مما لا شك فيه أن خواتم العشر سنوات الماضية من سياسة مكتب التكوين المهني، والتي ظلت تتأرجح ما بين المد والجزر، قد أصبحت تكذب شعار «كل شيء بخير وسينتهي بشكل جيد» بل تثبت أن هذا الشعار ما هو إلا عنوان لمسرحية موزعة مشاهدها ما بين المأساة والكوميديا.. مأساة آلاف المتدربين والمكونين، وكوميديا بعض الطامحين للارتقاء، وسنكتفي فيما يلي بإثارة الانتباه إلى بعض من مساحات الصدأ المنتشرة كالبرص في جسم مكتب التكوين المهني بمختلف مؤسساته التكوينية. تيمم تكوين المتدربين إذا كان مكتب التكوين المهني قد غرد خارج السرب، وأعلن بشكل رسمي عن نيته في تكوين مليون متدرب في أفق 2016، فلا يسعنا إلا أن نهمس في أذن مسؤوليه، بأنه بقدر ما لديهم الحق في تقديم ما يشاؤون من أرقام، بقدر ما لا يحق لهم إلباس أرقامهم بما يشاءون من الصفات. فإن كان الحديث يقتصر على تسجيل مليون متدرب، فلهم ما أرادوا، وليضاعفوا العدد بدون حرج. أما وإن كانوا يتحدثون عن عملية تكوين مليون متدرب بما لها وعليها، فالأمر فيه نظر، لأن ما يجري في مختلف المؤسسات التكوينية، يبين بجلاء، أنه شتان ما بين التسجيل والتكوين، ويكفينا الاطلاع على أعداد من يسجلون أنفسهم في بداية كل سنة، وأعداد من يغادرون المؤسسات التكوينية في الأسابيع الأولى، وكيف تمتنع الإدارة عن إرجاع واجب التسجيل لهم، لإرغامهم على البقاء، ومع ذلك يصرون على المغادرة، وتضطر الإدارة إلى الاستنجاد بلائحة الانتظار لتعويضهم. وتتكرر عملية التطعيم بلائحة الانتظار مرات عديدة، وخلال مدة زمنية تحسب بالشهور. إذ الملاحظ أن مؤسسات التكوين المهني تظل طيلة الشهرين الأولين، أشبه بسوق تجاري مشرع الأبواب أمام الوافدين الجدد، حتى وإن لم يكونوا قد اجتازوا مباراة الدخول. ومما لا شك فيه أن مسؤولي المكتب يدركون الحقيقة المتمثلة في كون أعداد كثيرة من المرشحين، أصبحت تحجم عن اجتياز مباراة الولوج، وأعداد من الناجحين تتخلف عن التسجيل، وأعداد أخرى من المسجلين تغادر المؤسسة التكوينية في الأسابيع الأولى من بداية التكوين، وأما أعداد مغادريها «كرها» في آخر السنة الدراسية، فتثير أسئلة كبرى حول الموضوع. ونذكر بأن عدد المقبلين على التكوين، بدأ يقل هذه السنة، منذرا بإمكانية بقاء كثير من المقاعد البداغوجية شاغرة، بسبب عجز البعض عن تأدية ضريبة التسجيل، وبسبب الحملة المضادة التي تتم بشكل عفوي، عن طريق الذين مروا بمسلك التكوين المهني، حيث يفضل الكثير من الراغبين في التكوين المهني، العمل بمبدأ «سال المجرب لا تسال الطبيب»، وهو ما يفسر القلق الذي انتاب مسؤولي المكتب، وجعلهم يغيرون خريطتهم التكوينية بين عشية وضحاها. لقد أصبح الهم الوحيد لدى مسؤولي المكتب هو الوصول إلى ملئ المقاعد البيداغوجية المسطرة سلفا لكسب رهان مليون متدرب في أفق 2016، من دون الاكتراث أو الاهتمام بتوفير العناصر الأساسية التي بدونها لن تستقيم عملية التكوين. فالاستثناء أصبح هو القاعدة المعمول بها في جل المؤسسات التكوينية، فكم من المتدربين وجدوا أنفسهم «يتيممون» التكوين أي يكونوا من دون توفر العناصر الأساسية للتكوين من مواد أولية وتجهيزات ومكونين أكفاء. وأحيانا من دون دروس، حيث يحل استنساخها مكان إلقائها بالقسم. والأغرب من ذلك، هو الشروع في العمل «بالتكوين الواقف» ابتداء من هذه السنة، حيث أخليت