استطيع أن أقول إنني، وبشكل عام، شديدة الإعجاب بكل ما هو فرنسي، يرجع هذا لعديد من الأسباب، لعل من أبرزها أن والدي كان طاهياً شهيراً متخصصاً في الطعام الفرنسي. لذلك نشأت، وأنا أحمل إعجاباً وولعاً لا حد له بالأطباق الفرنسية الشهيرة والمتنوعة، وحرصت بسبب هذا الإعجاب على الإلمام بأصول الطهي الفرنسي، وبرعت في سياق ذلك أيما براعة في إعداد صلصات الطعام العديدة والمعقدة، التي يحفل بها ذلك المطبخ الغني. وقد كان حلمي دوماً خلال مرحلة طفولتي ومراهقتي هو زيارة باريس»عاصمة النور». التي يتردد عليها نجومي السينمائيين المفضلين، والتي تعتبر موطن الموضة، ومنبعا من منابع الفن والثقافة والجمال. ولكن عشقي لفرنسا عن بعد -وعبر المحيط- لا بد أن يتأثر عندما أسمع أشياء مثل تلك الخطة، التي أقل ما يمكن أن يُقال عنها إنها غير لائقة بدولة ذات تاريخ عريق مثل فرنسا، والتي تهدف لفرض غرامة توازي 185 دولاراً بالفرنكات الفرنسية على كل امرأة مسلمة ترتدي نقاباً يغطي الوجه كله في الأماكن العامة. في عصرنا المعولم، هناك العديد من الأشياء التي يمكن أن تكون سبباً في خلق العداوة بين الناس بعضهم بعضا -بشكل عام- أوبين مواطني البلاد المختلفة والمهاجرين الذين يعيشون بين ظهرانينهم -بشكل خاص- ولكن هذا القانون في رأيي هو الأسوأ على الإطلاق، والإصرار على تنفيذه سيكون بالتالي خطأ فادحاً. وما يفسر إقدام السلطات الفرنسية على التفكير في هذا القانون، هو ذلك النمط المألوف من السياسات الثقافية، التي يمكن أن يُقال إنها أقرب ما يكون إلى ما يطلق عليه علماء النفس «الاستبعاد». فنحن نشعر بأننا مهددين من قبل شيء ما أو جماعة بعينها، أو حتى مجموعة من الجماعات التي نتوجس منها خيفة، ولكننا لسبب أو لآخر، لا نتمكن من الاعتراف بذلك، ومن ثم نقوم بنقل أو ترحيل هذا الشعور الدفين إلى شيء آخر رمزي. لدينا هنا مثال جاهز يمكن أن يزيد هذا الأمر وضوحاً. هذا المثال خاص بمشرعي ولاية أريزونا الذين يصبون في الوقت الراهن جام غضبهم على ما يطلقون عليه أقسام» الدراسات الإثنية» في الجامعات المختلفة. ولكننا إذا ما أمعنا التفكير فسوف نكتشف أن تلك الأقسام ليست هي المقصودة لذاتها بهذا الغضب وإنما هي ذلك الشيء أو الرمز الذي أشرنا إليه، والذي نقل إليه هؤلاء المشرعون خوفهم أو قلقهم أو توجسهم الدفين من شيء آخر هو وجود ذلك العدد الكبير -أكبر من أي ولاية أميركية أخرى- من الإثنيات المختلفة التي تعيش في ولايتهم وعدم اطمئنانهم لهذا الأمر الذي يرون فيه تهديداً وجودياً. كان الرئيس الفرنسي «نيكولا ساركوزي» قد قال في تصريح له إن منع النقاب «مسؤولية أخلاقية» بالدرجة الأولى وأن من أهم مهامه كرئيس لفرنسا أن يعمل على «حماية القيم والتقاليد الأوروبية»، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن عندما نقرأ قولاً مثل هذا هو: حماية التقاليد ممن؟ إن عدد النساء اللائي يرتدين النقاب في فرنسا كلها هو 2000 امرأة فقط من بين أفراد الجالية المسلمة التي تعيش في البلاد، والتي تشير معظم الإحصائيات إلى أنها قد وصلت لعدد لا يقل عن خمسة ملايين في الوقت الراهن - وهو أكبر عدد من المسلمين يعيش في أي دولة في القارة الأوروبية. كما لم يحدد لنا ساركوزي على وجه الدقة من هم الذين سيحميهم من فرض هذا الحظر على النقاب؟ هل هم الفرنسيون؟ على العموم يجب ألا نركز اهتمامنا بالفرنسيين فقط. فأغلبية السويسريين اختارت -وهو ما كان مفاجئا لكافة المراقبين - التصويت بالموافقة على تفعيل حظر دستوري على بناء (المآذن في كافة أنحاء سويسرا حيث يرون إن تلك المآذن تمثل رمزاً إسلامياً واضحاً، كما أنها تعد خروجاً على النمط المعماري السائد في سويسرا). وهذه في نظري ليست هي الطريقة المثلى لإدماج المسلمين في نسيج الأمة السويسرية كما ينادي البعض من الساسة السويسريين، الذي لا يزيد عدد المسلمين في بلادهم عن 300 ألف مسلم معظمهم ينتمون إلى الدول التي كانت تشكل يوغسلافيا السابقة. الحال، أن قانون حظر البرقع وغيره من قوانين الحظر المماثلة في دول أوروبية مختلفة ما هي إلا ذريعة لتجاهل شيء واضح وضوح الشمس، أو كما يقول المثل الإنجليزي لتجاهل وجود الفيل في الغرفة The elephant in the room أي تجاهل وجود شيء ضخم وكبير لا يمكن لأحد ألا يراه، تهربا من عمل شيء كان يتوجب عمله. هذا الفيل والمشكلة الكبرى والخطيرة في حقيقة الأمر، والتي يتجاهلها الساسة في أوروبا، ويحاولون التغطية عليها من خلال إصدار قوانين مثل قانون حظر الحجاب أو حظر بناء المنارات، هو المشكلة المتعلقة بإدماج الأقليات المهاجرة وبالذات المسلمين الموجودين في أوروبا في الوقت الراهن في نسيج مجتمعات الدول التي يعيشون فيها، والتي تحفها تعقيدات عديدة سياسية واجتماعية وثقافية. مشرعو قانون حظر النقاب في فرنسا يدعون إن هذا الحظر يستهدف كبح جماح تيار متطرف من تيارات الإسلام ومنعه من الانتشار، خصوصاً أن هذا التيار يقمع المرأة ويجبرها على ارتداء أشياء لا تؤمن بها، في حين أن الحقيقة هو أن مثل هذا الحظر لا يؤدي إلى تحسين أوضاع المرأة وترقية قضيتها أو توسيع نطاق حرياتها، كما يعتقد هؤلاء المشرعون ويعتقد الرئيس الفرنسي أيضاً. سجالات مثل هذه في أوروبا يجب أن تدفعنا نحن الأميركيين للاعتقاد بأن مشكلة الهجرة لدينا أخف وطأة بكثير من مثيلتها في أوروبا، وإننا بالتالي يجب أن نشعر بالارتياح لذلك. فنحن مثل أبناء عمومتنا الأوروبيين شهدنا في العقود الأخيرة أكبر تدفق للهجرة في التاريخ، ولكننا يجب أن نقول في ذات الوقت إن هذا الطوفان من المهاجرين على الرغم من أي مشكلات قد ترتبط به يحقق لنا فائدتين، لا يمكن لأحد أن يماري بشأنهما، هو أن هؤلاء المهاجرين أو نسبة كبيرة منهم هم من أفضل وأذكى العقول في العالم سواء كانوا من الهندوس، أو المسلمين أو البوذيين الذين جاءوا إلى بلدنا سعياً وراء الفرص المتاحة التي لا تتوافر في أوطانهم الأصلية، والقيام في غضون ذلك بتبني القيم والعادات الأميركية والذوبان في بوتقة الانصهار الأميركية الشهيرة التي تخلط الثقافات جميعاً، وتخرج منها بثقافة واحدة هي الثقافة الأميركية دون السماح لثقافة معينة لأن تصبح مسيطرة أو سائدة، وهو ما يختلف بدرجة أو بأخرى عما هو سائد في أوروبا حيث يميل المهاجرون إلى الانعزال في جوتوهات مغلقة يمارسون فيها نمطاً من الحياة لا يختلف كثيراً عن النمط الذي كانوا يمارسونه في أوطانهم دون رغبة في الاندماج في نسيج البلدان التي يعيشون فيها، أو ربما بسبب مقاومة شعوب تلك البلاد لاندماجهم في هذا النسيج. السبب الثاني الذي يجعلنا نحن الأميركيين، نشعر بأننا محظوظون هو أن معظم المهاجرين حتى أولئك الذين يدخلون الولاياتالمتحدة بطريقة غير شرعية هم في غالبيتهم العظمى من شعوب أميركا اللاتينية التي تشارك الغالبية العظمى من الشعب الأميركي في معتقده الديني وهو في حد ذاته سبب مهم من أسباب الاندماج لا يجب علينا إغفاله مطلقاً. لذا أرى أن الجانب الأكبر من نقاشاتنا حول موضوع الهجرة مع الاهتمام أيضاً بمعالجة مشكلة الهجرة غير الشرعية، هو العمل على إدماج هؤلاء المهاجرين وتشجيع نشر القيم الأميركية فيما بينهم. وتؤكد «مارجي ماكهيو» المديرة المشاركة للمركز الوطني لسياسات الإدماج في أوساط المهاجرين في معهد سياسات الهجرة «هناك 40 مليون أميركي ولدوا في بلدان أجنبية والغالبية العظمى منهم موجودون في أميركا بوسائل شرعية. والتركيز الزائد على الهجرة غير الشرعية في السياسات الأميركية سوف يصرف أنظارنا بعيداً عن الواقع الحقيقي، وهو أن الوضع لدينا وبالمقارنة مع العديد من البلدان الأخرى خصوصاً في أوروبا ليس على ذلك القدر من السوء الذي يحاول البعض الإيحاء به» أما بالنسبة للفرنسيين فسوف نتركهم لوسائلهم الخاصة. *محللة سياسية أميركية عن «إم. سي. تي إنترناشنال»