مالطا: الحكم الذاتي أساس للتسوية    ألباريس: لم نقدم أي تنازلات للمغرب في ملف الصحراء والعلاقات بين البلدين تعيش أفضل لحظاتها    "مجلسا النواب والدولة" في ليبيا يناقشان ببوزنيقة ملفات سياسية وأمنية    في يومها العالمي..ائتلاف يدق ناقوس الخطر إزاء ما يتهدد لغة الضاد في المغرب من محاولات الهدم    شراكة بين "ISIC" و"السلطة القضائية"    الدرهم يرتفع بنسبة 2,3 في المائة مقابل الدولار الأمريكي    صدور حكم نهائي على ساركوزي بخضوعه للرقابة عبر سوار إلكتروني مدة عام    فرنسا تقيم الخسائر بعد إعصار مايوت    الأمن يطلق بوابة الخدمات الرقمية    محكمة النقض تسدل الستار عن ملف "كازينو السعدي" وترفض الطعن الذي تقدم به المدانون    شباب جمعية "أسوار فاس" يواصلون الإبهار بعروض مسرحية متنوعة بطنجة    تسجيل أول حالة إصابة خطيرة بإنفلونزا الطيور في أمريكا    تألق رياضي وتفوق أكاديمي للاعبة الوداد الرياضي سلمى بوكرش بحصولها على شهادة الدكتوراه    شركة "أطلنطاسند" للتأمين تعلن عن تقليص مدة الخبرة والتعويض إلى 60 دقيقة فقط    مفوضة أوروبية: المغرب «شريك أساسي وموثوق» للاتحاد الأوروبي    إحباط عملية تهريب دولية لأزيد من 3 أطنان من الحشيش داخل ضيعة فلاحية    حزب العدالة والتنمية يواجه رئيس الحكومة بتهم تنازع المصالح بعد فوز شركته بصفقة تحلية المياه    بوريطة يؤكد الحاجة الماسة إلى "روح الصخيرات" لحل الملف الليبي    معاناة متجددة لمرضى السل بفعل انقطاع الدواء باستمرار        وداعا أمي جديد الشاعر والروائي محمد بوفتاس    المغرب وإسبانيا يعيشان "أفضل لحظة في علاقاتهما الثنائية" (ألباريس)    مزراوي يحقق ارتفاعا قياسيا في قيمته السوقية مع مانشستر يونايتد    فاس.. انطلاق أشغال الدورة العادية السادسة للمجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة    زيان يسقط فجأة خلال محاكمته ويُنقل للإسعاف        حفل توقيع "أبريذ غار أوجنا" يبرز قضايا التعايش والتسامح    الناظور.. ارتفاع معدل الزواج وتراجع الخصوبة    الملك محمد السادس يهنئ أمير دولة قطر بالعيد الوطني لبلاده    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    أزمة اللحوم الحمراء بالمغرب بين تراجع الأغنام وسياسات الاستيراد        جمعيات تعبر عن رفضها لمضامين مشروع قانون التراث الثقافي    الرجاء يعين عبد الصادق مدربا مساعدا    مزور يشرف على انطلاق أشغال بناء المصنع الجديد لتريلبورغ بالبيضاء    اختيار الفيلم الفلسطيني "من المسافة صفر" بالقائمة الطويلة لأوسكار أفضل فيلم دولي    تداولات الافتتاح ببورصة الدار البيضاء    الوداد يعلن عن منع جماهيره من حضور مباراة الكلاسيكو أمام الجيش الملكي    تطوان تُسجّل حالة وفاة ب "بوحمرون"    مزرعة مخبرية أميركية تربّي خنازير معدلة وراثيا لبيع أعضائها للبشر    