لم يكن عمي الطاهر كاتبا عاديا، كان عمي الطاهر استثناءً، أديباً روائيا يبحث عن التغيير بالسطور التي يخطها عندما تتعب رجلاه من المشي في الأزقة الضيقة المؤدية إلى مقر الجاحظية، المكان الذي أحبه عمي الطاهر ورسم فيه أحلامه في الكتابة والتواصل. عمي الطاهر لم يكن راضيا عن الوضع في الجزائر، كان ينتقده باستمرار، بثلاث لغات، لغته في الصحافة الآتية من عمله في الصحافة اليومية والأسبوعية مند الستينات، وآخرها جريدة الشعب التي أسسها عمي الطاهر سنة 1973 وأوقفتها السلطات سنة 1974 لأنه حاول أن يجعلها منبراً للمثقفين اليساريين. ولغتة في السياسة التي دشنها مساره السياسي المبني على مواقفه الوحدوية والديمقراطية، سجلها في عمله في الحياة السرية معارضا لانقلاب 1965 حتى أواخر الثمانينات، واتخاذه موقفا رافضا لإلغاء انتخابات 1992 ولإرسال آلاف الشباب إلى المحتشدات في الصحراء دون محاكمة، وهو الموقف الذي همش بسببه عمي الطاهر، إلاّ أن تمسكه بهذه المبادئ جعله شعلة في أوساط الباحثين عن متنفس ديمقراطي في الجارة الجزائر. لكن عمي الطاهر تمسك بالعمل الجمعوي ورسم محطاته الداخلية والخارجية مرة من مقر الجاحظية الذي يقع في قلب الأحياء المهمشة بالجزائر، ومرة بمقر منزله الذي حوله إلى منتدى يلتقي فيه المثقفون باستمرار، ولغته الأدبية في «الشهداء يعودون» إلى «الهارب» إلى «اللاز» إلى «عرس بغل» إلى «العشق والموت في زمن الحراشي» إلى «تجربة في العشق» إلى « الشمعة والدهاليز» إلى «الولي الطاهر» ناهيك عن أعمال أدبية آخرى. عمي الطاهر هذا المحافظ على قيمه ومبادئه، رجل آت من بيت فقير متواضع، يتربع على عرشه جد من صفاته الأنفة والكرم رغم أنه أمي، وأب زهيد وقنوع ومتواضع، وأم طموحة وحساسة ومرهفة، كل هذه الصفات ورثها عمي الطاهر، لكن الحداثة كانت قدره ولم يمليها عليه أحد. كاتب استهواه الفكر الماركسى واعتنقه وأخفاه عن جبهة التحرير الوطني، كما أخفى أشياء كثيرة، سيعلنها بعد ذلك من أجل طلاق رسمي مع حزب يقول عنه أنه لم يعد حزب القيم والنضال بل أصبح حزباً ينفذ مصالح الجنرالات وأصحاب المصالح الكبرى الذين قادوا الجزائر إلى الحافة. كان هذا الكلام الصادر عن عمي الطاهر يقوله وهو يحب وطنه الجزائر، لكن قدرته على الفصل بين الوطن وبين المدبرين لشأنه العمومي، كانت تشد مسامعنا، ونحن نسائل عمي الطاهر عن أسباب نفوره من السياسة رغم أنه بدأ مساره سياسيا، يضحك عمي الطاهر وهو يعدل طاقيته السوداء التي لا تفارق رأسه، كما هي حقيبته اليدوية الصغيرة، ويقول: «يا بنتي خلينا في الجاحظية وكتبها وجوائزها»، لكن الأسئلة تجرنا إلى واقع مرير، خوفا على عمي الطاهر من رصاصة طائشة، يقولون أنها لأحد المتطرفين، يجيب عمي الطاهر «إنني أخرج من بيتي إلى مقر الجاحظية بشكل عادي، وأنا لم أتعرض لأي سوء حتى في السنوات التي تلت 1992، بداية الأزمة في الجزائر...». فعلا كان عمي الطاهر يخفى شيئا وراء كلامه هذا، وتساءلت لماذا لم يشن هجوما على الإرهابيين كما فعل باقي المثقفين الجزائريين؟ ولماذا لم يغادر إلى فرنسا كما فعل واسيني الأعرج وزينب الأعوج وآخرون، وألمانيا كما فعل الأمين الزاوي وربيعة الجلطي... ولماذا... ولماذا؟ أسئلة حطت رحالها فعلا عندما عقدنا ندوة «الإرهاب الفكري» بمقر الجاحظية بالجزائر العاصمة، بتعاون مع جمعية الكوديسيريا بالسنغال ومركز الدراسات العربية الإفريقية بمصر. لكن عمي الطاهر كان يلوح بكلماته التي تجمع بين الأدب والسياسي «أن الإرهاب في الجزائر ليس كما تقرؤونه أو تشاهدونه في الإعلام الرسمي». مات عمي الطاهر، عاش عمي الطاهر بيننا كمغاربي وحدوي، تمنى قبل موته أن يقطع المسافة براً من الجزائر العاصمة إلى مقرات وبيوت أحبائه بالرباط والدار البيضاء لكن حلمه دفن معه كما دفنت أحلام شعوبنا المغاربية التواقة إلى فضاء مغاربي بدون حدود وهمية.