صدر للمبدع الجزائري الطاهر وطار الجزء الأول من سيرته الذاتية بعنوان "أراه... الحزب وحيد الخلية، دار الحاج محند اونيس" عن منشورات دار الحكمة بالجزائر ويقع في 156 صفحة يضم ملاحق تتمثل في ملاحظات سريعة لبعض الكتاب الجزائريين بعد أن قرؤوا العمل. "" وما يلفت الانتباه في هذه السيرة هو اختيار صورة المؤلف المثبتة على صفحة الغلاف، حيث نراه يشد بأصابع يديه على جبهته مما يبين أنه كان في حالة تعب أو قلق أو تفكير عميق نتيجة السهر على الأنشطة الثقافية التي يشرف عليها في جمعية الجاحظة، وهي بذلك ربما تلخص بشكل أو بآخر القسم الأول من هذه السيرة التي تضم ثلاث مراحل من حياة الروائي: إحالته إلى التقاعد وهو في نهاية العقد الرابع من عمره فقط، و الوحدانية ثم طفولته. نلاحظ أن المؤلف وجد طريقة خاصة ربط بها الأحداث إذ بدأ بالحاضر ثم حكيه عن الطفولة وربطهما بالوحدانية التي رمي في أحضانها بعد أن قرر المسؤولون في الحزب إحالته إلى المعاش، حيث يظهر الكاتب غضبه متكلما كما عاهدناه بكل صراحة ودون لف ودوران تجاه كل من كان وراء إبعاده عن عمله "مرغم أخاك لا بطل حيث يقول: "منذ اثنتين وعشرين سنة، حاولت هنا الانتحار... أُحلت على المعاش وأنا في السابعة والأربعين، إحالة سياسية واضحة بيّنة، فقد سبق ذلك مراسلات من المؤسسة العسكرية، إلى مسؤول جهاز حزب جبهة التحرير الوطني، تشكو مما ورد في قصة "الزنجية والضابط"، المنشورة في مجلة الآداب ببيروت، وتلفت النظر إلى وجود عنصر خطير ضمن إطارات الحزب". أي أن الطاهر وطار الذي كان مفتشا للحزب لم يترك القلم والإبداع، مما كان يزعج الساهرين على الحزب الذي لم يكن منظما فيه بالطريقة الدوغماتية التي تتطلب منه أن يقول كل شيء عن الآخرين، المهم ألاّ يمس الحزب وهذا ما يتطرق إليه مطولا ليحكي لنا بعض قصصه بعلاقته مع "بعض الرفاق" والسياسيين الذين تورطوا في حفر الهوة بينه وبين الحزب، مما أدى بالمسؤولين إلى الاستغناء عنه، "وجدت نفسي مبعدا بطريقة لبقة من الجهاز المركزي، إلى محافظة الجزائر، كمراقب جهوي، بعد أن كنت مراقبا وطنيا". هذا رغم أنه كان يرى في هذه المحافظة كما يقول بعد انقلاب 1965 أنها "مؤطرة بعصابة من الجهلة، وأشباه الأميين، وذوي الأخلاق الفاسدة". وبعد أن يصفي حساباته مع الجهاز الحزبي يكلمنا عن بعض المشاريع الإبداعية و السينمائية التي وعد بها ولكنها لم تر النور أبدا إذ يقول في الصفحة 17:"جاء مدير الإنتاج في التلفزة السورية، المخرج لطفي لطفي، إلى الجزائر، واستدعاني مدير التلفزيون يومها، زميلي في الدراسة بمعهد بن باديس، السيد حراث بن جدو، وعرض علي مشروع لطفي لطفي، تلبية لاقتراح بن جدو عندما كان في سوريا، وهو إنتاج روايتي "الزلزال" فيلما مشتركا"، هذا الاقتراح أسرّه كثيرا، ولكنه بعد أن شرع يعمل في تهيئة السيناريو جاء الرفض بحكم أن صاحب الرواية شيوعي ويعترف الطاهر بذلك في الصفحة 28 حينما يقول: "لكل شيء ثمن، وأنا ما أنفك أدفع ثمن اختياري الإيديولوجي. ولربما يعود جلدي، إلى عدم انتظاري للرحمة من أعدائي الطبقيين. لعلني قلت في نفسي، إن هذا من حقهم، في إطار المعركة التي نخوضها"، ثم يتكلم عن المراحل التي مر بها كمناضل وعن الشخصيات المهمة التي أثرت فيه وتلك التي أتعبته غير أنه يعترف بأن الشيوعية التي يؤمن بها هي "غير الشيوعية التي نعرفها.. شيوعية، لا خصومة لها لا مع الله، ولا مع المؤمنين به، لا تتعارض، بل تتكامل، مع الأنبياء ومع