علماء يطورون بطاطس تتحمل موجات الحر لمواجهة التغير المناخي    الطلب العالمي على الفحم يسجل مستوى قياسيا في 2024    مقر الفيفا الأفريقي في المغرب.. قرار يعزز موقع المملكة على خارطة كرة القدم العالمية    كأس إيطاليا: يوفنتوس يفوز على كالياري برياعية ويتأهل لربع النهاية    الكعبي عقب استبعاده من جوائز الكرة الذهبية: "اشتغلت بجد وفوجئت بغيابي عن قائمة المرشحين"    شباب مغاربة يقترحون حلولا مبتكرة للإجهاد المائي    المغرب يتجه نحو الريادة في الطاقة المتجددة... استثمارات ضخمة    حماس تصف محادثات الدوحة حول الهدنة بأنها "جادة وإيجابية" وإسرائيل تنفي توجه نتانياهو للقاهرة    دبي تطلق خدمة التوصيل بالطائرات بدون طيار الأولى من نوعها في الشرق الأوسط    كيفية تثبيت تطبيق الهاتف المحمول MelBet: سهولة التثبيت والعديد من الخيارات    كنزي كسّاب من عالم الجمال إلى عالم التمثيل    السينما الإسبانية تُودّع أيقونتها ماريسا باريديس عن 78 عامًا    السفير الدهر: الجزائر تعيش أزمة هوية .. وغياب سردية وطنية يحفز اللصوصية    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أبو مروان سفير فلسطين السابق في المغرب

أبو مروان ، من القيادات الفلسطينية التي عايشت الإنطلاقة الأولى لحركة فتح ودورها الوطني والكفاحي في إطلاق شرارة الثورة الفلسطينية ، والدور الذي ستلعبه منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني ، وعنوانا سياسيا ونضاليا لفلسطين المغتصبة . وقد واكب منذ بداية الستينات ، سواء كمسؤول إعلامي بمكتب فلسطين ثم مكتب منظمة التحرير في الجزائر قبل أن يلتحق بالمغرب ليصبح أول سفير لدولة فلسطين بعد إعلانها سنة 1987 ، واكب مختلف تطورات القضية الفلسطينية والعلاقات الفلسطينية العربية والفلسطينية المغربية بالخصوص . في هذا الحوار المطول ، يفتح أبو مروان صفحات هامة من مخزون ذاكرته ، منذ أن رأى النور في قرية سيلة الضهر كاشفا عن تفاصيل وأسرار تنشر لأول مرة .
الأخ ابو مروان كمناضل ، كقائد فلسطيني ، وكممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية في الجزائر ثم في المغرب ، وكسفير لدولة فلسطين، نود في هذا الحوار، إلقاء الضوء على مسارك الشخصي والنضالي والدبلوماسي، فكيف كانت البداية ، وماهي قصة اسمكك الحركي أبو مروان حيث أن قليلين هم من يعرفون الاخ أبو مروان باسمه الحقيقي «وجيه حسن علي قاسم»
في الواقع ، إن هذا الاسم اتخذته قبل أن أتزوج . كان مفروضا على أي منا ، خلال الانتماء لحركة »فتح« ، أن يقرر التضحية والتخلي عن كل شيء، حتى عن اسمه ولا يجني من وراء ذلك أية مكاسب، فهو وحياته الشخصية وكل ما يملك، عن طريق القسم، يصبح ملكا للحركة وبالتالي وحتى لا تكون هناك أمجادا شخصية أو عائلية، وأيضا لأسباب أمنية ، كان على كل منتمي إلى الحركة اتخاد اسم حركي .
