استقبال جلالة الملك لوزير التربية والتكوين والتعليم العالي، لإعطاء انطلاقة الموسم الدراسي، هو التعبير البروتوكولي على الإنتقال إلى مرحلة تجسيد القرارات العليا و«الشجاعة » التي وردت في خطاب العرش. وهي قرارات ، تبدو بعد نصف قرن من الاصلاح والاصلاح المضاد في التعليم ضرورية، إن لم نقل جوهرية للبلاد لإحداث القطائع الضرورية للارتقاء بتعليم البلاد، وابراز امكانيته على الاصلاح. يبدو من خطاب العرش ، واللغة التي تحدث بها عن اشكالية التعليم ، أن السؤال التعليمي، الشغل الشاغل للدولة ولعاهل البلاد، زاد من حدة هذا الانشغال اعتبار المدرسة هي بؤرة كل التحديث و جسر العبور إلى منطقة الدول التي خرجت من التخلف ودخلت دينامية الدول الصاعدة. معنى الانتقال لفهم ما يجري، لا يمكن أن نستثني الانتقالات المتعددة التي قادها الملك منذ وصوله إلى الحكم. فقد ورث محمد السادس ارثا ثقيلا، كان والده قد لخصه في «السكتة القلبية» و وجد البلاد ينخرها التخلف المتعدد الابعاد، وكان عليه أن يقود انتقالات متعددة ( اقتصادية، سياسية، اجتماعية وديموقراطية). وبعد عشر سنوات على انطلاق العملية اصبح السؤال الملح هو ، ها هي الحصيلة، ما هي الافاق ،ما هي النتيجة؟ والجواب الذي يعرض نفسه هو ،أن تأهيل المغرب لكي يصبح بلدا صاعدا ايميرجانemergent يتعثر بمستوى العنصر البشري ، بحيث أصبح هذا الاخير في الانتقال هو المحور الكبير والعقدة والمنشار ايضا. يعاني من الهشاشة والخصاص ، والعجز عن المنافسة والترهل وسيادة اولويات لم تعد هي الاساس في بلاد حقق استقلاله منذ نصف قرن. ولمقاربة الأمر من زاوية التكوين والشغل وامكانية ال«خروج من الاعلى»، اطرح ملاحظة سياسية مرتبطة بالنمو الديموغرافي، حيث أن «انتقالنا الديموغرافي» يطرح علينا الكم البشري الذي سيصل إلى سوق الشغل ويتخرج من مدارسنا، وهو 400 الف متخرج كل سنة، فقد يتحول إلى طاقة توتر وعجز يشدنا إلى الدول المتخلفة أو يمكن أن يكون «عنصر تفاوض حضاري » مع أوروبا مثلا ، لأنها في هذا الوقت بالذات تعرف تراجعا من حيث مطلباتها من تكوين الفئة العمرية نفسها.فإما أن نكون نحن في الطرف المقابل لمائدة التفاوض أو تكون دول أخرى، اوربية شرقية أو غيرها مثلا؟ الشجاعة اليوم هي القطيعة الضرورية! سيكون علينا أن نتفاوض معها لكي يجد شبابنا مداخل إلى عالمها . وعليه يصبح رهاننا هو المدرسة. وهذا السؤال يشغل الملك، كما يبدو من اللغة التي تحدث بها عن «قرارات شجاعة» حول المدرسة. ويلخصها السؤال : كيف نرتقي بالمدرسة إلى حيث جعلها اداة اسراتيجية في هذا البناء الكبير..؟ إن الجواب لا يمكن أن يتم إلا إذا تحدثنا بصراحة عن الارث الذي ورثته المدرسة الوطنية عن الفترة « الوطنية». فاللحظة الهووية، المتعلقة بالهوية ما زالت متسمرة، وما زالت المدرسة تتعامل مع الطفل المغربي كما لو أن عليه أن يعتنق الوطنية والدين الاسلامي كل سنة ، ويجدد شهادة لا اله الا الله كل سنة وعند مطلع كل دخول مدرسي! كما لو أن المدرسة هي الوحيدة التي عليها أن تبني الاسلام.. وتجعل هذا الطفل مسلما أو لا ، والحال أنه مسلم بدون الحاجة إلى التربية والمعلم والفصل والبيداغوجيا. لقد اصبح موكولا للمدرسة ان تبني الهوية بشكل مستمر طيلة خمسين سنة على استقلال الوطن، كما أن السؤال الذي كان ملحا