريد أن أسهب في هذا المجال، لذلك أكتفي بالإشارة الى الأقلام الأخرى التي شاركت في هذه «المعركة» النقدية. وهم أسماء وازنة ومسؤولة. هؤلاء هم الأساتذة ابراهيم السولامي أحمد السطاتي وإدريس الخوري. وكلهم أشادوا بالمجموعة واعتبروها خطوة جديدة في مسار الشعر المغربي الحديث، خطوة إلى جانب خطوات مشابهة يخطوها شعراء كالمجاطي والجوماري والهواري والملياني وآخرين. يغطي الديوان بجزئيه عُمراً بكامله، إذ تمتد المسافة الزمنية من سنة 1961 الى سنة 2008. الجزء الأول خصَّصه الشاعر لديوانه الأول: «أهداني خوخة فمات!» مع ملحق من 70 ص عنونه ب: الديوان بين النقد والنقد المضاد، مع شهادتين في حق الشاعر لكل من الشاعر إدريس الملياني والأستاذ بوشعيب بن ادريس فقار. الجزء الثاني وضع له العنوان التالي: وطن الإنسان، إنسان الوطن. الديوان بجزئيه يحمل عنوان «أزلية المواجهة». وتجدر الإشارة إلى أن هذا الديوان صدر عن مطبعة النجاح سنة 2009. كما أنه طبع بدعم من المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان. أما الغلاف فقد كلَّل بلوحة للفنان بوشعيب الهبولي، سواء الجزء الأول أو الثاني. التقديم من توقيع رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، الأستاذ أحمد حرزني. العنوان باعتباره عتبةَ الديوان ومدخلا يحمل دلالة واضحة. أزلية المواجهة وأبدية الصراع، كما لو أن الحياة محكومة بهذه الثنائية الأزلية، بين الخير والشر، بين العدل والظلم وبين السلم والحرب، بين الانعتاق والجمود.. بين التقليد والتحديث وهلمَّ ثنائيات ضدية. يضم الجزء الثاني من الديوان الأقسام التالية: زمن الجمر على الجسد أدوات بناء التاريخ زلزال العراق مرآة فلسطين حيرة المدينة أسئلة المدينة خمس قصائد/ صلوات على بوابة تازمامارت المحارب والغجرية غياب الشعراء حضور أبدي الجسد المواجهة. من خلال هذه العناوين، يمكن أن نستشف عالم الشاعر ورؤيته الشعرية. فهو أخذ على نفسه أن يكرس قصائده للدفاع عن القضايا الجوهرية التي تضمن حياة كريمة. وسلاحه في ذلك الكلمة الهادفة. يَتسعُ هَمَّه النبيل ليتجاوز حدود الوطن إلى أقطار أخرى مغاربية وعربية وإفريقية.. كتب عن الوطن الذي يعشقه حد الخبل، كما غنى للثورة الجزائريةوفلسطين وأنغولا والعراق مركزاً على ضرورة المواجهة والصمود والدفاع عن الكرامة. في ديوانه حشد كبير من الأعلام والرموز في مجالات عدة غنى لهم الشاعر، وتغنى بهم.. وهؤلاء أيقونات دالة في مجال النضال كالمهدي وعمر وباتريس لومومبا، ناظم حكمت، مصطفى القرشاوي، ننجامان مولويز، محمد الحبيب الفرقاني، بيكاسو ومحمد بن حمو لفاخري الذي أهدى خوخة للشاعر أيام قليلة قبل إعْدامه ذات أربعاء حزين، كما أشرت سلفاً.. ثمة أيضاً شعراء أحبهم الشاعر لما يمثلونه من قيمة مضافة للشعر المغربي، ولما رحلوا قبل الأوان تفجع الشاعر على رحيلهم ورثاهم بما يليق عربون وفاء لمقامهم، من هؤلاء: مصطفى المعداوي وأحمد المجاطي، وأحمد الجوماري، ومحمد الطوبي، وأحمد بركات ومصطفى التومي وآخرون، دون أن ننسى القصيدة التي خصها لرحيل الشاعر محمود درويش، والذي عنونها ب: «سبع زيتونات ولود». في تجربة الأستاذ أحمد صبري، يَصعب التفريق بين الكلمة والموقف، نشأ على هذا الاختيار وشبَّ عليه كما شاب، فهي قناعته، لذلك جاءت لغته مباشرة حيناً عارية من كل دِثار بلاغي، وحيناً آخر يتوسل بالرمز، ويكتفي بالإيماءة والإشارة. مَعَ حضور لافِت للقاموس السياسي والاجتماعي. وحتى عندما يجنح للعاطفة والوجدان وترق ألفاظه، فإنه لا يكاد يتخلى عن التزامه، حتى وهو يهفو بقلبه ليكتب قصائد حب لابنته البكر ليلى. يقول في المقطع الثاني من هذه القصيدة: لو شئت أن أُزخرفَ الورق الحب في الحقيقة احتراق لو شئتُ قلت: من عينيكِ يا محبوبتي تطير كلَّ صُبح كل يوم كل عام أسْرابٌ من حَمام ولكن المجاعة ارتوت من حَوض شَعبِنا الفقير. في الختام، أودُّ أن أشنِّف مسامعكم بقصيدة كتبها أحمد صبري الشاب. وهي «متحف البطولة»، وذلك بتاريخ 1962/04/17 قصيدة بسيطة في لغتها، عميقة في محتواها، قصيدة تنبىء بشاعر كبير.يقول الشاعر في بعضِ مقاطِع هذه القصيدة: رفيقي يصعد الجبل الكبير وفي يديه بذور النخل والنعناع والعنب رفيقي يحفرُ الجبل الكبير ******* ****** ***** رفيقي في مسافة عُمره غرس الجزائر والحياة. رفيقي يعشف النسوان والأطفال والأشياخ والأموات والأحياء ويذوبُ في الأرض العريضة والسماء **** *** ** رفيقي يقطف الأموات تمر ونعناعا وأعنابا *** *** ** رفيقي يصعد الدنيا من صخرة الأمجاد يرى الحياة على قرى حَضنت أَباه في رملها.. في صخرها خزَّنت دماه رفيقي جمَّد الأيام في مَمشاه! ***************************** الدارالبيضاء 26 غشت 2010 هامش: ألقيت هذه الورقة في اليوم التكريمي الذي احتفى به الائتلاف المغربي للثقافة والفنون بالشاعر أحمد صبري، وذلك بالمركب الثقافي سيدي بليوط يوم 27 غشت 2010