في البداية ، لم يكن أبو مروان اسمي الحركي ، بل كان «عفيف كرم» وكان ذلك عام 1963 ، أول انضمامي للحركة، وبعد أن أصبحت عضو لجنة إقليم دخلت في «نادي الأبوات» ، فسميت ب«أبو مروان « حتى قبل أن يولد عندي مروان. وكان ذلك عندما كنت أعمل كأستاذ في المملكة العربية السعودية ، طبعا في هذه المرحلة ، أينما كان الفلسطينيون متواجدين آنذاك كانوا يتجمعون حول الهدف وهو تحرير فلسطين، ولكن مع اختلاف الطرح، فمنهم من كان يرى أن انضمامه إلى هذا الحزب سيوصل إلى طريق فلسطين، ومنهم من كان يرى أن السعي إلى الوحدة العربية سيرد فلسطين ، ومنهم من كان يرى أنه لابد من سيادة الاشتراكية الأممية ، والتي أوتوماتيكيا ستصبح فيها الصهيونية لاغية ونصل الى تحرير فلسطين ، ومنهم من كان يعتقد كالإخوان المسلمين ، أن إقامة الدولة الإسلامية ستحرر فلسطين . ولكن أنا ، بتكويني الخاص ، كنت قلقا دائما من هذه الطروحات. فقد نشأت في بيئة سياسية كثيفة، حيث تربيت في بيت متواضع ، ولكن الوالدة رحمها الله ، كانت دائما تقول لي إنه في المكان الفلاني والدك زرع لغم للدبابة البريطانية ، وفلان الفلاني والده قبل أن يستشهد كان صديقا لوالدك، وهذا الإناء كانت تعجن فيه الألغام ، كما كانت تحدثني عن اجتماعات المناضلين في بيتنا... بمعنى أن تركيزي كله كان مع فلسطين . هكذا ومع مرور الوقت أصبحت أتمنى أن أعرف كيف كان شكل والدي ، فالإنجليز عندما داهموا بيتنا، أخذوا كل شيء، حتى ساعة والدي، ملابسه وصوره، فلم يتركوا لنا أية صورة له ، وبالتالي كنت أرسم صورته في خيالي، وأخمن أنه يمكن أن يكون مثل صورة فلان أو غيره...
لم ترى والداك أبدا؟
لا ، لم أره أبدا، فعندما استشهد والدي كان عمري 5 إشهر، وأخي كان في الخامسة من عمره ، ذلك أن والدي استشهد وعمره 27 سنة. هكذا وكما قلت كان تركيزي كله على فلسطين ، فكل الأحزاب والتنظير الفكري والأفكار الأممية والقومية لم تجد هوى داخل نفسي. هكذا كان الوضع عندما كنا في السعودية ، حلقات ونقاش سياسي ، لأن الحياة السياسية ، منذ سقوط فلسطين إلى الستينات ، كانت خصبة جدا، والنقاش السياسي كان هو الطاغي ، لدرجة أن طفلا في الثانية عشر من عمره كان بمقدوره أن يناقشك في السياسة الدولية.
في هذاا لوقت وفي ظل هذا المناخ السياسي ، لم ألتحق بأي حزب بحيث اطلعت على كل الأفكار، ناقشت كل الحزبيين، شاركت في مظاهرات كثيرة منذ أن كنت في المرحلة الثانوية، ضد وعد بلفور وحلف بغداد الذي أقيم ضد عبد الناصر، ولكني لم أنتمي إلي أي حزب ...
الانتماء إلى فتح كيف تم ومتى؟
الانتماء إلى فتح كان في عام 1963. ففي العربية السعودية ، وكان ذلك سنة 1962 ، وضمن هذه الحركية ، كنا نجتمع نحن الفلسطينيين مرارا ، فالتقيت آنذاك بشاب أذكره أن اسمه أبو حسين ، من قرية مجاورة لقريتنا وهو يكبرني سنا. كان دائما يتكلم لنا عن التنظيم وأفكار حركة فتح دون أن يقول لنا إن هذه هي فتح. كان يقول بأنه لابد من حركة فلسيطينية تنطلق من أرض الواقع . وفي نهاية السنة، وكانت الجزائر قد حصلت على الاستقلال، اقترح علي ، مع آخرين ، الذهاب إلى الجزائر. لما يمكن أن نراكم هناك من تجربة.
قبل ذلك ، الأخ ابو مروان ، أريد منك أن تعود بذاكرتك إلى قرية سيلة الظهر، حيث رأيت النور ، كيف تستعيد الآن أجواء القوية وأنت طفل وابن شهيد.
اولا ، أنا كنت محظوظا لأن جدى الذي كان اقطاعيا بمعنى انه كان صاحب أملاك كثيرة، طبعا بالمفهوم الفلسطيني لأن مساحة فلسطين كما تعرف صغيرة، فأنا واخي لم يكن لنا حق في الإرث ، ولكن لكوننا ابني شهيد، فوالدي وجدي استشهدوا قبل جد والدي ، وأنا اتذكره، وقبل وفاته قام بتوزيع تركته فأعطانا حصه كحصة ابنائه ، على أساس بيع وشراء ، أي تمليك ، فورثنا قطعة بها زيتون ، مشمش وعمارة... الخ وبالتالي فوضعنا كان يعفينا من طلب المعونة ، وكنا «مستورين» . كانت العادة عندنا أن كل أفراد العائلة يسكنون سوية، كما أن والدتي هي ابنة عم أبي ، فكلنا ، جدي واعمامي كنا نعيش معا ، وفي ظل هذا الجو ترعرعت أنا وأخي .