الرسائل السماوية. شيوعية تؤمن بأن لكل جيل من الأجيال رأيا في مصيره، ومطالب تختلف عن مطالب الأجيال السابقة، شيوعية تؤمن، بالدورة التاريخية، للمجتمعات، حتى وإن قدّمت لها جنة عدن. شيوعية تؤمن بأن الله، إن كان مجرد كذبة، فهو الكذبة الأكثر قربا إلى التصديق.. والأكثر تصديقا في العالمين". إذن فبالإضافة إلى مواقف الرجل الحزبية وإلى انتماءاته الإيديولوجية التي كانت أحد الأسباب التي أحالته على المعاش، ها نحن نراه يوضح موقفه من الشيوعية التي يعتبر أنها يجب أن تكون إنسانية تحترم عقائد الناس وتكون مبنية على حوار دائم وعلى أساس ديمقراطي، وأن لا تخدم طبقة على حساب أخرى، فهكذا وبعد أن يحدثنا في هذا المحور عن التزاماته السياسية والأيديولوجية وإحالته على التقاعد نراه يكلمنا عن الوحدة حيث وجد نفسه في بيته الصيفي الكائن على شاطئ البحر على مقربة من الجزائر إذ لا يسمع المرء "ها هنا سوى أن يخاف خاصة عندما يكون البحر يزأر بطريقته الخاصة" وشيئا فشيئا راح هذا الوكر يتحول إلى هيكل مقدس وإلى مقام زكي. كما يحدثنا عن الفضاءات التي تم إنجاز بعض أعماله فيها، ألا وهي المقاهي إذ يقول بأنه أنجز عمله الروائي رمانة في مقهى بالجزائر العاصمة والزلزال بقسنطينة والحواب والقصر بسد غريب بعين الدفلى، وهكذا تختلط الذكريات بالأعمال الإبداعية التي يتطرق إلى الأسباب التي دفعته لكتابتها، وينطلق في معظمها من وقائع ملموسة، لكنه جعل من هذه الوحدانية ورشة للعمل الدؤوب بحيث يقول: "أستسلم للنوم والكسل وشم رائحة المطبخ، والامتلاء بفراغ المنزل، أشهرا ثم أنشغل بالتجارة أتدبرها، وأتزوج ثانية وأملأ الدار بالأولاد والبنات.. أتحول إلى سكير مدمن. أعجل، بما تبقى لي من أيام.. أنتحر، "وهذا ما أنا مقدم عليه الآن"". ثم يواصل قائلا: "أجيء غير مرفوق بزوجتي، محملا بالوحدة والعزلة، والشيخوخة المبكرة، مفصولا عن كل نشاط اجتماعي. تمنعني عزة نفسي وكبريائي، من الاشتغال في الصحافة تحت إمرة أحدهم."، فكما نرى الطاهر وطار يتحدى الوحدة التي لم يكن مهيئا لها، لأن المثقف وفي البلدان المتقدمة لا يحال على المعاش لكونه مبدعا، لذا يبدو أنه وجد بديلا في الكتابة والإبداع خاصة هو الذي دخل مغامرة القول وهو صغير بفضل عمله المتواصل وحلمه بتغير وضعه، ليصبح أحد الروائيين المبدعين الكبار ليس في الجزائر فحسب بل في العالم العربي وقد ترجم إلى عدة لغات أجنبية أخرى وهو ينهي عمله بالقول التالي:" أُبعد حل الانتحار، نهائيا، وعوض بمهمة جديدة.. هي التفرغ للأدب، وللثقافة العربية، في هذا البلد المستهدف: خلية وحيدة في حزب وحيد، هو الحزب الذي أطلق عليه فيما بعد اسم: "عمي الطاهر" وهنا يقصد مشروعه الثقافي المميز الذي أطلق عليه اسم الجاحظية تيمنا بالجاحظ حيث أصبح هذا المشروع مؤسسة ثقافية ساهمت في خلق نشاط ثقافي دائم ومستمر. ومن ثم نجده يكلمنا عن مرحلة الطفولة وهو يعلن منذ البداية تعلقه الكبير بجده الشهم محند أونيس، الذي ترك بصماته في الطفل وطار حيث يتكلم عن الجو العائلي وطفولته وأقاربه وأعمامه وعماته وخالاته وأخواله وعن بداية حبه لفتيحة إذ يقول "لا أدري كيف علمت أن اسمها فتيحة، وأنها من الأسرة التي تزوجت فيها للمرة الثانية خالتي فاطمة أمّ بعزيز" ثم يضيف "نحن الأطفال، حين نحب أحدا، نتمنى أن يتحول كلانا إلى الآخر، تتساكن أرواحنا في جسدينا، وتحولهما، إلى جسد واحد، لننعم بالرضا والهناء، وبصفة خاصة بالتفرد ببعضنا، بعيدا