مقلقا بعد الاستقلال لا زال هو نفسه.. والحال أن هوية المغربي الوطنية استكملت حلقاتها في الجزء الوطني والروحي . ولم يعد النقاش حولها هو المطلوب اليوم . هناك معرفة جديدة علينا أن نسايرها ونتقنها. واي جواب يحتمي بقلق البداية هو جواب يداهن الديماغوجيا ويخيط لها سريرها الجديد. أمامنا اليوم حمولة المقررات وكثرتها ، وعلينا أن نطرح السؤال واضحا شفافا وقويا: المقررات الدراسية اليوم مطروحة للتهيئة التحدثية ، والحمولة ذات الصلة بالهوية يجب أن تطرح كيف لا تثقل المستقبل وتعرقل مشيه. ومن هنا فقد اصبح من المطروح تقديم تعاقد جديد بين المدرسة والمجتمع، مبني على الوظيفية، اي ما هي وظيفة القسم أو الكلية اليوم، خارج بناء الهوية التي استكلمت حلقاتها وما تزال، في جزء منها ترهن التربية بالتقاطبات السياسية التي ظهرت في البداية؟ المغرب الذي نريده اليوم لا بد من أن تكون له كل الوسائل والقدرات لتملك حقل من الحقول المعرفية، والقدرة على التواصل، مما يطرح اشكالية اللغات . فلم يعد من المعقول أن نهدر 3 الاف ساعة على طالب في الجامعة ( اي 4 سنوات) لكي لا يتقن اللغة العربية في النهاية!! ثم كيف نبني مغربيا قادرا على التفكير العلمي ونتمثل البشرية المتجهة للعلم.. ولا نضع تناقضا مفتعلا بين تقوية العلم وبين هوية دينامية في كل فضاء المجتمع! تناقض مفتعل يفتح الباب للمزايدة السياسوية التي تعرقل المدرسة المواطنة المنتجة للمعرفة الضرورية ، لا للخلاص الفردي، بل للخلاص الجماعي.. التشخيص لقد توحد التشخيص بالنسبة للتعليم واصبح الكل متفق عليه، ولا بد من التذكير بالمجهودات التي بذلت من اجل خلق ارضية مشتركة حول الموضوع، ولعل اهمها هو تقرير الخمسينية والميثاق الوطني حول التعليم. ومن بين عناصره الاساسية، الاتفاق على تطور مؤشر التمدرس وارتفاعه من 17 % في السنتين الاولتين من الاستقلال إلى 92 % في السنين الاخيرة، و هو ارتفاع استطاع ان يقلص الفوارق بين الجهات وبين الجنسين، لفائدة التلميذة القروية.. ونلاحط أيضا أنه إلى حدود السبعينيات، كان التعليم يؤدي مهتمه الوطنية، اجمالا طبعا، وبالرغم من كل الازمات التي دارت حوله أوإلى جانبه، وفيه، وبالرغم من كل ما سجلته الفئات المعنية، والتيارات المجتمعية، بالرغم من الثغرات والهنات المسجلة منذ انطلاقه، وبالرغم من التزايد الديموغرافي، فقد استطاع النظام التعليمي أن يمكن من وصول المغاربة إلى المدرسة، وبالتالي كان وسيلة أو اسانسير اجتماعي وخزانا للاطر لفائدة الإدارة المغربية وللاقتصاد الوطني.. المدرسة العمومية، الوحيدة في الميدان التي تحتكر التمدرس، كانت تضمن الوصول إلى التحديث والعصرنة، والحيوية المجتمعية والانفتاح على العالم.. ومع توالي سياسات التقويم الهيكلي، والضغط الديمغرافي والفشل في التنمية، اصبح التعليم حقلا للتجارب ولمشاريع الاصلاح المتتالية، كعنوان كبير على الازمة.. مظاهر التعثر نجدها اليوم في كافة المجالات المجتمعية والسياسية والاقتصادية و حول مكانة المراة في البلاد وحقوقها، وفي تعثر حركية الالية الديموقراطية ، انتشار قيم المواطنة والتقدم ، وفي الشغل والتنافسية الاقتصادية.. الشىء الدي جعل التربية في قلب تخلفنا ... لقد سجل تقرير المغرب الممكن الذي كان قد اشرف عليه الفقيد زيان بلفقيه، إن نصف