ماذا كان اسم اخيك؟
كان اسمه فريد رحمه الله . قبل ان يكمل فريد المرحلة الثانوية ، قرر أن يشتغل وأصر أن أكمل تعليمي . في هذا الجو كان للشهيد مكانة مقدسة وبالتالي كان ذلك ينعكس على أبناء الشهداء، ففي قريتنا كان هناك نشاط سياسي كبير، وخرج منها قيادات وطنية مرموقة ، كانت مرافقة لعز الدين القسام، منهم الشيخ عبد الفتاح غانم الذي كان من القادة الخمس الأوائل مع عز الدين القسام، كما خرج من عندنا قائد عسكري فذ اسمه محمد صالح غاشم وهو من نفس العائلة، ورغم أنه لم يكن مثقفا لكنه كان قائدا عسكريا فذا ، وابنه الوحيد هو الشاعر «خالد أبو خالد» .
في هذا المناخ النضالي كان عندنا شهداء كثيرين في القرية. والقرية تقريبا كلها كانت منظمة الى الثورة الفلسطينية مابين 1935 إلى 1939 ، فالمناخ كله عندنا كان مناخا نضاليا، وبهذا المعنى ، نحن كأبناء شهيد كنا مكرمين، عدا أن القرية كانت صغيرة والعلاقات بين ساكنيها كانت في الغالب علاقات عائلية.
كيف تتذكر ظفولتك، قبل أن تصل إلى مرحلة النضج.
باستثناء الألعاب البسيطة في القرية ، لم تكن لدينا إمكانيات لشراء ألعاب مثل الدراجات أو غيرها ، فهذه الأشياء لم نكن نحلم بها، كنا نصنع كرات من القماش والجوارب ونلعب الكرة، ونختلق ألعابا أخرى محلية . أهم ألعابنا كانت صنع بنادق من الحطب ، حيث كنا ننقسم إلى مجموعتين وتجري بيينا معارك، وتطورت إلى درجة أننا في ذلك الوقت استعملنا المقلاع ، فكان أولاد الحارات يتحاربون باستعمال المقلاع كسلاح ، ثم استعملنا النقيفة : «الجباد» وعموما هذه هي الألعاب التي كانت متوفرة لدينا آنذاك.
كيف كانت العلاقة مع الوالدة؟
العلاقة مع الوالدة كانت قائمة على الاحترام ، وكانت دائما تحثنا على ضرورة الاقتداء بالوالد . عموما كانت الطفولة لا تخلو من لحظات متعة، فقد كنا نربي الدواجن وخروف العيد الذي كنا نقتنيه قبل العيد بحوالي ثلاثة أشهر ونبدأ في تسمينه، وكانت أوراق شجر المشمش صالحة لهذه العملية، وقد كنا نجري معارك بين الخراف حيث كنا نجعلها تتناطح فيما بينها ونتراهن على من سيفوز، ومن استطاع أن يسمن خروفه أكثر من الآخر وغيرها من الألعاب التي كانت تملأ أوقاتنا إبانها. عموما كان ارتباطنا بالوالدة جد حميمي ، لأنها كانت الوالدة والوالد في نفس الوقت، وقد توقيت عن عمر 68 سنة عند أختي في الكويت ، وحضرت جنازتها هناك .بعد أن تركت الوالدة بيتنا في القرية ، أصبح مهجورا وقد زرته سنة 1994 مؤخرا ووجدت به بعض الشهادات المدرسية بالإضافة إلى بعض الإيصالات الضريبية ووثائق ملكية الاراضي...