عن الآخرين وفضولهم"، هذا شيء متعلق بذاكرة الطاهر وطار عن أول إحساس إنساني بالذات المتعلقة بالأخرى الفتاة التي تعلق بها لكنه أيضا يواصل قائلا عن الذاكرة "كنت صغيرا لا شيء في ذاكرتي، إلا ما ألمسه من حولي وما يضيفه الناس، وكانت ذاكرة الجميع، ممحوة، مطموسة، لا تتعدى ما عاشته أو تعيشه، أو بعض الأساطير والخرافات". فالذاكرة كما نرى هي مزيج من الخرافي والأسطوري والواقعي، لذا نراه يتكلم عن المناطق المجاورة للبلدة التي ولد فيها يشرح الأسماء ويذهب للبحث عن بعضها في بطون أمهات الكتب ككتاب الإدريسي أو بعض الرحالة العرب الآخرين أو الروائي أبوليوس صاحب رواية الحمار الذهبي الذي يعد أول من أنجز عملا روائيا في العالم وكان قد ترعرع وعاش وتوفي في الجزائر "آب أوليي" الذي أفهم الآن أن اسمه لقب مكون من كلمتين، هما "أب"، وتعني ذو أو صاحب والنسبة عموما، و"أوليي" وتعني الأغنام، وهذا ما ترجمه العرب فيما بعد ب"الشاوي" أو "الشاوية"، أو حينما يذكر القديس أوغسطين ابن سوق أهراس الذي كان "يتعلم بمداوروش على بعد أقل من عشرين كلمترا جنوبا، النحو والصرف وعلوم البلاغة"، أو عن المعارك بين الفينيقيين وبين الرومان، أو بين الواندال وبين البيزنطيين، أو العملاق تاكفاريناس، وهو في السبعين يلاحق فرسه فيلحقها ويركبها، ونسي الجميع الاصطدامات التي حدثت بين الجيوش العربية الفاتحة، وبين ملكة البربر، الكاهنة، التي لم يحتفظ لها التاريخ سوى ببئر "بير العاتر بتبسة" يحلف الناس برجاله حتى الآن، وهم لا يعرفون، ما إذا كان رجال البئر هؤلاء مسلمين، صحابة، أو تابعين، أو من رجال الكاهنة، وقلّ من يعرف معنى كلمة "المسكيانة"، كما كلمنا الطاهر وطار في هذه المذكرات عن الأعراس والأفراح وكيفية تنظيمها وعن الرقصات التي تؤدى فيها "قبل العرس بأسبوع"، تقام "السهريات".. يتجمع شباب الدوار، والفرقة الفنية، بعد الغروب، ويشرعون، في إقامة الحفل.. يقصب القصابة، ثم يغني المغني، وتصحب كل ذلك طلقات البارود، ثم يلحق أهل العرس بالسهرية، فتخرج الراقصات من وراء الدراقة، يدككن الأرض بأرجلهن، ويهززن بطونهن، على إيقاعات الزندالي القوية، متحديات لذكورة كل رجل، وتصدح الزغاريد"، ولاشك في أن ما قاله الأستاذ عز الدين ميهوبي عن هذا العمل يلخص بطريقة مختصرة ما تطرق إليه المبدع والكاتب الجزائري الطاهر وطار إذ يقول: "فهو يتناول التاريخ بتجلياته والأفراد بأمزجتهم والسياسة بألاعيبها والكتابة بمتاعبها والنضال بانحرافاته والعلاقات الإنسانية باختلاف أهوائها كما لو أن حياة كل إنسان ليست أكثر من دراما فيها شيء من الملهاة والمكابدات"، فكما نرى أن الطاهر وطار أضاف إلى مذكراته، "أراه... الحزب وحيد الخلية"، دار الحاج مجند أونيس، موحيا إلى جده. وهكذا عبر هذا الكتاب نقرأ سيرة الرجل الذي تكلم فيها كما قلت بصراحته المعهودة غير أنه عوض أن يبدأ بالطفولة وينتهي بالتقاعد عمل العكس وهي لفتة إبداعية تكلم من خلالها الطاهر وطار عن الذات وعلاقتها بالآخرين الذين كانوا جزءا مهما في تكوينها وبلورتها، كما تحدث عن آخرين أساؤوا إليها وأشار من خلالها إلى الطفولة والشباب، وتحدث عن الذين كوّن معهم الطاهر وطار مفاتيح الحلم أثناء وبعد ثورة التحرير التي عايشها كمجاهد وكمثقف وكصحفي ليروي لنا بعضا من صفحاتها التي نأمل أن يتطرق الطاهر وطار وبشكل أقل عجالة إلى الحديث عنها في أجزاء أخرى. * باحث جزائري - مدير مكتبة معهد العالم العربي في باريس