قرن من التعليم قد طبعته الترددات والتقلبات في ما يخص الاختيارات الاستراتيجية.. والمحصلة التي تبينها الحاجة الى قرارات شجاعة، هي اننا لا نختلف حول التشخيص ولا حول جديته وتفاصيله، ما ينقصنا اساسا هو عدم فعالية كل الوصفات التي طرحناها لعلاجه.. فالجامعة والبحث العلمي الذي تقدمه ، تبين بأنها هامشية في الحياة الادارية والاقتصادية، الشىء الذي كلفنا كثيرا من حيث تنافسية البلاد برمتها ومن حيث اندماحها في الاقتصاد، المعرفة والعلم.. وهناك اولا طلاق الاقتصاد والتربية ،بدأت الازمة انطلاقا من الثمانينات، عندما كان الحديث الغالب هو التقويم الهيكلي ،والازمات والمواعيد المؤجلة .. وبدأ الانفصال بين التربية والتكوين ، والاقتصاد الوطني في الوقت الذي بدأت قدرة القطاع العام عن متابعة تطورات السوق التربوية.. وبدأت البطالة المكثفة والجماعية، كميا ونوعيا ببطالة أصحاب الشهادات.. ومع توالي الاخفاقات، تكرس الاحساس بلا جدوى المدرسة العمومية ، حتى لدى الطبقات الاجتماعية التي لا حل لها سوى التعليم للخروج من حضيضها الاجتماعي.. كما نلاحظ اليوم بإجماع أننا خسرنا النخب التي بامكانها أن تدافع عن المدرسة العمومية و هي فئات مجتمعية ميسورة نوعا ما «هاجرت» إلى المدرسة الأجنبية ( البعثات) أو المدرسة الخاصة! الفئات الميسورة بدأت اللجوء إلى القطاع الخاص بشكل مكثف.. والبعثات الاجنبية، فكان لذلك أن كرس الخصاص لدى المدرسة العمومية بحرمانها من دعم النخب وانخراطها في الدفاع عنها.. وكان الخط الفاصل بين المدرسة الخاصة والمدرسة العمومية هو نفسه الخط الفاصل بين الفئات داخل المجتمع، وتحول الشرخ التربوي إلى شرخ مجتمعي.. وفقدنا العلاقة مع الاقتصاد والعلاقة مع المجتمع، ولم يعد لشعبنا الحد الادنى من الشعب المتعلم!! مظاهر التعثر كبيرة اليوم، ومن مظاهرها ايضا الأمية التاريخية: بالرغم من كل ما تحقق في الأمية، فإن الحقيقة المرة هي أن عدد الأميين تضاعف في المغرب، (نعم تضاعف باحصائيات رسمية..)، نحن لا نكتفي برقم من اعلى الارقام..بل إن 6 ملايين امي في سنة 1960 اصبحت اليوم 12 مليون امي في الالفية الجديدة! وهو ما يبين بأن الأمية تتغذى من الفشل في تعميم التمدرس او الهدر المدرسي.. في حين أن الحل الكامن في التربية غير النظامية ما زال في بدايته لأنها تعطلت في بلادنا( بدأت في 1996 ) وما زالت تشتغل بوسائل «على قد الحال» ( 141 الف- مقابل 2 مليون طفل..).. الوظيفة الاقتصادية والاجتماعية للمدرسة تراجعت ، بل يمكن الجزم انها تعطلت تماما بالرغم من ارتفاع النفقات التعليمية ، فان انهيار التعليم وتراجعه واندحاره يتزايد ، وقد ظهر ذلك على كل المستويات، سواء تعلق الامر بسوق الشغل او نوعية المعارف ومتانتها او الوظائف المواطنة والمجتمعية للفصل الدراسي.. المبادئ الاربعة التي رسا عليها التعليم العمومي ( التعميم، المغربة، التوحيد والتعريب ) كلها اليوم موضع سؤال، واذا كان الميثاق الوطني قد قال بموتها الاكلينيكي، بلغة محتشمة، فإن التعميم حاصل اليوم بنسبة كبيرة، والتعريب لا يطرح حاجة معرفية بقدر ما يطرح كرهان مجتمعي، واصبح معرفيا لا يتجاوز «ترجمة» للمعارف المستوحاة من لغات اخرى، وكل هذا يطرح علينا الجرأة في وضع الأولويات بعيدا عن صياغة الرهان السياسي بلغة المعرفة الملفقة!