الأخ ابومروان، حدثنا عن مسارك الدراسي قبل أن تتجه إلى التدريس وتذهب إلى العربية السعودية
درست في المدرسة الابتدائية في قريتنا. الدراسة كانت عندنا قسمين ابتدائي وثانوي، الابتدائي 7 سنوات والثانوي 4 سنوات، وفي المرحلة الابتدائية كانت المدرسة تقفل خلال موسم جني الزيتون، لأن الأهل كانوا بحاجة إلى مساعدة الأبناء لجني المحصول، وأنا بدوري كنت أساعدهم ، وهو ما جعلني أبدأ مبكرا ممارسة جزء من دوري ومسؤولياتي ، خصوصا أن أخي كان قد سافر إلى الكويت ، بنفس الطريقة التي صورها غسان كنفاني في روايته »رجال في الشمس«. كان أخي يبعث إلينا ما يستطيع من مساعدة مادية لإتمام الدراسة، وكنت آنذاك ، في غيابه ، أشعر أنني المسؤول عن البيت . بعد ذلك انتقلت للدراسة في القرية المجاورة لنا، والتي كانت تضم آنذاك مدرسة إعدادية، ثم بعدها أكملت عامين دراسة في نابلس، في مدرسة كانت تخرج دفعات ممتازة من ناحية التكوين العلمي، وفي الواقع كان الأساتذة عندنا يقومون بعمل تطوعي، فرغم أن تكوينهم لم يكن معمقا إلا أنهم كانوا ماهرين في مجال تخصصهم، وأذكر أنهم كانوا شبانا يكبروننا بأربع أو خمس سنوات فقط، ولكنهم كانوا أذكياء لدرجة أنهم كانوا دائما يوجهوننا إلى المراجع الأجنبية، وهنا أذكر أن مراجعي، وأنا في الإعدادي ، كانت كلها بالإنجليزية، وهي الآن تدرس في الجامعة . فمثلا في قواعد اللغة الإنجليزية كنا نقرأ لشكسبير....إلخ وفي الحقيقة كان تكويننا الأساسي متينا، وكنا ندرك معنى التضحية التي قدمها أهالينا ليمكوننا من التعلم .
القرية التي درسنا بها الإعدادي - الثانوي، كانت تبعد عن قريتنا بحوالي 5 كلم ، وكنت أقطع هذه المسافة مشيا يوميا، ذهابا وإيابا، صيفا وشتاء ، وفي منطقة جبلية تتطلب الصعود والهبوط طوال المسافة، وغالبا ما كان البعض منا يتزحلق ويصاب في رجله، لأن المصروف الذي كنا نتلقاه ، 10 فلس، بالكاد كان يكفينا للغداء، ولايمكن أن نفكر في ركوب أية وسيلة نقل بهذا المبلغ . كنا نذهب ونعود جماعة إلى قريتنا، وكان المجهود الذي نبذله يجعلنا نشعر بأهمية وحتمية التعلم والتحصيل ، وأنه سيمكننا أيضا من انتشال باقي أفراد عائلاتنا من مستوى معيشة قروي بسيط إلى مستوى معيشة موظف. وفي ذلك الوقت كانت عادة الأهالي جمع مبلغ من المال كل سنة ويضيفون قسما دراسيا، كما كانوا يدفعون راتب أستاذ لمدة عام، وكلما التزم الاهالي بذلك كانت الدولة تعين أستاذا، وهكذا تتسع المدرسة كل سنة لتشتمل على قسم جديد، وقد مكنت هذه العملية قريتنا الآن من التوفر على ثانوية ومدرسة صناعية ومدرسة زراعية، هذا كله نتيجة للعمل الذي تم القيام به منذ ذلك الحين من طرف أبناء القرية . والأمر لايقتصر على المدرسة فقط ، فإذا كانت القرية تبعد عن الطريق العام، يقوم سكانها بجمع المال اللازم لإنشاء طريق يربط قريتهم بها ، وعموما ، هذا السلوك التضامني والتكافلي كان شائعا عندنا في ذلك الوقت، وقد كان الشعب الفلسطيني ، سواء في عهد الانتذاب العثماني أو الاستعمار الإنجليزي أو بعد أن ألحقت الضفة بالاردن، أو في ظل الاحتلال الاسرائيلي، كان الشعب الفلسطيني يشعر بأنه لايمكن أن يعول إلا على نفسه.
