{ خلية وحيدة في حزب وحيد اسمه «عمي الطاهر» { كاتب كبير وفاعل ثقافي من طراز خاص { الولي الطاهر رابط طويلاً في (الجاحظية) وأرخ للجزائر بطريقته «الشهداء سيعودون». قالها عمّي الطاهر، وربما هذا الأسبوع. عمّي الطاهر أحد الأنبياء المنسيين في هذه المدينة. عينه ترى كل التفاصيل التي تغيب عنّا«. هكذا تحدث الحسين بن المهدي بطل رواية «ضمير الغائب» لواسيني الأعرج عن الطاهر وطار: عمُّ الجزائريين والمغاربة، الطائر الحُر والكاتب المثير للجدل الذي غادرنا الأربعاء الماضي، ثلاثة أيام فقط قبل حلول عيد ميلاده الرابع والسبعين، بعد صراع طويل مع المرض دام ثلاث سنوات. في بداية الستينيات، نشر الطاهر وطار مجموعة قصصية تحت عنوان «دخان من قلبي». وفي 1974 صدرت روايته الأولى «اللاز». ومنذ ذلك الحين، تخصّص في كتابة تاريخه الموازي الخاص وغير الرسمي لجزائر ما بعد الاستقلال. في «اللاز»، رصدَ تناقضات الثورة الوطنية الجزائرية. وفي «الزلزال» (1974) راقب التحولات الزراعية للبلد، فيما حاول في «العشق والموت في الزمن الحراشي» (1982) التأريخ لمرحلة الثورة الزراعية والتسيير الاشتراكي للمؤسسات. وعالج في «الحوات والقصر» (1974) و«تجربة في العشق» (1989) ازدواجية إيديولوجيا البورجوازية الصغيرة. اختيارات طبيعية لكاتب طليعي تموقع منذ البداية في خندق «الواقعية الاشتراكية». لكنه واقعي اشتراكي على طريقته الخاصة. منذ «اللاز»، سيوظف وطّار البطل المُضاد بدل البطل الإيجابي، كما وظف التجريد والسريالية في «عرس بغل» و«الحوات والقصر» قبل أن يستلهم التراث الصوفي ويلبس جُبَّة الولاية في أعماله الأخيرة: في «الشمعة والدهاليز» (1995) من خلال شخصية سيدي بولزمان، ثم في عمليه الأخيرين «الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي» (1999) و«الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء» (2005). «يا خافي الألطاف نجِّنا مما نخاف»، هكذا كان الولي يردد وهو في طريقه إلى مقامه الزكي حيث تتداخل العصور والأزمنة ليتأرجح وطّار بينها مُسائلاً التاريخ العربي الإسلامي في لحظاته الأكثر التباساً: منذ غزوة بدر وقتل خالد بن الوليد لمالك بن نويرة... حتى اعتقال صدام حسين. قبل أن يعكف وطار في مقامه الصيفي على شاطئ «تيبازة» أشهراً قليلة قبل مرضه ثم وهو على سرير المرض في باريس على كتابة عمل روائي جديد بعنوان «قصيدٌ في التذلل» تناول فيه مسار اليسار في الجزائر وثنائية الثقافي والسياسي، وكيف يسعى الثاني إلى تدجين الأول دون أن يبخل بسياط الهجاء على الشعراء والمثقفين الذين استهوتهم إغراءات السلطة. قصيدٌ من نوع مختلف إذن نذره لهجاء الشعراء، ودعوة سرية خاصة وجّهها الولي الطاهر في هذا العمل إلى المتنبي أحد شعرائه المفضلين. لكن الطاهر وطار ليس مجرد كاتب روائي، بل هو فاعل ثقافي من طراز خاص. و 8 شارع رضا حوحو في الجزائر العاصمة ليس مجرد عنوان عادي لجمعية صغيرة اسمها «الجاحظية» يرأسها الرجل، بل هو عنوان دينامية خلاقة لمشهد ثقافي جزائري حيّ. اختيارٌ يبدو أنّ له الكثير من الخصوم في شارع الثقافة الجزائرية. كان الطاهر وطار يردد متحسراً: «لسنا سوى جمعية صغيرة تضم عدداً محدوداً من الغيورين، ولسنا بديلاً لاتحاد الكتّاب ولا للوزارة، ولا ندَّعي تمثيل جميع مثقفي الجزائر. مع ذلك، نعاني الحصار الذي تفرضه علينا ثلاث جهات: البيروقراطية التي ترى فينا الدليل على إمكان الفعل الثقافي بإمكانات محدودة. الفرنكوفونيون الذين يقاوموننا بشدة على اعتبارنا البديل الصحيح للمشاريع اللاوطنية واللاشعبية التي يُروِّجون لها. ثمَّ هناك بعض المُعرَّبين الذين يزعجهم نشاطنا على اعتبار أنه يفضح اتِّكاليتهم. «الجاحظية» هي ملحمة اصطدام العقل العربي الواعي هنا في الجزائر بغيره من عقل غيبي متخلّف، وعقل غربي متعال، وآخر عروبي اتكالي». بالنسبة إلى وطار، لم تكن «الجاحظية» مجرد جمعيّة يترأسها، أو فضاء ثقافي ألفه، بل صارت له مبرِّرَ وجود. خلال ظهيرة حارة من أيلول (سبتمبر) 1992، كنت أسامر الولي الطاهر في مكتبه في الجاحظية، عندما تلقى مكالمة من مجهول تهدّد بأن هناك قنبلة زُرعت في المقر ستنفجر بعد ثلاث دقائق. بعدما