المحارف من الكراسي والطاولات، وأجبر المتدربون على تلقي الدروس النظرية «بالواقفي»، وكم من الأفواج يتم جمع بعضها البعض، في انتظار تطبيق التكوين بالتناوب، أو للتغطية على تأخر إيجاد المكون المؤطر، وكم من الوحدات التكوينية تدرس بتقصير مددها المنصوص عليها في الدليل البيداغوجي إلى أكثر من النصف، بسبب عدم توفير شروط إعطاء الدروس التطبيقية. سياسة التكوين لم تعد سياسة التكوين بالتيمم مقتصرة على المتدربين فقط، بل امتدت إلى المكونين الجدد بمختلف أصنافهم رسميون كانوا أو متعاقدون، فبدلا من السهر على تزويدهم بالتكوين البيداغوجي الملائم والضروري لجعل عملية تكوين المتدربين تتم بشكل يحقق الأهداف المرجوة، فضلت الإدارة العامة تعويض ذلك بالمرتب البيداغوجي، وأفهمت المكونين بأنه سيكون معهم أينما حلوا وارتحلوا إذ عليهم ملؤه بالتحضيرات البيداغوجية، وساعات العمل المرتقبة والمنجزة، والأهداف المنتظرة من كل حصة تكوينية، ونقط المراقبة المستمرة، وامتحانات نهاية الوحدات التكوينية، وتغيبات المتدربين، وبيان الحياة المهنية، وحصيلة الكفاءات، واستعمال الزمن، وغيرها.. وإن كنا من حيث المبدأ نقدر المجهود المادي الذي بذلته الإدارة لوضع هذا المرتب بالمجان رهن إشارة المكونين، فإننا نعيب عليها المقابل المعنوي المطلوب، فهي بوضعها لهذا المرتب ظنت أنها قد حلت كل المشاكل البيداغوجية. فمن جهة أصبحت تعتبر بأن لا حاجة لتكوين المكونين بيداغوجيا، خاصة الجدد منهم. ومن جهة ثانية التأكيد على أن المكتب ما عاد في حاجة إلى المفتشين أو المستشارين البيداغوجيين الذين تم إقصاؤهم من منظومة التكوين، إذ بفضل المرتب ستوضع مهامهم بين أيدي المسؤولين الإداريين من مدراء مركزيين وجهويين، ورؤساء مصالح، ومديري المؤسسات التكوينية. وبهذا الأسلوب في التعامل مع المفاهيم البيداغوجية سيكون مكتب التكوين المهني قد وضع بين أيدي مكونيه «فزاعة» بيداغوجية. ولنا فيما حدث ببعض المؤسسات من توظيف لهذا المرتب خير مثال على ذلك. وحدات التكوين يتم التحدث على أن المكتب يتوفر حاليا على ما يقارب 4000 وحدة تكوينية لتغطية مختلف شعب التكوين، بينما لم يكن يتعدى هذا العدد 124 وحدة في سنة 2001، ولأن العبرة ليست في هذا الكم من الوحدات التي يعرف المهتمون بأن إعدادها تم خارج القواعد البيداغوجية، ومن دون عرضها على لجن مختصة لتنقيحها وتقويم أهدافها، ويدركون أن مكان الكثير منها هو «مزابل التكوين المهني»، بدلا من مكتباته. فقبل سنة 2001 حتى وإن كانت الوحدات شبه منعدمة، فقد كان المكون موجودا، وكانت التداريب التكوينية تتم بشكل مسترسل ومتواصل، وتجهيزات ومواد التكوين متوفرة في المحارف، ومدد التكوين كافية لإعطاء تكوين ذا جودة وفعالية. أما الآن فيحق لنا أن نتساءل عن الجدوى من وجود 3880 وحدة تكوينية، ما دامت أفواج كثيرة من المتدربين تتكدس في قاعة أو محرف للتكوين، في ظل غياب تام للتجهيزات الضرورية والمواد الأولية، التي بدونها لا يمكن للعملية التكوينية أن تتم بشكل سليم، وفي بعض الأحيان من دون مكون، لأن هذا الأخير ما زال مبحوثا عنه بواسطة عرض شغل بالتعاقد المحدد المدة. والأغرب من ذلك أن هناك من المكونين المتعاقدين من يفك ارتباطه بالمؤسسة التكوينية في الشهر الأول، ومنهم من يفكه في وسط السنة، تاركا مشكلا وصعوبة في تكوين المتدربين.