أما عن الهم الوطني والإحساس بالقضية ، فقد كنا نتلقاه في البداية عن طريق أمهاتنا، وأذكر أنه ، في أواخر 1948 ، حصلت «معركة جنين» وكنا قريبين من موقع المعركة، فقريتنا تبعد عن جنين بحوالي 18 كلم ، لكنها في منطقة مرتفعة وبالتالي كنا نطل على موقع المعركة، ونسمع صوت المدفعية وإطلاق الرصاص، وعندما كنا نصعد قمة الجبل كنا نرى كيف تدور المعارك . أذر أنه في ذلك الوقت قدمت قوات تابعة للجيش العراقي ، كنجدة مفاجئة بعدما سقطت المنطقة واحتلت العصابات الاسرائيلية منطقة جنين . وصلوا إلى منطقة تبعد حوالي 12 كلم عن جنين، وبدأوا يتقدمون للسيطرة على كامل منطقة جنين - نابلس - طولكرم أي شمال الضفة . كانت القوات العراقية التي قدمت تتكون من جنود أغلبهم حليقي الرؤوس ويتمتع أفرادها ببنية جسدية قوية وكانوا عبر سياراتهم العسكرية يمرون بقريتنا حيث كنا نتجمع لمتابعة ما يحدث، وكانوا عندما يمرون بالقرب منا يسألوننا »هاذي جنين.. هاذي جنين ؟« وقد أخبرونا أنهم جاؤوا لتحرير مدينة جنين . هكذا وكما كنا شهود على مثل هذه البطولات ، كنا أيضا شهودا على الخيانات التي حصلت خلال الحرب، لأن قائد القوات العسكرية، وهو كردي أذكر أن اسمه عمر علي، استطاع تحرير المناطق التي احتلتها العصابات الإسرائيلية ودحرها وتقدم بصوب مدينة حيفا بحيث صار على بعد 35 كلم فقط منها، ولو وصل حيفا لقسم إسرائيل ، الحالية ، إلى قسمين . وسنعلم بعدها أن اتصالات تمت بين بريطانيا وملك العراق ونوري السعيد وقاموا بتوقيف هذا الضابط البطل في أوج المعارك، واستدعوه إلى بغداد، ولولا ذلك، ولو ترك هذا القائد واستمرت المعركة إلى نهايتها لما كانت اسرائيل ماهي عليه الآن، ولكانت المنطقة الممتدة من عندنا إلى الحدود مع لبنان محررة . عموما هذه التجربة ، وغيرها ، ولدت لدينا قناعة بأنه لايمكن الاعتماد كثيرا على الأنظمة العربية، وهذه من الاسباب التي دفعت بي إلى البحث عن تنظيم فلسطيني أنتمي إليه.
بعد ذلك، أكملت المرحلة الثانوية في نابلس ، كيف كانت نابلس آنذاك ؟ واحساسك وأنت تنتقل من قرية الى مدينة؟
نابلس طبعا أكبر من قريتنا، فهي مدينة وإن ليست بضخمة، إلا أنه في تلك المرحلة كانت بالنسبة لي أكبر مدينة في العالم. كانت فيها قاعة سينما ، وكطالب بعيد عن الاهل ، كنت أغتنم الفرصة لكي أدخل إلى السينما، فرغم أنه لم تكن لدينا نقودا كثيرة إلا أننا كنا نستمتع بجو الليل في مدينة بها أضواء عكس قريتنا، وكان هذا بالنسبة لنا أيضا مكسبا وميزة، مقارنة بظروف الحياة في القرية، كما أن الماء كان يصل إلى البيوت وبالنسبة إلينا كان هذا تقدم، مقارنة بالقرية حيث كان هناك مخزن للماء تتكفل النساء بنقل الماء منه إلى البيوت. كان كل ذلك بالنسبة إلينا نقلة، ولكن الأهم هو المظاهرات التي كنا نشارك فيها والاطلاع على كل الأفكار التي كانت رائجة في الساحة، وهناك بدأ القلق .