أطلعني عمّي الطاهر على مضمون المكالمة، غادرتُ المقر للتو، وخصوصاً أنّ عملية تفجير مطار الهواري بومدين كانت جرحاً طرياً لا تزال، لكن وطّار أصر على البقاء في تحدٍّ أعمى وعناد غريب. بعد ربع ساعة تقريباً، عدت إلى الجاحظية لأجد عمي الطاهر متخشباً فوق كرسيه. طبعاً، اتضح أن البلاغ كان كاذباً، لكنني اكتشفتُ في الوقت عينه أنّ «الجاحظية» صارت للطاهر وطار جسداً ثانياً ومقاماً زكياً آخر لا يمكن لروحه أن تغادره إلا في اتجاه السماء. والآن بعدما صارت عودة الولي الطاهر إلى مقامه الزكي حقيقة مؤلمة لا أدباً ومجازاً فإن الكثير من أسئلته الثقافية تفرض نفسها على الشارع الثقافي الجزائري والعربي. فوطار كان دائما مرتابا من النخبة فاقدا للثقة في اختياراتها، حتى حينما اصطف الجميع إلى جانب النظام الجزائري ضد جبهة الإنقاذ تقمص وطار دور أبي ذر الغفاري وأصر على أن يمشي وحده ، خارج الاصطفاف. كان موقفه الثقافي من الأصولية واضحا، لكنه لم يتردد مع ذلك في التصريح بأنه إذا ما خُيِّر بين هويته التي يُعيد التيار الديني جزءا منها وبين حريته الشخصية لاختار هويته. وهو الموقف المعقد الذي يشرحه قائلا: «إذا ما استولى الفرانكفونيون على الحكم في الجزائر وانفردوا بقيادة الشعب الجزائري وتوجيهه، فإنهم سيجعلون من الجزائر بعد فترة من الزمن سينيغالاً أبيض. وبعد عشرة سنوات فقط، سنفقد كل شيء: لغتنا، آدابنا، أعلامنا، وتاريخنا. أما إذا استولى على الحكم غير هؤلاء، وليكونوا إسلاميين، فإنهم قد يعبثون، ويعيثون فساداً، بل قد يُسيلون الدماء رقراقة، لكن أنا واثق أنه حتى بعد قرن، سيبقى الشعب الجزائري محافظاً على شخصيته.» الكثير من الغمز طال موقف الطاهر وطار تلك السنوات حتى إن العديد من أدباء المشرق كان يستغربون حينما يلتقون صاحب (اللاز) في الملتقيات العربية كيف أن الرجل لا يزال بلا لحية. وكان وطار يجب صعوبة في شرح موقفه: «أنا لا أدافع عن الإسلاميين، بل عن الشعب. نحن أمام شعب خائف من الذوبان. شعب فقد الثقة تماما في بورجوازيته الوطنية. لقد خدعته بالأمس باسم الاشتراكية. واليوم حاولت أن تعيد الكرة باسم الديمقراطية واقتصاد السوق. والشعب يرى أن هذه البورجوازية وقحة لا تريد الاعتراف بالأمر الواقع كما هو الشأن بالنسبة لبورجوازيات المعسكر الاشتراكي التي أعلنت إفلاسها وانسحبت من الساحة « . أما النخبة الثقافية فقد ظل وطار على خلاف دائم معها. وسر الخلاف هو القطيعة الثقافية التي تفصل هذه النخبة عن مجتمعها. وهنا يطرح وطار السؤال الموجع بوضوح: «لماذا لا يثق فيَّ شعبي؟ طوال حياتي وأنا أقاوم النظام، وأنا مهدد من طرف النظام، أو منفي في باريز أو هارب إلى هذا البلد أو ذاك، وبعد ذلك يأتي النظام ليحرسني ويحميني من شعبي. إنها مفارقة تاريخية كبيرة « . هكذا تكلم وطار، اعتبره العديدون شعبويا، وآخرون متذبذبا. قال البعض إن التعليم الديني الذي تلقاه في مقتبل عمره بجامع الزيتونة قد أعطى أكله، ورأى آخرون أن المدير السابق للإذاعة الوطنية الجزائرية جرَّب هو الآخر أن يتعاون مع النظام في فترة من حياته ففشل في ذلك، لكن عمي الطاهر الذي عرف دائما كيف يخلق الزوابع وينسحب منها كانت له على الدوام وجهة نظر أخرى. فالإطار البارز في حزب جبهة التحرير الوطني الذي التحق بالجبهة منذ 1956 ليُحال على المعاش وهو في السابعة والأربعين بإيعاز من العسكر بسبب قصة قصيرة نشرها سنة 1984 في الآداب البيروتية تحت عنوان (الزنجية والضابط) لم يتقبل إبعاده من المسؤولية الحزبية فقرر الانتحار. لكن ديوانا شعريا لفرنسيس كومب وضعته الأقدار في طريقه سيطرد الفكرة من رأسه. وهكذا عوض الانتحار عكف وطار على ترجمة ديوان apprentis du printemps Les (ممتهنو الربيع). وبعدها ألح عليه طيف أبي ذر. وهكذا قرر عمي الطاهر من جديد أن يمشي وحده ويأكل وحده إلى أن مات وحده في عيادة الأمراض القلبية ببئر مراد رايس، بعيداً عن بيته في حي «حيدرة» الهادئ بالجزائر العاصمة وعن ملاذه الصيفي في «شنوة بلاج». ولوحده واصل صاحب (الحوات والقصر) على امتداد عمر حافل بالعطاء الطريق «خليةً وحيدةً في حزب وحيد، وهو الحزب الذي أُطلق عليه فيما بعد اسم: عمي الطاهر».