في مباراة إنكلترا وألمانيا في مونديال 1990، بكى اللاعب الانكليزي بول جاسكوين قرب نهاية المباراة التي خسرها فريقه، ومع هذا البكاء بدأت موجة من الهوس به، حسبما يشير سايمون كوبر في كتابه «الكرة ضد العدو». بكاء جاسكوين التقطته كاميرات التلفزيون، وجلب معه بكاء ملايين المشاهدين الإنكليز، كما ألهم المحطة الرابعة البريطانية لإعداد مسلسلات وثائقية عن الرجال الذين يبكون أمام الناس. أذكر، أني وقتها كنت أشجع المنتخب الألماني بجنون، وعلى رغم هذا تعاطفت جدا مع دموع اللاعب الانكليزي المشاغب وشبه المجنون، بل إن القيصر فرانز بيكينباور مدرب الماكينات الألمانية ذهب بنفسه بعد نهاية المباراة لتطييب خاطر جازا (لقب التدليل الخاص بجاسكوين) الذي مثلت دموعه خروجاً على سياق عام ينظر للاعبي كرة القدم باعتبارهم نماذج للذكورة القوية اللامبالية والخشنة. في كرة القدم، من الطبيعي أن نشاهد التحامات وعرقلات بالغة العنف، أن نرى فرانك ريكارد يبصق على رودي فوللر، أن نتابع البلغاري ستويشكوف (كان من نجومي المفضلين) يحتج صارخاً على الحكام، بل يضربهم، ويتصرف كبلطجي أكثر منه رياضي، أن نتسامح مع «غش» مارادونا، إذ يسجل هدفاً بيده في مرمى إنكلترا، لكن أن نشاهد، لاعباً يبكي هكذا بحرقة كطفل ضاع من أمه في الزحام، كان أمراً مختلفاً. صحيح أن مارادونا بكى بدوره، عندما خسر فريقه المباراة النهائية أمام ألمانيا أيضاً في البطولة نفسها، إلا أن بكاء جازا كان شيئاً آخر، كان بكاءً طفولياً مع لمسة أنثوية غامضة. كان «جازا» جديداً على النجومية العالمية، ولم نكن نعرف الكثير عن حماقاته، التي تضاعفت مع موجة الهوس به بعد مونديال 90، لم نكن نعرف مثلاً أنه يُوصف ب»جورج بيست لكن من دون عقل»، في إشارة للاعب أيرلندا الشمالية الأسطوري الذي دمرته الشهرة الهيستيرية. (آخر أخبار جازا أنه مفلس وبلا مأوى حالياً، كما حاول الانتحار أكثر من مرة، لكن تلك قصة أخرى). صعود الmetrosexual وإذا كانت دموع جاسكوين قد مثلت تعريفاً مختلفاً لذكورية لاعب الكرة القدم، فإن إنكليزي آخر، قدّم نقلة حقيقية في مفهوم الجاذبية الجنسية، بل وفي صورة لاعبي الكرة بشكل عام، وأقصد به ديفيد بيكهام الذي يعد المثال الأهم لنموذج ال metrosexual، وهو مصطلح ظهر للمرة الأولى في مقال لمارك سيمبسون في الاندبندنت عام 1994، غير أنه لم ينتشر بقوة عالمياً إلا عندما ربطه سيمبسون في مقال آخر عام 2002 بديفيد بيكهام. ويعني به سيمبسون نوعية من الرجال بالغي الإهتمام بمظهرهم الخارجي، ممن يعيشون في مدينة صناعية كبرى حيث المراكز التجارية الفخمة وأماكن اللهو المتنوعة، ويتسمون بالثراء الشديد، والبذخ في الإنفاق بشكل عام، وعلى المظهر بشكل خاص. يحمل ال metrosexual النموذجي وفقا لسيمبسون الكثير من السمات التي ارتبطت طويلا بالمثليين، لكنه ليس مثلياً بالضرورة. ربط المصطلح ببيكهام دفع الكثيرين لتبنيه، وبوصفه الmetrosexual الأبرز في عالمنا المعاصر، قدم لاعب مانشيستر يونايتد وريال مدريد السابق نموذجاً جديداً لذكورة كروية ناعمة، تحولت إلى صرعة فتحت الباب على مصراعيه أمام تيار كامل من نجوم كرة القدم الmetrosexual لعل أبرزهم البرتغالي كريستيانو رونالدو الذي حل بيكهام كمثال لهذا النوع من الجاذبية الجنسية، تماما كما حل محله ليكون الموديل الجديد للملابس الداخلية ماركة أرماني، التي يظهر، في الإعلان الجديد لها، أشبه بإله إغريقي في بوسترات ضخمة تنتشرعبر معظم دول أوروبا. انتشار هذه الصرعة، دفعت البعض للتساؤل، أين ذهبت الرجولة الصلبة للاعبي كرة القدم؟ واستفزت آخرين كي يكتبوا عن عدم وجود أي جاذبية جنسية في الmetrosexula. مع هؤلاء اللاعبين وآخرين قبلهم، تكون كرة القدم قد حلت محل السينما في مد العالم بنماذج الرجولة والجاذبية الجنسية محيلة إياها (أي السينما) إلى التقاعد ولو مؤقتاً. غير أن ثمة اختلافاً أساسياً، ففي السينما يمكن أن نجد ممثلين استمروا في صدارة النجوم الأكثر جاذبية لسنوات عديدة دونما امتلاك مواهب لافتة، أما في كرة القدم تصبح الموهبة شرطاً لازماً للجاذبية الجنسية، فاللاعب محدود الإمكانات أو حتى متوسطها، يفقد الكثير من مقومات جاذبيته، فلو لم يكن لويس فيجو، تيري هنري، باولو مالديني، فرانك ريكارد، زين الدين زيدان وغيرهم، لاعبين ممتازين، لما أصبحوا هؤلاء الرجال الجذابين. كانوا سيتحولون في الحال إلى أشخاص بليدين وجودهم غير مبرر في المستطيل الأخضر. هذا الحديث عن الجاذبية ودور كرة القدم في تحديدها يصبح غير ذي معنى في حالة أساطير اللعبة وفلتاتها. دييغو مارادونا على سبيل المثال، لا يمكن التعامل معه وفق المنطق السابق. هو مارادونا وكفى. امتلك منذ البداية كل ما يلزم كي يتحول إلى أسطورة: موهبة لن تتكرر بسهولة، حياة صاخبة تقترب من التراجيديا الإغريقية، وقبل كل شيء ترسانة من الأخطاء والشطط. ترسانة لم تفلح في هز مكانته في قلوب المغرمين به، لدرجة أنه عندما تم منعه من اللعب، توجه 2000 بنغلاديشي غاضب نحو داكا وهم يهتفون ستحترق داكا إذا لم يُسمح لمارادونا باللعب، كما هدد آخرون بأنهم سيقومون بحرق منطقة وست إند في لندن من أجله. ولا يزال ال»دييغو» قادراً على سرقة الأنظار حتى الآن رغم اعتزاله منذ سنوات، ورغم مهاراته التدريبية المشكوك فيها. بتحركاته كمدرب وهو يتابع لاعبيه ويرشدهم، وبالساعتين في معصميه يقدم عرضاً موازياً للعرض الدائر داخل أرض الملعب. أبطال ومحاربون فيما يخص كرة القدم ثمة تمثيلات للذكورة تسود أكثر من غيرها، وتساعد وسائل الإعلام تحديداً على نشرها والإلحاح عليها، لعل أبرزها، كما جاء في دراسة صادرة عن جامعة سنغافورة، الرجل فائق الذكورة «El Macho»، والمحارب، والبطل، وجميع هذه التمثيلات تصب في قالب ذكورة قوية جديرة بالاحترام. وفق صورة الرجل فائق الذكورة يتم تصوير لاعب الكرة عادة على أنه قوي، ماهر، ناجح، شجاع، سوي جنسيا، يظهر عادة مع زوجة/ صديقة مثيرة وجذابة. طبعا النجوم ال metrosexual، والنجوم الباكون «تزايدوا كثيرا بعد جاسكوين»، يمثلون استثناءً لهذه الصورة، غير أن الاستثناء ليس على إطلاقه، لأن هؤلاء يلعبون في الملعب، كما هو مفترض بالقوة و»الرجولة» المتوقعة منهم. صورة المحارب من بين الصور التي تفضلها وسائل الإعلام للاعبي كرة القدم، إذ تظهرهم عبرها متسمين بالقوة، العنف، والبطولة القومية. باختصار هم نماذج عازمة على التضحية، ومكابدة الألم، في سبيل المجد الوطنى. إلا أن الصورة الأكثر شيوعاً هي صورة البطل، وأبرز أمثلتها نجوم مثل زين الدين زيدان، جورجن كلينسمان ومايكل بالاك. نطحة زيدان في صدر الإيطالي ماتيرازي يمكن النظر إليها وفق هذا التصور علامة على بطولة ذكورية هدفها الدفاع عن كرامة أخته أو أمه (لا أتذكر بالضبط) التي أهانها الخصم الإيطالي. لكن بعيدا عن كل هذا، يروق لي، في النهاية، استحضار جملة لاعب المنتخب الإنكليزي في الثمانينيات جاري لينيكر التي يُعرّف بها اللعبة الأهم عالميا: «كرة القدم لعبة بسيطة، 22 لاعبا يركضون خلف الكرة على مدى 90 دقيقة، وفي النهاية يفوز الألمان»! وبداية الألمان في هذا المونديال قوية، وتُذّكر بآدائهم في مونديال إيطاليا عام 90. كاتبة من مصر