بعد اتمام المرحلة الثانوية ، سافرت إلى المملكة العربية السعودية لأعمل كأستاذ ، وقد كان ذلك عن طريق رجل تعليم فلسطيني متخرج من الأزهر وكان يعمل في السعودية، وكان زميله وزيرا التعليم هناك وكان قد اتفق معه أن يجلب بعضا من الشباب الفلسطينيين العاطلين للعملا في المملكة ، وكان يعطي الأولوية دائما لأبناء الشهداء والعائلات الفقيرة، ليعينوا كأساتذة ضمن بعثة تعليمية إلى العربية السعودية، وقد أفادت هذه العملية العديد من الفلسطينيين، وهكذا سافرت إلى هناك وعمري 17 سنة وأصبحت أستاذا في معهد للتعليم في منطقة اسمها «القسيم» وكانت أكثر منطقة تخلفا في المملكة، وقد عينت ليس في المدينة ولكن في واحة اسمها »الخضر« ، وأتذكر أننا عندما وصلنا حطت بنا الطائرة في مدرج مترب وليس من الاسفلت . كان هذا سنة 1957، أما المدينة كلها فلم يكن بها بناية من الإسمنت سوى مسجد واحد، وعندما كان يهطل المطر ، كان الناس يتجهون إلى الصحراء ويصطادون ويبيتون هناك . كان هناك جو من التزمت نتيجة للمذهب الوهابي، فنحن أتينا من بيئة دينية معتدلة ، لكن هناك كنا مجبرين على الحضور إلى صلاة الصبح ، وبالنظر إلى برودة الطقس ، كانت الصلاة تقام في «بدروم» ، قبو ، تحت الأرض وهو مفروش بالرمل وبه عمدان من الطين، وبعد الصلاة كان الإمام ينادي عل كل واحد باسمه. وقد كنا نحن، وكانوا يسموننا الأساتذة السوريين رغم أننا كنا مجموعة فلسطينيين، أردنيين سوريين ومصريين، كنا نتفق أن يذهب ثلاثة أو أربعة ، ويردوا بالإيجاب نيابة عنا جميعا النداء عند المناداة علينا دون إثارة الانتباه لأن الظلام كان يعم المكان . في الواقع كنا جميعا نؤدي فريضة الصلاة ، لكن ليس بهذا الإجبار، لأننا كما قلت ترعرعنا في بيئة بها تسامح ديني. أما الشبان السعوديين فعندما كان يتخلف أحد منهم عن الصلاة كانوا يأخدون غطاء رأسه ويحرقونه بساحة المسجد تعبيرا عن التحقير أمام الناس ، أما إذا تغيب ثلاث مرات فكان يجلد .
أما بالنسبة للسجائر فكانت تلك معضلة، وقد كنت أجلب السجائر لباقي الأساتذة، حيث كنت أذهب إلى مدينة تسمى »بريدة« ، تبعد بحوالي 50 كلم، وهناك كنا نقتني السجائر من مخابز كان أغلب مالكيها يمنيون، وكانوا يتاجرون في السجائر. وقد كنا نركب شاحنة ونحرص على أخذ عدة ألواح من الخشب ، ففي ذلك الوقت لم تكن هناك طرق ، وكنا نسير بالصحراء وغالبا ما كانت عجلات الشاحنة تغوص في الرمل، فكان لابد من استعمال ألواح الخشب لإخراجها ومواصلة السير.
وكما قلت فيف ذلك الوقت كان عمري 17 سنة ، وكانت لحيتي صغيرة أحلقها مرة كل شهر، لكن كلما كنت أحلقها كانوا يقاطعونني، ويقولون كيف يجدر بي أن أحلق ذقني وأصبح مثل النساء.
ورغم أنني كنت الأستاذ الذي يلقن التلاميذ مادة الرياضيات، إلا أنني كنت أصغرهم سنا ، فتلامذتي كانوا يكبرونني سنا، لأن الدولة السعودية كانت تعطيهم راتبا من أجل أن يواصلوا الدراسة . كانوا آنذاك في المرحلة الاعدادية، وبعد انتهاء مرحلة تكوينهم كانوا بدورهم يصبحون معلمين للمرحلة الابتدائية. في القسم كان عندي تلاميذ يمارسون حرفا متعددة ، نجارة أو غيرها ، وقد كانوا يأتون إلى القسم لحضور الدرس ثم يعودون إلى مزاولة حرفهم ، فقط للحصول على الراتب الذي تقدمه الدولة لهم. في تلك الظروف رتبت أموري، وبعد سنة سافرت الى تركيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.