هل تسير حضارتنا رأساً صوب الهاوية؟ ذلك هو السؤال الذي أدار عليه إدغار موران، عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي، وأحد كبار المفكرين وأكثرهم أصالة في زمننا الحاضر، كتابَه الجديد، الذي نقدم له ههنا ترجمة عربية. إنه كتاب يجمل فكر صاحبه، من رحلة طويلة في مقاربة الواقع العالمي المتغير وسؤال الفكر الملاحق لتغيراته. والمؤلف يستعرض في هذا الكتاب أوجه الأزمة التي تتخبط فيها الحضارة الحديثة، ويتوقف بإسهاب عند الإصلاح الذي يقترحه للعالم ولنظم التفكير. ويقلب النظر في ظواهر بعينها، كالعولمة، وظهور «المجتمع العالم»، ويتمعن في الجواب الذي يمكن أن تقدمه «سياسة حضارية» في سياق ما بعد أحداث 11 شتنبر. ليخلص إلى نتيجة أنه لاسبيل لحضارتنا إلى الخروج من أنفاقها المسدودة بغير التحول. لقد طالت الأزمة أساطيرنا الكبرى : التقدم والسعادة والتحكم في العالم. فكيف أمكن لفكرة التقدم أن تصمد للحربين العالميتين الرهيبتين، وتقاوم الفاشية، والستالينية، وتعود إلى الظهور من جديد، بعد الحرب العالمية الثانية، في صورة فكرة مستقبل مشرق في البلدان الشرقية، وفي صورة حضارة صناعية متقدمة في البلدان الغربية؟ وقد آل الأمر بهذه الأسطورة إلى التفكك ابتداء من الانفجار الذي حاق بالاتحاد السوفييتي، وحدوث ظواهر ارتكاسية. وقد بات المستقبل نفسه، اليومَ، في أزمة : فلم يعد وجود لتكهن، وإن هي إلا فرضيات، بله سيناريوهات. إن المستقبل يصبح شيئاً مجهولاً. وقد قال الفيلسوف التشيكي باتوك : «لقد استشكلت الصيرورة وستظل مستشكلة على الدوام». وأما في ما يتعلق بالتحكم في العالم، فلقد فقدنا لانهائياً زائفاً. فنحن ندرك، في الواقع، أننا كلما زاد تحكمنا في القوى المادية في العالم، إلا ويزيد حطنا بالمجال الحيوي. وقد كان في الاكتشاف الحديث العهد أن النظام الشمسي لا يزيد عن ضاحية صغيرة من العالم، انهارت كل فكرة عن القدرة البشرية على العالم. أفلا يكون أفضل لنا أن نرتب أرضنا وكأنها لنا بيت مشترك؟ لقد باتت أسطورة السعادة هي الأخرى في أزمة. فقد بدأ الناس اليوم يدركون أنه إذا كانت المنتجات الإيجابية للسعادة تظل قائمة، فإن منتجات صغرى سلبية تظهر هي الأخرى : التعب، والإفراط في استعمال المحركات العقاقيرية النفسية والمخدرات... والنزعة الفردانية، من خلال تقويض التكافلات التقليدية، وهي نتاج أيضاً للعزلة، ونتاج للتعاسة. فالمدينة المتألقة تصير مدينة مجسية، بحياتها المعقلنة، وأشكال التلوث المهمينة عليها وكروبها. وقد خيل لنا أن في مقدورنا أن نبني حضارة تنعم الأمن، لكننا صرنا ندرك في الوقت الحاضر أن هذه الحضارة تخلق مخاطر جديدة، بدلاً من أن تزيل الخطر الواحد. وينبغي أن نتحدث كذلك عن أزمة الروح وأزمة الفكر؛ فهي أزمة تطلق نداء على الشرق الداخلي، وستمضي للبحث في الشرق الخارجي عن علاجات لها. فلماذا هذه الدعوة إلى اليوغية، وإلى البوذية، ذلك البحث في العهد الجديد، وكأن الحضارة المادية قد خلقت فراغاً روحياً وطلاقاً بين الجسد والفكر، طلاق ينجم عنه وسواس الهزال الذي يستحوذ على الساكنة من البدينين؟ وفي الأخير، فإن الأممالمتحدة، التي باتت اليوم عاجزة عن أن تحل لوحدها المشكلات، بسبب من التواقف الذي بات يسود كوكبنا الأرضي، قد صارت هي الأخرى إلى أزمة. لقد دخلنا عهد الاستشكال العام ونهاية الأساطير الكبرى، حتى وإن كانت ستظهر أساطير أخرى. إن معظم الحلول قد صارت، مشكلات، من غير أن تكف عن أن تكون مع ذلك حلولاً. وقد كانت وهذه الأزمة هي السبب في نشوء مفاهيم «الحداثة المتأخرة» أو «ما بعد الحداثة»، وهي حداثة مثيرة بحكم أنها تقيم قطيعة مع عبادة الجديد، في الهندسة كما في الفن. فالشيء الأجمل ليس هو بالضرورة الأشد جدة، بتعبير هارولد روزنبيرغ في كتابه «تقاليد الجديد». إن عبادة الجديد لا يزال لها وجود في الأسواق الممتازة، حيث «بونكس يصبن أفضل»، لكنها في سبيله إلى الزوال. فهل في الإمكان أن نأتي بإسم لما لم يظهر بعد، ولما يتبدى في صورة متقلبة ومشوشة؟ إن تضادات الحداثة قد بلغت أقصى المبالغ. فقد باب الأمر وكأن ثمة احتضاراً، بالمعنى الأصلي لهذه الكلمة، أعني صراعاً بين قوى الحياة وقوى الموت. ترانا سنصل إلى طور متحول من الحداثة؟ إن «التحول» يعني استمرار الهوية وتحولاً جوهرياً في آن واحد. تلك هي الدودة التي وقد تحولت إلى فراشة بعد أن مرت بطور الغذفة. إن سيرورات تحولية تجري. وهذا لا يعني أن التحول شيء متوقع أو مبرمج. إنني لا أقصي اللايقين واحتمالات التراجع، بله التخريب. بيد أنني وقد قدمت هذه الاحتياطات، سأقول إن هذه السيرورات قابلة لكي ترى، على الصعيد الأرضي، في مجيء العولمة، التي ستكون عهداً أخيراً في تكون النظام العصبي على صعيد كوكب الأرض برمته، بفضل الاقتصاد المعولم وبفضل التقانيات التواصلية الجديدة. أفلا يمثل هذا الأمر البنية التحتية لعالم جديد قيد الظهور؟ غير أننا لا يمكننا أن نتكهن، بكل يقين، بتحول في تاريخ البشرية. فلنفترض أن ملاحظاً خارجأرضياً قد قدم منذ خمسة مليارات سنة إلى كوكبنا وهي في حالة سديم. فالمؤكد أنه سيعود أعقابه إلى ألفا ده سنطور، وهو يقول إنه لن يحدث شيء مثير للاهتمام على الأرض، وهذا في الوقت نفسه الذي كانت الجزيئات الكبرى بصدد تكوين كائنات حية. وبعد ذلك، تكونت، انطلاقاً من مجموعات منفصلة عن بعضها، في الشرق الأوسط، وفي حوض الهندوس، وفي الصين، وفي المكسيك، مجتمعات تاريخية، وحضارات. إن التحول شيء لا يرى قبل الأوان.